رد : الملك الضليل امرؤ القيس بن حجر الكندي
كُتب : [ 06 - 04 - 2008 ]
بسم الله الرحمن الرحيم
امرؤ القيس أول من وقف علي الأطلال :
هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو الكندي ، ولد بنجد نحو سنة 501 م وكان ذا منيتٍ عربيٍ عريق ، من قبيلة كندة اليمنية ، أمه أخت كليب ومهلهل ابني ربيعة من عدنان . و أبوه حجر بن الحارث الكندي كان ملكاً على بني أسد ، فساءت سياسته فيهم واستبد بهم فثاروا عليه وقتلوه ، وقضى أمرؤ القيس بقية حياته بين ثأر لأبيه وعمل على استرداد ملكه . واختلف في تاريخ وفاته ، فذكر بعض المؤرخين أنه توفي عام 540م وذهب فريق آخر إلى أنه توفي عام 530 . ويكنى أمرؤ القيس على ما ذكر أبو عبيدة " أبا الحارث ". وقال غيره يكنى " أبا وهب " وكان يقال له " الملك الضليل " وقيل ايضاً " ذا القروح ". وإياه عنى الفرزدق الشاعر الأموي بقوله :
وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا
= وأبو يزيد وذو القروح وجرول
قصة حياته :
نشأ امرؤ القيس نشأة ترف وشب في نعيم ، وأخذ يقول الشعر ، وقيل أن المهلهل خاله لقنه هذا الفن ، فبرز فيه على شعراء عصره ، وكان مع صغر سنه يحب اللهو ، ويستتبع صعاليك العرب ، ويتنقل بين أحيائها وقيل إن أول شعر نظمه قوله :
أذود القوافي عني زيادا
= زياد غلام جريء جوادا
فبلغ قوله والده ، فغضب عليه لقوله الشعر - وكانت الملوك تأنف من ذلك - ودعا مولى له يقال ربيعة ، فقال له : " اقتل امرؤ القيس ، واثتنى بعينيه " فذهب ربيعه وذبح جوذرا وأتاه بعينيه فندم حجر على ذلك ندماً شديداً ، فقال له ربيعه : " أبيت اللعن واني لم أقتله ". قال : فائتني به . فانطلق ربيعه ليبحت عنه فوجده ينظم الشعر على رأس الجبل ويقول :
فلا تتركني يا ربيع لهذه
= وكنت قبلها بك واثقا
وصاحبه ربيعة الى أبيه ، فنهاه عن قول الشعر ، بيد أنه لم يطع أوامره ، فاضطر والده الى طرده من المنزل ، والحقيقة فقد كثرت الروايات حول سبب غضب حجر بن الحارث من إبنه امرؤ القيس حيث يقال أيضاً أنه راح يعاقر الراح ويغازل النساء ويعشق اللهو ، فأطلق العنان لنفسه في المجون ، فحاول أبوه أن يردعه ، فلم يرتدع ، فطرده من بيته . وما يهمنا هنا أنه طرد من بيت أبيه لغضبه عليه , فهام على وجهه في الفلاوات وأخذ يتنقل من مكان إلى مكان ، ويقف عند الغدران أو يعرج على احدى الرياض ، أو يعرج على موضع من مواضع الصيد ، فينطلق مع أصحابه - من العرب الذين يرتادون الرياض ويلعبون ويعاقرون الخمرة ويصيدون - خلف ظبية من الظباء .. حتى إذا ما أضناه التعب ، جلس تحت دوحة أو إلى جانب غدير ، وجعل يترنم مع أصحابه بشتى الأشعار ، وهم يتساقون كؤوس الراح . وما زال يعيش هذا اللون من حياة العبث والطيش مع أصحابه وأخلاطه من شذاذ العرب من طيء وكلب وبكر بن وائل ، حتى بلغ به الترحال – كما يقال - إلى الشّام وهناك حملت له الأخبار خبر قتلِ أبيه حجر بن الحارث على يد علباء الباهلي من قبيلة بني أسد الذين ثاروا عليه لشدته واستبداده بهم ، فهب امرؤالقيس و قال قولته المشهورة : " ضيعني صغيرا ، وحمّلني دمه كبيرا ، لا صحو اليوم ولا سكر غدا ، اليوم خمر وغدا أمر "، وحلف على نفسه ألاّ يأكل لحما ولا يشرب خمرا حتى يقتل من بني أسد مائة ويحزن مائة آخرون . ورحل امرؤ القيس يسنتصر القبائل للأخذ بثأر أبيه من بني أسد ، فطلب العون من قبيلتي بكر وتغلب فأعانوه وأوقعوا ببني أسد ، وقتلوا بعض منهم ، واكتفوا بذلك ، ولكن امرأ القيس لم يكتف ، فتركوه وحيدا أمام غضب بني أسد ، فقضى فترة من الوقت متخفيا في اليمن ونجد والحجاز وهو يستنجد القبائل للأخذ بثأر أبيه ، فأعرضت عنه بعض القبائل .. بيد ان السموءل - صاحب حصن الأبلق - أجاره وأمده ببعض العون ، ثم طلب منه امرؤ القيس أن يكتب إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ليوصله الى قيصر الرّوم في قسطنطينية ، فيكون له منجدا . ففعل السموأل ذلك ، وسار امرؤ القيس الى الحارث ، وحمل أهله وماله وأودعهم عند السموءل ، ثم سيره الحارث الى قيصر . وفي ذلك يقول :
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
= وأيقـــن أنا لاحقــان بقيصرا
فـقــلـت له : لا تبك عينك انما
= نحاول ملكا أو نموت فنعــذرا
غادر امرؤ القيس تيماء – أرض السموأل - إلى القسطنطينية يريد القيصر يوستينيانوس ، ورافقه في سيرته الشاقة عمرو بن قميئة ، وكان من خدم أبيه ، وقد ثقلت بهم المسيرة إلى أن وصلوا القسطنطينية والتقى فيها بالقيصر ، فأكرم وفادته ووعده بالمدد والعدة . ولم يلبس هنلك طويلاً إلا واندس في قصر قيصر عليه بالوشايات ، وتختلف بعض المصادر حول ذلك , حيث أن هناك رواية أخرى تقول أنّ رجلاً من بني أسد - و كان أبوه قد قتل على يد امرئ القيس - كان يضمر الحقد له ، لذلك قرر الإنتقام منه ، فذكر للقيصر أن امرأ القيس كان يراسل ابنته ويواصلها .... وما يهمنا هنا أنه قد حدثت الوقيعة بين أمرؤ القيس والقيصر , فطلب القيصر من امرؤ القيس الرحيل ووعده بما يعينه علي الأخذ بثأر أبيه من بني أسد . ورحل بالفعل امرؤ القيس , وفيما هو في طريق العودة ، إذ برسل القيصر يحملون لأمرئ القيس هدية قيصر له حلة مسمومة منسوجة بالذهب ، وكتب القيصر إليه " إني أرسلت إليك حلتي التي كنت ألبسها ، تكرمة لك ، فإذا وصلت إليك فألبسها باليمن والبركة ، واكتب الي بخبرك من منزل إلى منزل ". واشتد سرور امرؤ القيس بها ولبسها في الحال ، فسرى في جسده السم الزعاف وتساقط جلده من أثر السم ، ولذلك سمى " ذا القروح ". وقال امرؤ القيس في ذلك :
لقد طمح الطماح من بعد أرضه
= ليلبسني مما يلبس أبؤسـا
فــلــو أنها نفـــس تمـوت جميعة
= ولكنها نفس تساقط أنفسا
ويقول ابن الكلبي : فلما وصل إلى بلدة من بلاد الروم تدعى " أنقرة " احتضر بها ورأى قبرا دفنت فيه امرأة من أبناء الملوك فقال :
أجارتنا أن الخطوب تنوب
= وإني أقيم ما أقام عسيب
أجارتنا أنا غريبان ههنا
= وكل غريب للغريب نسيب
كما زعم بعض المؤرخين ان اسم " عسيب " الذي ورد في البيت الأول جبل بالقرب من أنقرة ، في حين ذهب آخرون الى انه الجبل المعروف بهذا الاسم في نجد . وقد توفي الشاعر في أنقرة بين عامي 530- 540 للميلاد .
شعره :
يعتبر امرؤ القيس من أشهر الشعراء الجاهليين وذلك لكثرة ما تميّز به شعره وأعماله ، فشعر امرئ القيس نموذج رفيع للشعر العربي في الجاهلية . قال الفرزدق : " امرؤ القيس أشعر الناس " وقال أبو عبيدة : " أشعر الناس امرؤ القيس ، ثم زهير ، والنابغة ، والأعشى ، ولبيد ، وعمرو ، وطرفة ". ويمتاز شعره بروعة المعاني وحلاوة التمثيل ، وجمال الصور ، واشراق الديباجة . ويقال ان الشعر بدئ بامرئ القيس لأنه أول من قصد القصائد وهو أول من وقف على الأطلال واستوقف عليها ، وبكى من ذكر الأحبة ، وذرف الدموع على الأيام الخوالي ، وأول من وصف الليل والخيل والصيد . وقال أبو عبيدة معمّر بن المثنى : من فضله أنه أول من فتح الشعر واستوقف ، وبكى الدمن ووصف ما فيه ، وهو أول من شبّه الخيل بالعصا والسباع ، والظباء والطير ، وهو أول من قيد الأوابد في وصف الفرس ، وهو أول من شبّه الثغر بشوك السيال . ويعد الأسلوب القصصي من أبرز المميزات التي تحدد شعر امرئ القيس . وقد جرى عمر بن أبي ربيعة في الحجاز على نمطه ، ونسج على منواله . ومن أروع شعر امرئ القيس معلقته التي نظمها في وصف واقعة حدثت بينه وبين حبيبته وابنة عمه عنيزة بنت شرحبيل ، وهذه المعلقة هي إحدى القصائد التي قيل ان العرب بلغ من تعظيمهم إياها أن علقوها على أستار الكعبة ، ومن هنا سميت بالمعلقات . وفي ذلك يقول صاحب العقد الفريد : " وقد بلغ من كلف العرب به ( الشعر ) وتفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد ميزتها من الشعر القديم ، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة ، وعلقتها في أستار الكعبة . فمنه يقال مذهبة امرئ القيس ومذهبة زهير . والمذهبات سبع . وقد يقال لها معلقات ". وليس بين المؤرخين اختلاف في اعتبار قصيدة امرئ القيس من المعلقات . بل إنها على رأس المعلقات جميعا . وتعتبر معلقة امرؤ القيس من أسلم ما وجد من أعماله . وفي هذه القصيدة فقد وصف امرؤ القيس بشكل رائع البيئة من حوله . ومن أمثلة التصوير والوصف في شعره وصفه لليل حيث يقول :
وَلَيلٍ كَمَوجِ البَحرِ أَرخى سُدولَه
= عَلَيَّ بِأَنواعِ الهُمومِ لِيَبتَلي
فَقُلتُ لَهُ لَمّا تَمَطّى بِصُلبِهِ
= وَأَردَفَ أَعجازاً وَناءَ بِكَلكَلِ
أَلا أَيُّها اللَيلُ الطَويلُ أَلا اِنجَلي
= بِصُبحٍ وَما الإِصباحُ مِنكَ بِأَمثَلِ
فَيا لَكَ مِن لَيلٍ كَأَنَّ نُجومَهُ
= بِكُلِّ مُغارِ الفَتلِ شُدَّت بِيَذبُلِ
وفي وقوفه علي أطلال حبيبته وإبنة عمه عنبرة بنت شرحبيل , تبدأ معلقته بهذه الأبيات الرائعة :
قفا نبك من ذِكرى حبيب ومنزل
= بسِقطِ اللِّوى بينَ الدَّخول فحَوْملِ
فتوضح فالمقراة لم يَعفُ رسمهاَ
= لما نسجتْها من جَنُوب وشمالِ
ترى بَعَرَ الأرْآمِ في عَرَصاتِها
= وقيعانها كأنه حبَّ فلفل
كأني غَداة َ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَلّوا
= لدى سَمُراتِ الحَيّ ناقِفُ حنظلِ
وُقوفاً بها صَحْبي عَليَّ مَطِيَّهُمْ
= يقُولون لا تهلكْ أسى ً وتجمّل
وإنَّ شفائي عبرة ٌ مهراقة
= فهلْ عند رَسمٍ دارِسٍ من مُعوَّلِ
كدأبكَ من أمِّ الحويَرثِ قبلها
= وجارتها أمَّ الربابِ بمأسل
ففاضتْ دُموعُ العين مني صبابة
نزُولَ اليماني ذي العيابِ المحمَّلِ
ويمكنك الأطلاع علي معلقة أمرؤ القيس كاملة , كما يمكنك الإطلاع علي الشرح الكامل لهذه المعلقة . ولامرئ القيس شعر آخر غير هذه المعلقة التي تقع في ثمانين بيتا من البحر الطويل ، ومن هذا الشعر قوله في قصيدة :
اذ المرء لم يخزن عليه لسانه
= فليس على شيء سواه بخزان
وقد جرى هذا البيت مجرى المثل ، وذكر في مجالات الاستشهاد ، كما قال :
والله أنجح ما طلبت به
= والبر خير حقيبة للرجل
ومن أروع صورة قوله :
كأن عيون الوحش حول خبائنا
= وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
يقصد أن عيون الوحش الذي كان يصيده كانت متفرقة حول الخيام والمطايا كأنها الخرز غير المثقوب ، وهذا تشبيه جميل أشبه بتشبيه شوقي :
وترى الجماجم في التراب تشابهت
= بعد العقول تشابه الأصداف
ومن صوره الرائعة كذلك ، التي تنم عن ذوق مستحدث طريف قلما نجده عند غيره من الشعراء الجاهلين أو الإسلاميين قوله :
ويا رب يوم قد لهوت وليله
= بآنسة كأنها خط تمثال
وقوله أيضاً :
يضيء الفراش وجهها لضجيعها
= كمصباح زيت في قناديل ذبال
فهذا معنى جديد يدل عى شاعرية مرهفة . ولعل امرأ القيس كان من أشد الشعراء تعلقاً باللذة العاجلة والمتعة الطارئة ، فهو يريد أن ينهب اللذات سراعاً ، ويشرب كؤوس الحياة غداقاً قبل أن تعدو عليه المنون ، وتنشب فيه المنية أظفارها فقال :
تمتع من الدنيا فإنك فان
= من النشوات والنساء الحسان
هذا وقد طبع ديوان امرئ القيس في باريس مع مقدمة فيها ترجمته وأخباره عام 1836م ، وطبع في بمباي عام 1313ه . ونشر أغسطس مولر معلقته مع تعليقات وشروح باللغة الألمانية عام 1863م ، وترجمه إلى اللغة الروسية الأب جرجس مرقس ، ونشره في بطرسبرج عام 1889م وشرحه البطليموسي النحوي المتوفى عام 494ه ، وطبع للشرح بمصر عام 1282ه وتعرض لحياته المرزباني في كتابه " الموشح ". والآمدي في كتابه " المؤتلف " وابن نباتة في كتابه " سرح العيون ". وروى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب " الأغاني " طرفاً من سيرته وشعره . وقد طبع ديوانه تارة جملة واحدة وتارة نشرت المعلقة وحدها . وشرح التبريزي المعلقات السبع ، ونشر المستشرق الإنجليزي ف . ي . جونسون ترجمة إنجليزية لهذه المعلقات مع بعض الشروح كما ترجمها كذلك سير وليم جونز إلى اللغة الانجليزية ، ونشرت الترجمة في لندن . منقول وأنتم سالمون وغانمون والسلام .
|