عرض مشاركة واحدة
 
غير متصل
 رقم المشاركة : ( 1 )
خيَّال الغلباء
وسام التميز
رقم العضوية : 12388
تاريخ التسجيل : 01 - 03 - 2007
الدولة : ذكر
العمر :
الجنس :
مكان الإقامة : نجد العذية
عدد المشاركات : 20,738 [+]
آخر تواجد : [+]
عدد النقاط : 49
قوة الترشيح : خيَّال الغلباء is on a distinguished road
الأوسمـة
بيانات الإتصال
آخر المواضيع

التوقيت
Post الرؤية الإسلامية في نقد / معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه للشعر

كُتب : [ 26 - 08 - 2009 ]

بسم الله الرحمن الرحيم

الرؤية الإسلامية في نقد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه للشعر :-

من الخلفاء الذين عُرِف عنهم اهتمامٌ مذكور متميز بالشعر والشعراء الصحابيُّ الجليل، أمير المؤمنين / معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - فقد أُثِرت عنه مجموعة عامة من الآراء التي تفصح عن احتفال بالشعر، وتقدير لدوره، وإحساس بخطر الشعراء في المجتمع العربي بصورة خاصة .

ولا غرو في ذلك؛ فقد كان معاوية من الفصحاء الخطباء، الذين يُشار إليهم بالبنان، قال عنه ابن عساكر : " كان من الكتبة، الحَسَبَة، الفَصَحة "[1]، وذكره الجاحظ في الخطباء، وأورد قول / سعيد بن المسيب - وقد سُئِل : مَن أبلغ الناس ؟ - فقال : "رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل : ليس عن هذا نسألك، قال : معاوية وابنه، وما كان ابن الزبير دونهم، ولكن لم يكن لكلامه طُلاوة "[2].

وكان معاوية شاعرًا، وقد أُثِر عنه قريض كثير، منه قوله - وهو على رأي ابن رشيق لائق به، دالٌّ على صحة قوله -:-

إِذَا لَمْ أَجُدْ بِالحِلْمِ مِنِّي عَلَيْكُمُ
= فَمَنْ ذَا الَّذِي بَعْدِي يُؤَمَّلُ لِلحِلْمِ

خُذِيهَا هَنِيئًا وَاذْكُرِي فِعْلَ مَاجِدٍ
= حَبَاكِ عَلَى حَرْبِ العَدَاوَةِ بِالسَّلْمِ

وقوله :-

كَأَنَّ الجَبَانَ يَرَى أَنَّهُ
= يُدَافِعُ عَنْهُ الفِرَارُ الأَجَلْ

فَقَدْ تُدْرِكُ الحَادِثَاتُ الجَبَانَ
= وَيَسْلَمُ مِنْهَا الشُّجَاعُ البَطَلْ [3]

وقيل : إنه لما حضرته الوفاةُ جعل يقول :-

إِنْ تُنَاقِشْ يَكُنْ نِقَاشُكَ يَا رَبِّ
= عَذَابًا لاَ طَوْقَ لِي بِالعَذَابِ

أَوْ تُجَاوِزْ فَأَنْتَ رَبٌّ رَؤُوفٌ
= عَنْ مُسِيءٍ ذُنُوبُهُ كَالتُّرَابِ

وهي نماذج لا ينقصها التدفق والرونق، وتكشف عن منزع ديني، وشخصية وقور .

وأُثِرت عن معاوية أقوال نقدية تشي بخبرةٍ في فن الشعر، وتركَّز أغلبُها على بيان الوظائف المختلفة التي ينهض بها هذا الفن؛ فهو قول مؤثر، قادر - بما ينطوي عليه من خصائص جمالية مطربة - على الانسراب إلى نفس المتلقي، والتأثير فيها، وتحريضها على التفكير والتغيير، ومن ثَم يبدو أداة هامة لتربية النفس وتهذيبها، والسُّمو بها عن سفاسف الأمور، ودنيء الخِصال .

كتب معاوية إلى زيادٍ يحُثُّه على تعليم ابنه الشعرَ، ويأخذ عليه تقصيرَه في رعاية هذا الجانب الهام في تربيته وتثقيفه : " ما منعك أن تُرَوِّيه الشعر ؟! فوالله، إن كان العاق ليرويه فيبرُّ، وإن كان البخيل ليرويه فيسخو، وإن كان الجبان ليرويه فيُقاتل "[4].

وتحدَّث معاوية عن الدور الخلقي للشعر، فهو سجل للمفاخر والفضائل، وهو ديوان القوم، وحافظ آثارهم، قال في الحث على تعلمه : " اجعلوا الشعر أكبر همِّكم، وأكثر دأبكم؛ فإن فيه مآثر أسلافكم، ومواضع إرشادكم "[5].

وأفصح معاوية - في نقد الشعر - عن توجه ديني خلقي؛ فقد هجَّن ضروبًا من القول، رأى فيها مَنْقصة من قدر القائل وكرامته، كالتشبيب بالنساء، ومديح التكسب والهجاء، وما شاكلها، وقد تجلَّى ذلك في قوله لعبدالرحمن بن الحكم : " إياك والتشبيبَ بالنساء؛ فإنك تغرُّ الشريفة في قومها، والعفيفة في نفسها، وإياك والهجاءَ؛ فإنك لا تعدو أن تعادي كريمًا، أو تستثير لئيمًا، وإياك والمديحَ؛ فإنه كسب الأنذال "، ثم رخَّص له في قول الشعر الذي لا يخدش المروءة، فقال : " ولكن افخر بمآثر قومك، وقل من الأمثال ما توقِّر به نفسك، وتؤدِّب به غيرك "[6].

إن النزعة الدينية والخلقية واضحة في هذا النص، لقد نهى معاوية عن أغراض خسيسة في الشعر، وعلَّل ذلك تعليلاً خُلقيًّا، نهى عن التشبيب بالنساء؛ لما فيه من فحش، واعتداء على الأعراض، وفضح للحرمات، ولما فيه من إغراء بالرذيلة، واستبهار بالفاحشة .

ونهى عن الهجاء؛ فهو قذف، يزرع الحقد، ويولِّد العداوة والشحناء .

ونهى معاوية عن مديح التكسُّب؛ فهو كسب خسيس، كسب الأنذال الصغار، الذين يمتهنون الكلمة، ويتاجرون بالشعر، فيمدحون ظلمًا، ويُعظِّمون ذليلاً، غير مميزين حقًّا من باطل .

ولكن معاوية أذِن لعبدالرحمن من الشعر بما يدل على النبل والفضل، رخص له في تخليد المآثر، وتمجيد البطولة، وأن يقول في الحكمة والمثل ما يشعر بوقاره وحلمه .

كما استحسن معاوية - رضي الله عنه - نماذجَ من الشعر، وأطلق عليها أحكامًا نقدية تشعر بالتقدير، وعلى كون بعض هذه الأحكام غير معلل؛ بل هي من قبيل النقد الذوقي، لا يخطئ المتأمل أن يقع على معاييرَ معينةٍ يفيء إليها، وكان أبرزَها جديةُ المضمون، وانطواؤه على قيم رفيعة خيِّرة، كان معجبًا بأمثال قول / أبي النجم :-

لَقَدْ عَلِمَتْ عِرْسِي فُلاَنَةُ أَنَّنِي
= طَوِيلٌ سَنَا نَارِي بَعِيدٌ خُمُودُهَا

إِذَا حَلَّ ضَيْفِي بِالفَلاَةِ وَلَمْ أَجِدْ
= سِوَى مَنْبَتِ الأَطْنَابِ شَبَّ وَقُودُهَا [7]

وقول القائل :-

وَذُقْتُ مَرَارَةَ الأَشْيَاءِ طُرًّا
= فَمَا طَعْمٌ أَمَرَّ مِنَ السُّؤَالِ [8]

وبمثل قول / كعب بن مالك :-

نَصِلُ السُّيُوفَ إِذَا قَصُرْنَ بِخَطْوِنَا
= قُدُمًا وَنُلْحِقُهَا إِذَا لَمْ تَلْحَقِ [9]

وهي جميعًا نماذجُ خلقيةٌ تمثِّل الشعر الهادف، المعبِّر عن حكمة ومثل، وتدعو إلى قيم خيِّرة .

لقد كان إيمان معاوية بدور الشعر الثقافي، والحضاري، والتربوي إيمانًا عميقًا، فمَن حفظه، اتَّسع أُفقه، ونمت معرفته؛ إذ يوقفه على عوالمَ غنيةٍ، وأجواء بعيدة رحبة، وهو من عوامل الذكاء والفطنة؛ إذ فيه خلاصة تجارب الصفوة، والشعر للعرب ديوانها، وكتاب معرفتها، ومستودع ثقافتها، كما أن فيه أسرارَ لغتها، ودقائق لسانها؛ ولذلك كان فصيح الشعر - كما يقول معاوية -: " يفتِّح العقل، ويفصِّح المنطق، ويطلق اللسان "، وهو أعلى مراتب الأدب والثقافة؛ ولذلك أُثر عنه الحثُّ الطويل على تعليمه، وتأديب الطالب به، قال - رضي الله عنه -: " يجب على الرجل تأديب ولده، والشعر أعلى مراتب الأدب "[10].

وكان معاوية يدرك أن قدرة الشعر على تحقيق وظائفَ هادفةٍ خيرة في التهذيب، والإصلاح، والتثقيف - ترجع إلى ما فيه من إمتاع .

إن الشعر فن شائق جذاب، وهو - في موطن المقارنة بينه وبين النثر - أكثر متعة وألقًا، روي أن معاوية بن أبي سفيان لما حُمِل إليه / هدبةُ بن خشرم، وكان قتل / زيادة بن زيد - سأله : ماذا تقول ؟ فقال هدبة : أتحب أن يكون الجواب شعرًا أم نثرًا ؟ قال معاوية : بل شعرًا؛ فإنه أمتع، فأنشد هدبة ... "، وهكذا يؤمن معاوية - كما تنادي بذلك أبرز الآراء النقدية المعاصرة - أن الأدب عامة، والشعر خاصة فنٌّ يجمع بين المتعة والفائدة؛ أي : " ممتع مفيد ".

وتحدَّث معاوية عما يمتلكه الشعر من مقدرة على الديمومة والخلود؛ إذ إن أثره لا ينتهي بانتهاء قائله أو ذهابه؛ ولكنه يمتد في عقب الأجيال، فلا ينبغي لأحد أن يهوِّن من شأن الكلمة، أو يحقر مداها، إن الشعر يبقَى ويُبْقِي، ولذلك تحدَّثت العرب طويلاً عن دوره في تخليد مآثرها، وتدوين أمجادها وبطولاتها .

قال معاوية لابن الأشعث بن قيس : " ما كان جدُّك قيسُ بن مَعْدِ يكَرِبَ أعطى الأعشى ؟ فقال : أعطاه مالاً، وظهرًا، ورقيقًا، وأشياءَ نسيتُها، فقال معاوية - مشيرًا إلى ديمومة الأثر وخلود الكلمة - : " ولكن ما أعطاكم الأعشى لا يُنسَى "[11]؛ أي : ما قال فيكم من الشعر .

وهكذا صدر معاوية - رضي الله عنه - فيما أُثِر عنه من أقوال في الشعر عن منزع إسلامي واضح، منزع ناقد ذوَّاقة ملتزم، يرى في الشعر نشاطًا معرفيًّا جادًّا، فعَّالاً في تهذيب النفس وبنائها بناءً فكريًّا علميًّا .

ـــــــــــــــــــــــــ

[1] " مختصر تاريخ ابن عساكر "؛ لابن منظور، 25/ 123.
[2] " البيان والتبيين "؛ للجاحظ، 1/ 314.
[3] " نصيحة الملوك " 509، " بهجة المجالس " 1/ 478.
[4] " العقد الفريد " 5/ 274.
[5] " العمدة "؛ لابن رشيق 1/ 29.
[6] " العقد " 5/ 281.
[7] " بهجة المجالس " 1/ 296.
[8] " تاريخ الخلفاء "؛ للسيوطي، 203.
[9] " الأغاني " 16/ 234.
[10] " العمدة " 1/ 29.
[11] " الكامل "؛ للمبرد، 1/ 378.

من إعداد الدكتور / وليد قصاب . منقول مع خالص التحية وأطيب الأمنيات وأنتم سالمون وغانمون والسلام .



رد مع اقتباس