الموضوع: الشعراء والذئب
عرض مشاركة واحدة
 
غير متصل
 رقم المشاركة : ( 6 )
خيَّال الغلباء
وسام التميز
رقم العضوية : 12388
تاريخ التسجيل : 01 - 03 - 2007
الدولة : ذكر
العمر :
الجنس :
مكان الإقامة : نجد العذية
عدد المشاركات : 20,738 [+]
آخر تواجد : [+]
عدد النقاط : 49
قوة الترشيح : خيَّال الغلباء is on a distinguished road
الأوسمـة
بيانات الإتصال
آخر المواضيع

التوقيت
رد : الشعراء والذئب

كُتب : [ 04 - 03 - 2008 ]

بسم الله الرحمن الرحيم

* تأبّط شرّاً والذئب :

هو / ثابتُ بن جابر بن سفيان ، من بني فهم من مُضر بن نزار ، من أهل تهامة ، غلب عليه لقب " تأبّط شراً "، وهناك أقوال كثيرة في سبب هذا اللقب ، أشهرها أنّه تأبّط يوماً سيفاً وخَرَجَ ، فقيل لأُمّه : أين هو ؟ فقالت : تأبّطَ شراً وخرج ([1]).

كان تأبّط شراً من أشهر العدّائين وفتّاك العرب وصعاليكها في الجاهليّة ، وهو شاعرٌ مُجيد ، قُتلَ في بلاد هذيل نحو سنة 80 قبل الهجرة = 540 للميلاد ([2])

لتأبط شراً قصيدة تَقَعُ في ستة وثلاثين بيتاً ، خصّ الذئبَ منها بسبعة جاءت في آخر القصيدة ، تقول هذه الأبيات([3]) :

ووادٍ كجوف العير قفرٍ قطعتُهُ
= بهِ الذئبُ يعوي كالخليعِ المُعيَّلِ ([4])

تعدّى بزيزاة تَعجُّ من القَوا
= ومن يكُ يبغي طُرقَةَ الليلِ يُرمِلِ ([5])

فقلتُ لَهُ لمّا عَوى إن ثابتاً
= قليلُ الغِنى إن كُنتَ لمّا تَموَّل

كلانا إذا ما نالَ شيئاً أفاتَهُ
= ومن يحتَرِث حَرثي وحَرثكَ يُهزَلِ ([6])

كلانا طوى كشحاً عن الحيَّ بعدما
= دخلنا على كلاّبهم كُلَّ مدخَلِ ([7])

طرحتُ لَهُ نعلاً من السِّبتِ طَلّةً
= خِلافَ نَداً من آخر الليلِ مُخضَلِ ([8])

فَولّى بهِ جذلانَ ينفضُ رأسَهُ
= كصاحبِ غُنْمٍ ظافِرٍ بالتحوّلِ

يجيءُ هذا المقطع ليختِمَ قصيدة غير قصيرة بدأها الشاعِرُ بهجاءِ بعض البخلاء الذين نزلَ بهم ، وأقسَمَ ألا ينسى ما عاش صنيعهم وتقتيرهم ، ثُمَّ رسَمَ فيها رؤيته للحياةِ ، ولدوره فيها ؛ بانياً تلكَ الرؤيا على التمرّدِ والشجاعةِ والفتكِ والكرمِ عندما تدعو الحاجة ، والزهدِ بما يطلبُهُ الآخرونَ من متاعٍ ومالٍ ، وشرب الخمرة ، والثباتِ إزاء تقلّبات الدهر :

ولستُ بمفراحٍ إذا الدهرُ سَرَّني
= ولا جازعٌ من صَرفِهِ المُتَحوّلِ

ولكنني أروي من الخمرِ هامتي
= وأنضو الملا بالشاحبِ المُتَشلشِلِ ([9])

وأحتضِرُ النادي ووجهيَ مُسْفِرٌ
= وأضربُ عِطفَ الأبلخِ المتخَيَّلِ ([10])

ولكل هذا فهو يأنف أن يكونَ راعياً لقطيعٍ من الغنمِ يقتسِمُ مَعهُ الذُل والمهانة ، ويغدو كغرنوقٍ محدود وضعيف لا هَمَّ لَهُ إلاَّ الحلبَ والصَّر :

ولستُ براعي ثُلّةٍ قامَ وَسْطَها
= طويلِ العَصا غُرْنَيْقِ ضَحْلٍ مُرسِّلِ ([11])

وهو يرفضُ أن يكونَ ثرثاراً كثير الجَلبةِ كالريح الشديدةِ ، وليس بالتأكيد صخرةً جامدةً صَلدةً منعزلة عن تقديم الخير ، ولا جباناً ، ولا شرهاً مفرطاً في تناول الطعام . إلى غير ذلك من الصفات التي يصف نفسه بها . ثُمّ تُقدِّمُ لنا القصيدةُ ثلاثةَ مشاهدٍ تُمثّلُ مواقفَ يعتزَ بها الشاعر ، آخرها مشهَدُ عبورهِ وادياً . مُوحشاً مُظلماً مقفراً كجوف العير ، رافقهُ فيه ذئبٌ يعوي كرجلٍ ذي عيالٍ خلعته قبيلته ، ورمت به إلى الصحراء ، فلا هي تطلبُ بدمِهِ أحداً فيما لو قُتل ، ولا تدفَعُ عنه شراً ، أو تردّ عنه إن قتلَ أحداً . إنها العقوبة الأقسى في الجاهلية ، ومَنْ أكثر من تأبّط شراً وإخوانه الصعاليك الخُلعاء يقدّرُ هذهِ العقوبة حق قدرها ؟؛ لقد كان عواء هذا الذئب يفصح عن حزنٍ وألمٍ شديدين لا يَعْدلُهما إلا ما يعانيهِ رجلٌ مخلوعٌ ؛ صعلوكُ تبّرأت منهُ قبيلته ورمت بهِ إلى الصحراءِ لقد قطعَ هذا الذئب أرضاً وعرةً شاقةً غليظة ، تكادُ لخلوِّها الشديدِ من المخلوقاتِ الحيّةِ تبدو عَاجّةً بالأصواتِ الغريبة ، إنّهُ جائعٌ تَعِبُ ، شأن من ذَهَبَ هذا المذهب في الخروج ليلاً ، لكنّهُ لم يوفّق إلى الرجل الذي يَقْدِرُ على مساعدته . فثابتُ بن سنان فقيرٌ مُرمِلٌ ، وهاهو ذا يعلنُ له ذلك ، ويقولُ لَهُ لقد وقعتَ على شبيهكَ تماماً ، فكلانا ينفقُ ما يحصلُ عليه ، أو يضيّعه ، وهو قليلٌ أصلاً ، فلن يُدرِكَ مُرادَهُ من يرجو منّي أو منكَ عطاءً ، وسيصابُ بالهزال ، ونحن شبيهان أيضاً في إعراضنا عن الحي البخيل ، الذي تَهُرُّنا كلابُهُ كلّما حاولنا أن ندخُلَه ، دون أن يزجُرَها كلابها ( أي صاحبها وسائسها )، بل لعلّه يدفعها إلى ذلك متناسياً أنّ هرير الكلب على الضيف عيب أيّما عيب؛ ألم يقل الشاعرُ العربي القديم ([12]):

إذا ما بخيلُ الناس هَرّت كلابُهُ
= وشقَّ على الضيفِ الضعيفِ عَقورُها ([13])

فإني جبانُ الكلبِ بيتي مُوَطّأٌ
= أجودُ إذا ما النَّفْسُ شَحَّ ضميرُها

وربَّ راءٍ يرى هنا أن تأبّط شراً يقولُ للذئب نحن شبيهانِ في خروجِنا على حَيّينا بعدما نالنا كالذي نالنا منهما ، انطلاقاً من أن الشاعِرَ أحدُ الصعاليك الذين خلعتهم قبائلهم ، لكنني أرجّح الوجَه الأوّل للمعنى استناداً إلى مقدّمةِ القصيدة التي هجا فيها الشاعر مجموعةً من البخلاء الذين لا يستضيفهم أحد إلا رَجَعَ خائباً ذاماً لهم ، وعندها يمكن أن نفهَمَ البيتين الأخيرين من القصيدة :

طرحتُ لَهُ نعلاً من السِّبتِ طَلّةً
= خلافَ نداً من آخر الليل مُخضِلِ



فولّى بهِ جذلانَ ينفضُ رأسَهُ
= كصاحبِ غُنمٍ ظافِرٍ بالتحوّلِ

انطلاقاً من السخرية المريرة التي ترافِق الخيبة ، فكلاهما ( الصعلوك والذئب ) عاد خائباً من رحلته ، وعَزّ على تأبّط شراً ، أن يترك ذئبه دون أن يقدّمَ له شيئاً ولو من قبيل المواساةِ ؛ وماذا يمكن لهذا الخليعِ المُرمِل أن يقدّمَ لصاحبِهِ ؛ قوسَهُ ؟ سيفَه ؟ نبلَهُ ؟ بالتأكيد لا ! إذاً فسيرمي له فردةَ حذاءٍ مصنوعٍ من جلدٍ ما ، لَعلّ فيه بعدُ شيئاً من رائحةِ وطعم الحيوان الذي سُلِخَ عنه ، فانصرفَ الذئبُ فرحاً مسروراً بما نالَهُ ، كمن حَظيَ بغُنمٍ كبير ، وهي صورة تذكّر بما رسَمَهُ المرقش الأكبر لذئبِهِ العائد بِخُزَّةٍ من شوائِه !

إن الناظِرَ في صورة الذئبِ عند الشعراء الصعاليك يلاحظ كيف " يتخذُ مشهد الحيوان في شعرِ هؤلاء نهجاً مُغايراً لغالبيّة مناهجِ الفن الشعري عند الجاهليين لإختلاف مفهوم حياة التبدي لديهم . ويستطيعُ مشهدُ الحيوان دون غيرهِ أن ينقُلَ إلى الأجيالِ ذلكَ المفهوم الاجتماعيَ ؛ لأن حياتَهم مثلُ حياتِه . فكما تتآلفُ الذئابُ على الفريسة تآلفتِ المنفعَةُ بين أفراد من القبائل ، وتوحّدت أهدافهم ومقاصدهم كالسلبِ والنهب وتهديد حياة الآخرين ؛ لا يسلمُ من شرّهم غابرٌ أو قاطن ، فرد أو جماعة . وقد ازداد خطرَهم حينما انتقلَ أسلوبهم من الإطار الفردي إلى الأسلوب الجماعي ، مثلهم في ذلك مثل الذئاب والحيوانات المفترسة التي تهدد من هو ضعف منها " ([14])

وإذا كانت صورة الشاعِر يرمي للذئبِ قطعةً من زادهِ ، أو يعتذرُ لَهُ من قِلّة ، أو ما شابه قد وردت عند بعض الشعراء العرب ، فإنها عند الشعراء الصعاليك تصبحُ ما يشبه الطقس الحياتي ، وتصبحُ رمزاً للكرمِ وإيثار الآخر المتوحش على النفس ، تصبحُ أيضاً رمزاً للشجاعة ، فهاهو ذا شاعِرنا نفسه يمتدحُ شمسَ بن مالك على اقتسامِهِ الطعام مع الذئب ([15]) :

لطيفُ الحوايا يقسِمُ الزادَ بينَهُ
= سواءٌ وبينَ الذئبِ قَسْمَ المُشارِكِ ([16])

يَظلُّ بموماةٍ ويُمسي بغيرِها
= جِحِيشَاً ويَعْرَوري ظَهورَ المهَالِك ([17])

إذا خاطَ عينيه كرى النوم لم يَزَلْ
= لهُ كالئٌ من قلبِ شيحانَ فاتِكِ ([18])

ولا يتوقّف الأَمرُ عند اقتسام الزاد بل يرمي الصعلوك بنفسِهِ إلى مجتمع الوحشِ فاراً من مجتمع البشر ـ كما رأينا عند الشنفرى ـ وتنعقدُ أواصِرُ صداقةٍ " بين الذئبِ والصعلوك وكلاهُما حَذرٌ حديد القلب ، يقظٌ ما عاش ، وتصبح الألفة بينَهما أقرب من التآلف البشري في آمالها وآلامها " ([19]) كقول تأبّط شراً يتحدّث عن نفسِهِ وإخوانِهِ :

يبيتُ بمغنى الوحشِ حتى أَلِفْنَهُ
= ويُصبحُ لا يحمي لها الدَّهَرَ مَرْتَعَاً ([20])

على غِرَّةٍ أو جَهْرَةٍ من مُكَانِسٍ
= أطالَ نِزالَ الموتِ حتّى تَسَعْسَعَا ([21])

رأينَ فتىً لا صَيْدَ وحشٍ يُهِمُّهُ
= فلو صَافحتْ إنساً لصَافَحَنَهُ مَعَا

لقد أصبحَ الشاعرُ واحداً من هذهِ الوحش يبيتُ في بيوتِها ، ولا يمنعُ عنها مرعىً فأمنت إليه وقد رأتُهُ لا يرغبُ ، بل لا يفكّر في اصطيادِها ، وحتى أن الآدميَ إذا ما نظرَ إلى الوحوشِ والشاعرُ بينها ، ما مَيَّزهُ عنها ، ولو اقتربت من إنسيٍ مُصافحةً ، لكان واحداً منها ، يقتربُ من البشِرِ كفردٍ من بين الوحش !؛ إن هذه الحالة شاهدناها عند الشنفرى أيضاً ، يومَ أصبَحَ واحداً من الوعولِ وانضمّ إليها بشكلٍ نهائي . باتِراً كل صلةٍ بينَهُ وبينَ بني البشر .

*مالك بن الريب والذئب :

كانَ / مالك بن الريب المازني من الفتّاك اللصوص ، نشأ في باديةِ بني تميم في البصرة ، وهو من شعراء الإسلام في أوّل أيام بني أميّة . ومن القصائد التي كانَ الذئبُ موضوعاً أساساً فيها قصيدةٌ لهذا الشاعِرِ الفاتك ، قالها على ما يبدو قبلَ أن يَستَصْحبه سعيدُ بن عثمان بن عفّان إلى خُراسان . يروي صَاحب ُالأغاني أنّ مالك بن الريب كانَ نائماً في بعضِ مفازاتِهِ ، فأحسَّ بذئبٍ يحوّم حوله ، فزجَرَهُ ، فلم يزدَجر ، فأعادَ ، فلم يبرَح ، فوثبَ إليهِ بالسيفِ ، فضرَبهُ فقتله ، وقالَ قصيدته ([22]) :

أذئبَ الغضا قدْ صرتَ للناسِ ضُحك
= تفادى بكَ الركبان شرقاً إلى غربِ

فأنتَ وإن كنتَ الجريءَ جنانُهُ .
= منيتَ بضرغامٍ من الأُسُدُ الغُلْبِ

بمن لا ينامُ الليل إلا وسيفُهُ
= رهينة أقوامٍ سِراع إلى الشَغْبِ

ألم ترني يا ذئبُ إذْ جئتَ طارقاً
= تُخاتُلني أني أمرؤٌ وافِرُ اللُبِّ

زجرتُكَ مَرّاتٍ فلمّا غلبتني
= ولم تنزجر نهنهتُ غربَكَ بالضربِ ([23])

فصرتَ لُقىً لما علاكَ ابن حُرّةٍ
= بأبيضَ قَطاعٍ ينجّي من الكربِ

ألا رُبّ يومٍ ريبَ لو كنتَ شاهداً
= لهالكَ ذكري عند معمعةِ الحربِ

ولستَ ترى إلا كميّاً مُجدلاً
= يداهُ جميعاً تثبتانِ منَ التُربِ

وآخر يهوي طائر القلب هارباً
= وكنتُ امرأً في الهيجِ مُجتَمِعَ القلبِ

أصولُ بذي الزّرينِ أمشي عِرْضَنةً
= إلى الموتِ والأقرانُ كالإبلِ الجُربِ ([24])

أرى الموتَ لا أنحاشُ عنهُ تكرُّماً
= ولو شئتُ لم أركبْ على المركبِ الصعبِ

ولكن أبت نفسي وكانت أبيّةً
= تقاعَسُ أو ينصاعُ قومٌ من الرُعبِ

من الواضحِ تماماً أن هذا النص واحدٌ من نصوصٍ قليلةٍ جداً يُقدِمُ الشاعرُ فيها على قتل الذئب ، وكان من قبلُ ؛ وفي نصوص شعراء الجاهلية لا يَرى فيهِ إلا رفيقَ طريقٍ أو ضيفاً على زاد ، ضيفاً خطِراً ربّما ، ولكن لم يصل الأمرُ بأحدهم أن قتله كما فَعَل مالك وكما سيفعل البُحتُري بعدَ ذلكِ بزمنٍ طويل ، ورأينا أن بعض شعراء الجاهلية رأوا أنفسهم في هذه الذئاب الجائعة العطشى والشرسة ، وأحسّوا أنها ضحيّة قسوة الصحراء مثلهم تماماً ، فما الذي تبدّل ليقتلَ الشاعِرُ ذئبه . هل الأمرُ دليلٌ على تغيّر القيم الأخلاقيّة في الصحراء مع تغيّر المعتقداتِ المختلفةِ والعادات ؟ أتغيّرَ معنى الفروسيّة ومفاهيمها بينَ الجاهليةِ والإسلام ؟ أم أن الشاعر بدأ يبتعد عن الطبيعة فيعيش في البيوت الفارهة وقصور الخلفاء والملوك فانقطعَ تواصلُهُ مع البيئة ، وصارَ يستشعر الخطَرَ في حيواناتِها وكائناتِها على عكسِ الشاعر الجاهلي من قبله ؟

هي إذاً جملة من التساؤلات سنتركُ الإجابة عنها إلى خاتمة البحثِ بعد أن نتعرّفُ إلى نصوص أخرى قد تُغني الفكرة .

مالكُ بن الريب يُصرّح في بداية قصيدته أنّه لم يكن يرغب بقتل الذئب ، لقد زجره مَرّاتٍ ومَرّاتٍ فما ازدجر ، وظنَ بصاحبه ضعفاً ، وربّما فكّر بهِ كفريسةٍ سهلة المنال ، فإذا بالشاعِرِ يُضطرُّ لإثباتِ العكس ؛ إنّهُ " ضرغامٌ من الأُسدُ الغُلبِ "، وهو شديدُ الحذر واليقظة ، فنومُهُ خفيفٌ جداً ، وسيفُهُ دائماً ضجيعُهُ لا يبتعدُ عنه وبالتالي فقد جَعَلَ الذئب من نفسهِ أضحوكةً تفادى بها الركبانُ بسبب رعونتِهِ وتهوّرِهِ ، على أن للشاعر بالرغم من ذلك لم يُُقلّل من شأن خصمِه ـ على عادةِ كثيرٍ من الشعراء العرب القُدامى ـ فَوَصَفَهُ بالشجاعة وجرأةِ الجنان ؛ كي لا يجعَلَ من انتصارِهِ عليهِ أمراً بخساً ، ثُمّ استثمّرَ هذهِ الحادثة الواقعيّة ليتحدّثَ عن أيامِهِ وانتصاراته ( الأبيات: 7 ـ 12 )؛ فلو قُدِّرَ للذئبِ المقتول أن يشهد الغزوات ، التي غزاها الشاعِرُ الفاتك لهالَهُ مَنظَرُه ، وسطَ المعمعة ، ولرأى بطلاً يجولُ بسيفِهِ ذي الحدين بخيلاء ، غير حافِلٍ بالموتِ المُترّبص بهِ ، فيجندل الفرسان والكُماة ، ويعفّر وجوههم بالتراب ، فيهرُبُ من يهرب طائر القلب ، فيتعثّر ، ويقع ، وما إلى ذلك من المشاهد التي يصفها مُخاطباً الذئبَ القتيل ، والتي لا تضيفُ ـ على العموم ـ شيئاً جديداً إلى ما قرأناه عند عنترة العبسي وعَمْرو بن كلثوم وغيرهما من الشعراء الفرسان .

*الفرزدق والذئب :

هو / همام بن غالب بن صعصعة التميمي الدرامي ، اشتُهِرَ بالفرزدق لغلظِهِ وقصِره . روى صاحبُ الأغاني ([25]) أن جد الفرزدق كان عظيمَ الشأن في الجاهلية ، وقد أحيا أكثر من ثلاثمئة موءودة من مالِه ، وأبوه غالب سيد بادية تميم وهو من الأجواد الأشراف ، أما الفرزدق فقد نشأ في قومِهِ شريفاً كريماً كأبيهِ وجدّه .

أوتيَ الفرزدقُ " حساسيّةَ شاعرٍ يعيشُ في الشعرِ ولا ينظمُهُ فقط، ولذلك امتازت قصائِدُهُ بالصدقِ والحرارة مع مضامين اجتماعيّةٍ مرتبطة بشخصيّة شاعر من طرازه . وكان عظيم الشأن في اللغة فقيل : لولا شعر الفرزدق لذهبَ ثلث لغة العرب ، ولولا شعره أيضاً لذهبَ نصف أخبار الناس ([26]) ".

توفي الفرزدقُ في بادية البصرة عام 110 للهجرة = 728 للميلاد عن مئة عام تقريباً ([27])

ذكَرَ الفرزدق الذئبَ وصَوّرُهُ في مشهدين مختلفين ، جاءً الأوّل في مقطوعة سينيّة مؤلفة من ستة أبيات ، والثاني ضمن قصيدةٍ طويلة مؤلفة من سبعة وأربعين بيتاً ، خَصَ الشاعر الذئبَ فيها بثمانية أبيات . وأعتقدُ أن الشاعِرَ في القصيدتين قَدّمَ مشهداً واقعياً واحداً ، أو بتعبيرٍ آخر نستطيع أن نكتشف أن خلفَ المشهدين الشعريين حادثة واحدة قُدّمتْ مرتين وبطريقتين مختلفتين نسبيّاً ، لنقرأ القصيدة الأولى ([28]) :

وليلةَ بتنا بالغريينِ ضافنا
= على الزادِ ممشوقُ الذراعينِ أطلسُ ([29])

تلمّسنا حتى أتانا، ولم يزلْ
= لدُنْ فَطَمَتْهُ أُمّهُ يتلمّسُ

ولو أنّه إذ جاءنا كانَ دانياً
= لألبستُهُ لو أنَّهُ كان يلبِسُ ([30])

ولكن تنحّى جنبَةً ، بعدما دنا
= فكانَ كقيد الرُمح بَلْ هو أنفسُ ([31])

فقاسمتُهُ نصفين بيني وبينَهُ
= بقيّة زادي والركايبُ نُعَّسُ ([32])

وكان ابنُ لليلى إذ قرى الذئبَ زادَهُ
= على طارق الظلماء لا يتعبّسُ ([33])

تقولُ الأبياتُ إن الشاعِرَ باتَ بالغريينِ ليلةً ، فضافَهُ ذئبٌ ممشوقُ الذراعين أغبر اللون إلى سواد ، ذئبُ فتيٌ تلمّسَ طعاماً ، فقادته حاسة الشمِ إلى الفرزدق ، وقد شرعَ بتناولُ طعامَه ، وحين نظرَ الشاعِرُ مليّاٍ إلى ضيفِهِ ـ وربّما كان الفصلُ شتاء ؛ أو هي ليلةٌ باردة ـ تمنّى لو يقتربُ الذئب قليلاً فيلبسهُ رداء ما يقيه البردَ والقر ، إن كان يقبَلُ بذلك ، لكنّه بقي بعيداً مسافةَ رُمحٍ عن الشاعر بعد أن دنى منه قبل ذلك قليلاً وابتعَدَ .

إذن الذئب جائع ولا غَرَضَ لهُ عند الفرزدق إلا الطعام ، فهل يزجرُ الرجل " طارقَ الظلماء " هل يعبسُ في وجههِ ويطرده ؛ لا ها هو ذا يقاسِمُهُ ما تبقّى من زاده بالعدل : أليسَ الفرزدَقُ ابن الكرامِ الذين اعتادوا أن يشتروا حياةَ الموءوداتِ ([34]) في الجاهلية ، واعتادوا على العطاءِ حتى قبلَ أن يَسألوا عن شخصِ صاحب الحاجة ([35]) ؟ ألم تكن كل هذهِ المكرُمات وسواها في ذهنِ الشاعر حين قَدّم لضيفِهِ نصفَ زاده ؟ وسيستثمر الشاعِرُ هذه الحادثة في الفخر ، فيرويها شعراً ويختمها ببيتين يبيّنان كرمَهُ الأصيل ، وتعاطفه مع هذا الذئب الفتي الجائع المقرور ، وقد سَبَقَ وأشار الناقدُ العراقي د . عناد غزوان إسماعيل إلى حِسّ الشاعِر الإنساني وحبّه لهذا الحيوان حين تمّنى في عجز البيت الثالث أن يلبسه شيئاً يقيهِ " بَرَدَ الشتاء وحَرّ الصيف " ورأى أن هذهِ الصورة " فريدة من نوعها في أدب الذئب عند العرب " ([36])؛ ونبّه إلى أننا أمامَ " خاطرة قصصّية ، فيها وحدة زمانيّة ومكانيّة وشخوص وملامح ، بيد أنها تفتقر إلى عنصري الصراع والحوار "، والناقد محق في ذلك ، ولقد لاحظنا أن اعتمادَ الشاعر أسلوبَ السردِ والحكاية جعَلَ لغته على غير عادتِهِ ـ بسيطة واضحة لا صعوبة فيها ، وهو المعروف بخشونة لغتِهِ ووعورتها في معظم شعِرِه .

في قصيدةٍ أخرى يعودُ الفرزدقُ ليقدّم لنا مشهداً آخر لذئبٍ أطلس يستضيفُهُ منتصفَ إحدى الليالي ، ولا نعلم هنا أي القصيدتين سبقت الأخرى ، في الظهور وهل كانت الأولى تدريباً ناجحاً على الثانية التي سنتناولها بعد قليل ، أم أنها جاءت بعدها ؛ وقد تذكّر الفرزدقُ الحادثة فنظمَ سينيّته تلك استدراكاً لشيء فاته ؟ هي مجرّد أسئلة لا أمتلكُ جواباً لها ، ولننتقل الآن إلى النص الثاني ([37]) :

وأطلسَ عسّالٍ ، وما كانَ صَاحباً
= دعوتُ بناري موهناً فأتاني ([38])

فلّما دنا ، قلتُ : ادنُ دونَكَ ، إنني
= وإيّاكَ في زادي لمشتركانِ

فبتُّ أسوي الزاد بيني وبينَهُ ،
= على ضوءِ نارٍ ، مَرّةٍ ، ودُخانِ

فقلتُ لَهُ لمّا تكشّرَ ضاحكاً .
= وقائِمُ سيفي من يدي بمكانِ

تعشَّ فإنْ واثقتني لا تخونُني
= نكنْ مثلَ من يا ذئبُ يصطحبانِ

وأنتَ امرُؤٌ ، يا ذئبُ ، والغدرُ ، كنتُما
= أُخيينِ ، كانا أُرْضِعا بلبان

ولو غيرَنا نبّهتَ تلتمس القِرى
= أتاكَ بسهمٍ أو شباةِ سنانِ

وكلُّ رفيقي كُلِّ رحلٍ وإن هُما
= تعاطى القنا قوْماهُما، أخوانِ

علينا قبل أن نتحدّث عن المشهد الذي رسمته الأبيات السابقة أن نشير إلى أن الشاعرَ جعلها فاتحةَ قصيدةٍ طويلة متعددة الموضوعات ، وإن كان بالإمكانِ أن أردّها جميعاً إلى مقولةٍ واحدة ، أو فكرةٍ رئيسةٍ مسيطرةٍ على الشاعر ، يمكن أن أوجزها على لسان الفرزدق نفسه كما يلي : " ها أنذا بكل مجدي الطارفِ والتليد ، بكل شرفي وكرم محتدي ودور قبيلتي تميم في الجاهلية والإسلام ، بكل كرمي الذي نالت الوحش شطراً منه أُخْفِقُ في الحُبّ ، وتخذلني النوّار وتذلك كبريائي ، وتشين عرضي ، فتملأُ قلبي ألماً وهَمّاً ، وتعجّلُ شيخوختي ، فيبيَضُّ رأسي ويخُور عَزمي ، ويقربُ أجلي ، وبالرغم من كل ذلك لا أستطيعُ أن أهجوها ، وأقسو عليها وأقطع كل ما كان بيننا " والذي يؤكد وجهة نظري هذهِ الأبياتُ التاليةُ لمشهدِ الذئب مُباشرةً ، وهي برأيي بؤرة القصيدة ؛ لنقرأ :

فهلْ يَرْجِعنّ اللهُ نفساً تشعبّتْ
= على أثَرِ الفادينَ كُلَّ مكانِ

فأصبحتُ لا أدري أأتبعُ ظاعِناً
= أم الشوقُ منّي للمقيمِ دَعَاني

وما منهُما إلاَّ تولّي بشقةٍ
= من القلبِ ، فالعينانِ تبتدرانِ

ولو سُئلتْ عني النَّوَارُ وقومُها،
= إذاً لم تُوارِ الناجذَ الشفتانِ

لِعمري لَقَدْ رقّقتِني قبلَ رِقّتي ،
= وأشعلتِ فيّ الشيب قبلَ زَمَاني

وأَمْحَضِتِ عِرْضي في الحياة وشنتِهِ
= وأوقدْتِ لي ناراً بكلِّ مكانِ

فلولا عقابيلُ الفؤاد الذي بهِ
= لقد خَرَجت ثنتانِ تَزْدَحِمَانِ ([39])

ولكن نسيباً لا يزالُ يَشلُّني
= إليكِ ، كأني مغلقٌ بِرِهانِ ([40])

سواءٌ قرينُ السَّوْءِ في سَرِعِ البِلى
= على المرءِ ، والعَصْرانِ يختلفان ([41])

ولهذا ـ على الأغلب ـ رأينا مشهد الذئب يفتتحُ القصيدةَ ، وكانت نوّارُ من قبل قد ملكت عليه الكثيرَ من مطالِعِ قصائده حيث كانَ " يتغنّى بها ويحدو باسمِها الركب ليدفَعَ عنهم النُعاس ، ويذهب بذكرها خدرَ أعضائِه ، فعلَ العشّاق المتيمّين ، ويحنّ إليها إذا نأى ، ويطرقُهُ خيالُها في الصحراء البعيدة ، الموغلة في البعد ، فيشمُّ نفحات شذاها العطر ، وتتبدّل صحراؤهُ إلى جنّة " ([42])

فلماذا ابتدأ الشاعرُ القصيدةَ بالذئبِ هذه المرّة ؛ أما كان باستطاعتهِ أن يؤجّل هذا المشهد قليلاً ؟ ويسيرَ في قصيدتِهِ على عادتِهِ وعادة الكثيرين ، من شعراء عصره هل هي رغبة في التجديدِ ؛ وكسر عمودِ الشعر؟ أم أنّ شيئاً ما في أعماقِ الفرزدق جعلَهُ يستبدلُ بالذئبِ المرأةَ ـ النّوار ؟ هل أرادَ بذلك أن يشبهها بالذئبِ غدراً وخيانةًَ دون أن يصرّح ، وقد اشتملت الأبيات على هاتين الصفتين :

وأنتَ امرؤٌ ، يا ذئبُ والغدر كنتُما
= أخيينِ ، كانا أُرضعا بلبانِ

أم أن الشاعر لم يفعل ذلك عن وعيٍ وقصد ، والمسألة تتعلقُ بلا وعيه الذي استنبطَ هذهِ الوسيلة ، بعد أن منعه إحساسه بالحبِ نحوها و" عقابيل الفؤاد " من هجائها بشكلٍ مباشر . فجاءت القصيدة بالصورة التي نعرفَها : مشهدُ يصور ذئباً أغبر اللون ، لم يكن من قبلُ صاحباً ، يدعوه الفرزدقُ بناره ورائحة طعامه ، فيقبلُ جائعاً يعسِلُ ، ويقتربُ من الشاعِرِ ، الذي يبادِرهُ قائلً : " تعالِ وشاركني الطعام "، ويبدأ يقدّ الزادَ بينَهما ؛ تارةً على ضوء النار ، وأخرى على دخانها ، دون أن ينسى أن ضيفَهُ غَدّارُ شرس ، قد يفتك بهِ إن غفلَ عنه ، ولهذا فهو يرمي لَهُ الطعام بيد ، ويده الأخرى على مقبض سيفه ولا سيّما حين تغلبُهُ طبيعتُهُ الوحشيّة ، فيتكشّر وتظهر أنيابه .

وهنا يعود الشاعِرُ ليحاور ضيفه حاثاً إياه على تناولِ الطعام دون الغدر ؟ فلو كانَ التمسَ طعاماً من حيٍ آخر ، لما أصابَ إلا سهماً أو سنان رمح . يتلو ذلك مشهدٌ آخر يُقدّمُ فيه الفرزدق زوجته النّوار وصنيعَها به ، بعد حُبّه إيّاها ، وصراعِه من أجلها ـ من وجهة نظره طبعاً ([43]) ـ ويستغرق ذلك ستة أبيات ، ويأتي بعدها مقطعٌ يمتدّ ثلاثينَ بيتاً ، يفخرُ الشاعرُ فيه بنفسه وقبيلته ، وهو الغرضَ الذي استهوى الفرزدق واستأثرَ بنفسه ، فيجدُ في مساعي قومِهِ ومآثرهم ما يساعده على ذلك ، لكنّه يبالِغُ في ذلك ويبجَج .

وكان الفرزدقُ قَدْ وظّفَ حكايته مع الذئب بشكلٍ رائع في بداية شطر القصيدة المخصصِ للفخر فقالَ ممهّداً لغايتهِ بنجاح :

وإنّا لترعى الوحشُ آمنةً بنا ،
= ويرهَبُنا ، أنْ نغضبَ ، الثّقلانِ

فَضَلنا بثنتين المعاشرَ كّلهم :
= بأعظمِ أحلامٍ لنا وجفانِ

فتصّوروا لو أن الشاعرَ في مشهد الذئبِ تصرّفَ على غير ما رأينا ؛ لو أنه نهرَ الذئبَ ، أو طردهُ ، أو رماه بسهمٍ ؛ هل كان يستطيع أن يقول ما قالَهُ في البيتين السابقين ؟، هل يستطيع أن يبني تلك المفارقة المذهلة بين إجارةِ قبيلته للوحشَ وحمايتها والدفع عنها ؛ حتى ترعى آمنةً بها ، وبين خوف الإنس والجن ورهبتهم من أهله حين يغضبون ؟ وهاهم يَفْضِلونَ بني جنسهم بشيمتين : غاياتهم ومآربهم السامية الجليلة ، وكرمهم النادر ، ومن جهةٍ أخرى هل كنا كقراء سنقبل منه ذلك ساعتئذٍ ؟! وأخيراً لابُدّ من الإشارة إلى أن مشهد الذئب في قصيدة الفرزدق مشهدٌ عضوي داخل جسد القصيدة ، ولا يمكن النظر إليه أو دراسته بشكلٍ منفصل وكنا قد رأينا الأمر نفسه في معظم القصائد السابقة ولاسيّما قصيدة الشنفرى وقد قام المشهدُ على حبكة قصصيّة بسيطة جداً ولكنها شائقة ، نفذّتها شخصيتان هما الشاعر والذئب ، وقد حاول الشاعِرُ أن يقدّم الذئب وكأنه كائن عاقل حين خاطبه قائلاً : " وأنتَ امرؤٌ ، يا ذئبُ والغَدْر كنتُما / أُخيين كان أُرضعا بلبانِ "، واستخدمَ بالإضافةِ للسردِ المجبول بالوصف حواراً بسيطاً ، قَدّم من خلالِهِ طبائِعَ الذئب ونوازِعهَ ، كما أضاءَ في الآن نفسه خصالَهُ هو وأراءه بشكلٍ غير مُباشر ، فإلى جوارِ قيم الكرمِ والشجاعة والعطف على الوحش الشرس ؛ رصَدَ الشاعِرُ قيمةً مهمّة ونبيلة قد لا يفطن لها كثير ممن يمرّون بالقصيدة ، مفادها أن الرحيل في الصحراء ـ وهي ما هي من قسوةٍ وعطشٍ وجوع وحَرّ ـ يجعَلُ رفيقي الدربِ صديقين حتى ولو كان قوماهما على حربٍ فيما بينهما ، فللحربِ والاختصام بين البشر شأن ، ولكائنين حيّين يعبران الصحراءَ مسافِرَين إلى مكان ما شأن آخر ، عليهما أولاً أن ينتصرا على هذهِ الغول العطشى إلى دمائِهما قبل أن يفكرا بغير ذلك :

وكلُّ رفيقي كُلِّ رَحْلٍ وإن هُما
= تعاطى القنا قوماهُما ، أخوانِ

*البحتري والذئب :

هو / الوليد بن عبيد الله ، الطائي ، غلب عليه لقب البُحتري نسبةً إلى عشيرته الطائيّة " بُحْتُر "، ولد على الأرجح سنة 205 هـ ـ 822م وتوفي سنة 284 هـ ـ 898م .

لهُ قصيدةٌ طويلة تقعُ في واحدٍ وأربعينَ بيتاً ([44])، يجري فيها على عادة القُدماء ، في الحديث عن الأطلالِ وذكر المحبوبة التي " شَطّت بها النوى "، بعد أن أحبُها الشاعِرُ حُبّاً عظيماً دون أن تبادِلَهُ الحب والوصال ؛ ثُمّ يفَرغُ لغايتِهِ الأساس من القصيدة وهي الفخر بالنفس فتتالى الأبياتُ في ذلك ومنها قوله في وصفِ شجاعتِهِ وقوّتِهِ وجرأته :

فقل لبني الضّحاك مهلاً ! فإنني
= أنا الأفعوانُ الصِلُّ والضيغَمُ الوَرْدُ

" بني واصلٍ "، مهلاً فإن ابنَ أُختِكُمْ
= لَهُ عَزماتٌ هزلُ آرائِها جِدُّ

متى هجتموهُ لا تهيجوا سوى الردى
= وإن كان خِرْقاً ما يُحَلُّ لَهُ عَقْدُ ([45])

حتى يجيءَ مشهدُ الذئبِ في البيت التاسع عشر ويستمر حتى الخامس والثلاثين :

وليلٍ كأنّ الصُبحَ في أُخرَياتِهِ
= حُشاشَةُ نصلٍ ضَمّ إفرندَهُ غِمْدُ ([46])

تسربلْتَهُ والذئبُ وسنانُ هاجِعٌ
= بعينِ ابنِ ليلٍ مالَهُ بالكرى عَهْدُ

أثيرُ القَطا الكُدْري عن جثماتِهِ
= وتألفُني فيه الثعالِبُ والرُّبْدُ ([47])

وأطلَسَ مِلءَ العينِ يحمِلُ زَوْرُهُ
= وأضلاعَهُ من جانبيهِ شوى نَهْدُ ([48])

لهُ ذَنبٌ مِثلُ الرِشاءِ يجرُّهُ
= وَمتنُ كمتنِ القوسِ أعوَجُ مُنأدُّ ([49])

طواهُ الطوى حتى استمرَّ مَريرُهُ
= فما فيهِ إلا العظمُ والروحُ والجِلْدُ ([50])

يقضقضُ عُصْلاً في أسِرَّتها الرَّدى
= كقضقضةِ المقرورِ أرعَدَهُ البردُ ([51])

سمالي وبي من شدّة الجوع ما بِهِ
= ببيداءَ لم تُحَسَسْ بها عيشةٌ رَغْدُ

كلانا بها ذئبٌ يحدّثُ نفسَهُ
= بصاحبِه ، والجَدُّ يُتْعِسُهُ الجَدُّ ([52])

عوّى ثُمّ أقعى ، وارتجَزْتُ فهجتُهُ
= فأقبلَ مثلَ البرقِ يتبَعُهُ الرعدُ ([53])

فأوْجَزْتُهُ خرقاءَ تحسَبُ ريشها
= على كوكبٍ ينقَضُّ والليلُ مُسْوَد ([54])

فما زادَ إلاَّ جُرأةً وصرامَةً ،
= وأيقنتُ أنّ الأمرّ منهُ هوَ الجِدُّ

فأتبعَتُها أُخرى فأضللتُ نصلّها
= بحيثُ يكونُ اللُّبُّ والرعبُ والحِقدُ

فَخَّر وقد أوردتُهُ مَنْهَلَ الردى
= عليهِ ، وللرَّمضاءِ من تحتِهِ وقْدُ

ونلتُ خسيساً منهُ ثُمّ تركتُهُ
= وأقلعتُ عنهُ وهو مُنعفِرٌ فَرْدُ ([55])

لقد حكمتْ فينا الليالي بجورِها
= وحكمُ بناتِ الدهرِ ليسَ لَهُ قصدُ ([56])

ويلاحظُ القارئ أن مشهد الذئب جاءَ مُنسجماً ـ وفق رؤيا البحتري ـ مع ما سبقه من فَرْشٍ تمهيديٍ يصوّر فرادةَ الشاعِر شجاعةَ وجُرأةً وقوّة ، سواء كان للمشهد أساسٌ في الواقع أم أنّه وليدُ مخيّلةِ المبدع ؛ فالشاعِرُ يطلبُ من " سعدٍ " أن يقولَ لبني الضّحاك ([57]) : رويدَكم ، إنكم تتعاملونَ مع أبي عبادة البحتري ، مع رجل هو الأسدَ الجريء الشجاع ، هو الداهية من الحيّات . فلا يغرّنكم أنه ظريف وسمح لأنكم متى هجتموهُ فلن تَلْقَوا عنده وبهِ إلا الموت الزؤام ، ثُمّ يروي البحتري " لسعدٍ " ـ على الأرجح ـ ما كان من شأنِهِ في تلك الليلة حين خرَجَ إلى البيداء في اللحظاتِ الأولى بزوغ الصباح ، وكان ضوءه لا يزيد عن قطعةٍ صغيرةٍ من نصلٍ تبدو من الغمد ، وكان خروجه مغامرة بحد ذاته ، فالذئبُ لحظتئذٍ وسنان هاجع ولكنه غير نائمٍ ، شأنه شأن أبناء الليل من قُطّاعِ الطرق واللصوص وغيرهم ، ومُفاجآتُ الطريق لا يعلمها إلا الله غير أن الشاعر يضربُ في الفلاة بعزم فتثير خطواته طيور القطا الغبراء ، وتشعُرُ بهِ الثعالبُ والحيات فلا تنكِرُهُ ـ رُبّما لأنها اعتادت على خروجه سارياً ـ ثُمّ هاهو ذا الذئبُ الأطلسُ يبرزُ لَهُ . ذئبٌ ضخم ؛ عظيمُ الصدر والأطراف ، معوج الظهرِ ، وطويل لقد اعتاد الجوعَ ، فبلَغَ منهُ مبلغاً جعلَهُ جلداً على عظم ، كان منظرُهُ يملأُ عين الشاعِر ، وصوتُ اصطكاكِ أنيابِهِ وأسنانِهِ يصلُ واضحاً إلى أُذنيه كأنّه يرتعِشُ من البرد ، لكنّ الذئبَ ـ على ما يظهر ـ أخطأ العنوان فبالشاعر من شدّة الجوع ما بهِ ، لكأنَ قدرَ ساكن هذهِ البيداء أن يظل جائعاً ، وأن يرى فيما يعرض له فيها صيداً ؛ فمن حَالفَهُ الحظُ أوقَعَ بصاحبِهِ .

عوى الذئبُ حين شاهَدَ صاحبَهُ جيداً وجلس على قائمتيِهِ الخلفيتين ، بينما أبقَى الأماميتين منتصبتين ، فزجرهُ الشاعِرُ ، فما ازدجر ، بل انطلق نحوَهُ كالبرق ، ففوّق إليهِ سهماً نافذاً أشبه بالريح الهوجاء ، فما سقطَ أو ارتد ، فأتبعَ الشاعِرُ السهم بآخر انغرسَ في قلبِ المهاجمِ ، فأرداهُ قتيلاً ، ثُمّ جمَعَ ما يلزمُ واشتواهُ ، وأكلَ منه نزراً يسيراً ، تاركاً ما تبقّى منه معفّراً بالتُراب ، وخَتَمَ المشهدَ ببيتٍ جميل سيكون مدخلاً مُناسباً للغرض التالي من أغراض القصيدة . يقولُ البيتُ : " إن الليالي تحكمُ فينا بالظلمِ وبالجور ، وتلك عادةُ الأيام في قضائِها الأهوجِ العشوائي " وإلا فما معنى أن يشقى الرجلُ الكريم فيها ، ويتقدّمَ ويسعدَ الجبان اللئيم ، والبحتري ينتمي إلى الصنف الأوّل من الناس ، كما أرادَ لنا أن نفهَمَ من مشهد الذئب وما قبله ، ولهذا فسيغالب الدنيا ولن يقعُدُ عن طلب العُلا والثراء .

يمتاز مشهد الذئبِ في هذه القصيدة بلغتهِ الشعرية الوصفّية العالية ، الزاخرة بضروبِ البلاغةِ المختلفة ، لغة حركيّة جسّدت لنا المشهد وكأننا نراهُ أمامنا على شاشةٍ السينما ، فنقتنع بشجاعة الشاعِرِ وجسارتِهِ مع أن تاريخ الأدب ينكر عليه ذلك ([58])، وقد رأينا من قبلُ شاعراً كمالك بن الريب يُقْدِمُ على قتل ذئبة اتقاءً لشرّه ؛ لكننا هنا أمام شاعرٍ يقتلُهُ ويشتويه ثم يُصيبُ منهُ قليلاً ويترك الباقي للتُراب ، وإن كنتُ لا أوافق على ما رآه الناقد العراقي د . عناد غزوان إسماعيل من أن الذئب في هذه اللوحة " رمز للظلم "، وأراه ذئباً حقيقياً أو متخيّلاً توسَّلَهُ الشاعرُ بذكاء لتحقيق غاياتِهِ المعنويّة ، وما استطاع أن يرقى بهِ إلى مستوى الرمز ، لكنني أشاركُهُ بعضَ الرأي حين يقول : " لوحةُ البحتري تكشفُ عن بعض ملامح التغيير الاجتماعي والحضاري الذي طرأ على مفهوم الفروسيّة العربيّة ، فتحوّل فيها الشاعر من كونه فارساً ذا أخلاق سامية موروثة إلى كونه مقاتلاً ذا بأسٍ شديد في مواجهة عدوهِ وخصمِهِ المتمثّل هنا في صورة الذئب ." ([59]) فقد تغيّرت بالفعل مفاهيم كثيرة ؛ ومنها مفهوم الفروسيّة ، لكنّ السبب الأهم ـ فيما أظن ـ هو ابتعاد الشاعر العربي ـ عموماً ـ عن الصحراء وحياة الرعي والتنقّل والبداوة بشكلٍ عام بكل ما تعنيهِ من تماسٍ مباشر ودائم مع الوحشِ ومخلوقات الصحراء والبادية ، والانتقالِ إلى حياة الحَضر ، فالبُحتري مثلاً ولدَ في مدينةِ ( منبج )، وانتقل بين المُدن وصولاً إلى بغداد العظيمة ونال حظوةً عند الخليفة الواثق ؛ فالمتوكل من بعدِهِ ، فإذا ما قُتِلَ الرجلُ أمام عيني الشاعِرَ انتقلَ إلى المدائن وسامراء ، وأمراء مصر ، ثُمَّ عادَ إلى منبج . كل ذلك يجعل علاقة الرجل ـ وهو الحضري ـ بالوحشِ تختلف تماماً عن علاقةِ شاعرٍ كالشنفرى أو تأبط شراً بها ، هذا إذا افترضنا أن لهُ ومن الشجاعةِ الحَظَ نفسه !

هل تنتهي قائمة الشعراء الذين خَصّوا الذئبَ باهتمامِهم ، وشغَلَ شيئاً من شعرهم عند البُحتري ، بالتأكيد لا ، لكن لا بُدّ لي أن أتوقّف عند هذا الحد .

ولنحاول معاً ـ من خلال القصائد السابقة ـ أن نضَعَ جملة ملاحظات نوجز فيها إن استطعنا أهم الملامح الفنّية والمعنويّة في النصوص الخاصّةِ بالذئب :

1 ـ حَضَرَ الذئبُ في شِعرنا العربي القديم من العصر الجاهلي حتى العباسي وفق أربعة وجوه ؛ في الأوّل منها رأيناه يجيءُ تشبيهاً سريعاً ولا يستغرقُ أكثر من شطرٍ واحدٍ أو بيتٍ شعريٍ على الأكثر ؛ والأمثلةُ على ذلك أكثر من أن تُحصى .

وفي الثاني بدأ يظهَرُ بصورةٍ أكبر وأوسَع لإسباغِ وإبرازِ بعض القيمِ في المدح أو الهجاءِ كما فَعَلَ أبو كبيرٍ الهذلي حين رثى رجلاً راسماً شطراً من حياتِهِ وهو يردُ الماءَ مع الذئابِ ([60]):

ولقد وردْتَ الماءَ لم يشرب بهِ
= بينَ الربيعِ إلى شهورِ الصَّيِّف

إلا عواسِلُ كالمِراط مُعِيْدةٌ
= بالليل مَوْرِد أيّمٍ مُتغضِّفِ ([61])

يَنسِلنَ في طُرُقٍ سباسِبَ حولَهُ
= كقداحِ نبلِ مُجَبِّرٍ لم تُرْصَفِ ([62])

تعوي الذئابُ من المجاعة حَولَهُ
= إهلالَ ركبِ اليامنِ المتطوِّفِ

زقبٌ يظلُ الذئبُ يتبَعُ ظِلَّهُ
= من ضيقِ موردِهِ استنانَ الأخْلَفِ ([63])

" فمشهد الذئب ـ هنا ـ يُظهِرُ حياة المرثي الذي قاسم الذئاب حياتها وشاركها قسوة البادية التي ضنّت بالطعام على أهلها ." ([64])، وقد رأينا الأمر نفسه في مدحِ تأبّط شراً شمسَ بنَ مالك لاقتسامِهِ الطعام مع الذئب .

وفي الوجه الثالث خَصّ الشاعرُ الذئبُ بجزءٍ أو مقطعٍ من قصيدةٍ طويلة : كما رأينا عند المرقّش الأكبر والشنفرى وتأبّط شراً وكعب بن زهير والفرزدق والبُحتري ، أما في الوجه الرابع فقد خَصّ الشاعِرُ الذئبَ بنصٍ خَاصٍ قصيرٍ أو قطعة مستقلّة كما رأينا في سينيّة الفرزدق ، أو بقصيدة كاملة كما كان الأمرُ عند حميد بن ثور الهلالي ، أو عند الشريف الرضي في قصيدةٍ عينيّة تقعً في سبعة عشر بيتاً ومطلعها :

وعاري الشوَّى والمنكبين من الطوى
= أُتيحَ لَهُ بالليلِ عاري الأشاجِعِ ([65])

2 ـ لاحظنا في المشاهد التي درسناها كافةً أن الشعراء استخدموا ـ بطريقةٍ أو بأخرى ـ أساليبَ السرد والقص ؛ وبحبكاتٍ بسيطةٍ على الأغلب ، لكن بشيءٍ من التنوّعِ فاستخدمَ مُعظمهم ضمير المتكلم وهو يسردُ حكايتُه ؛ كما فعل المرقُش الأكبر في مقطوعتِهِ وقصيدته ، ومالك بن الريب ، والبُحتري ، وكان كل من هؤلاء بطَلَ قصتِهِ بينما قَدّم الشنفرى قصته على لسانِهِ ؛ أي باستخدام الضمير نفسه ، لكن دون أن يشارِكَ في الحدث ، لقد لعبَ ـ ما يشبه اليوم ـ دورَ الراوي العليم ببواطن الأمور ، وجاءت حكايةُ الذئاب كنصٍ مستقلٍ يُدخِلُهُ المبدعُ في جسدِ النص الرئيس ، أو كحكايةٍ صغيرة تبزغُ في رحم الحكاية الكبيرة ، وفي هذا السياق أيضاً انفردت لوحَةُ حميد بن ثور الهلالي بتقنية مختلفة عن سابقاتها ؛ فقد جاءت على لسانِ راوٍ بعيدٍ لا علاقةَ لَهُ بالمشهد ، راو متخفٍ لا نعرف عَنهُ شيئاً يروي قصةَ ربّةِ قطيعٍ تتغلبُ بحرصِها ويقظتها على ذئبٍ يُريد أن يقتنصَ واحداً من صغار قطيعها ، ويظل الأمرُ ملتبساً حتى مشارف نهاية القصيدة حين يفجَؤنا الشاعرُ بالبيت الذي يقول :

ونمتَ كنومِ الفهدِ عن ذي حفيظةٍ
= أكلتَ طعاماً دونَهُ وهو جائع

فيقلب الأمر رأساً على عقب ؛ ونفهم عندها أن الراوي إنّما يحدّثُ نفسَهُ من البداية مستعيداً أحداث حكايةٍ ما كان شاهداً عليها ، بمعنى أن النصّ كُلّه من البداية إلى النهاية هو أشبه بمونولوج داخلي ، وإن صدقَ اجتهادي هذا فسنكون أمامَ نصٍ شعريٍ متقدّم سواهُ من هذه الناحية ، أو هو متجاوز فنياً وتقنياً لمرحلتِهِ الزمنيّة . كما استخدمَ معظم الشعراء المذكورين بعض أشكالِ الحوار في نصوصهم ونوّعوا في خواتيمِ حكاياتهم المسرودة ؛ بين شاعرٍ يُلقى لضيفهِ حُزّةً من شوائِهِ فيعودُ بها جذلاً ، إلى آخر يطلبُ منهُ أن يقتربَ ويروحُ يقد الزادَ بينهما ، إلى ثالثٍ يزجرُهُ فلا يزدجر فيضربُ متنَهُ بالسيف ، إلى رابعٍ يُعالجِهِ بسهمٍ كأنَّه الريح الخرقاء ، فلا يتراجَعَ فيتبعُهُ بآخر ثُمَّ يشتويه ، ويأكل منهُ شيئاً ويرمي الباقي ، إلى خامسٍ يرافقُهُ في وادٍ موحشٍ مظلمٍ كجوف العير ثُمَّ لا يجد مَعُهُ ما يلهيهِ به إلا فَردةَ حذائه . وما إلى ذلك من الخواتيم المختلفة ، التي قد تخرج مشهَدَ الذئبِ من الرتابةِ والتقليد .

3 ـ تفاوتت مواهبُ الشعراء الذين درسناهم في التعامُلِ فنّياً مع ذئابهم ، وفي دمجِ مشهد الذئبِ في جسد القصيدة الطويلة والحفاظ على وحدتها ـ فيما لو تحدّثنا عن القصائد الطوال ـ لكننا في الأحوال كلها لا يمكن أن ننظر إلى لوحةِ الذئبِ على أنّها مجردّ غرضٍ من أغراضِ الشعرِ العربي القديم يُدخلُ في بابِ وصفِ الطبيعةِ ومخلوقاتها المختلفة ، وانطلاقاً من هذه الرؤيا حاولتُ أن أثبت أن مُعظم المشاهد السابقة لم تكن إلاَّ صوراً سطحيّة تخفي خلفها صوراً أكثر عُمقاً قد تختلف في موضوعها ، ولكنها الأقرب إلى حقيقة عاطفة الشاعر ووجدانه ، وبعبارةٍ أخرى يمكن أن أقول : إن مشهد الذئب في القصائد السابقة ـ هو مشهدٌ مستمدٌّ من البيئة العربيّة الصحراوية ـ لم يكن إلا موضوعاً شعريّاً وظّفَهُ الشاعرُ القديمُ ليعبِّر من خلالِهِ عن مشكلاتٍ مؤرّقة وكبيرة في حياتِهِ وحياةِ بني جنسه ، وهل كان ذئبُ الشنفرى " الأزلُ الأطحَلُ " إلا مُعادلاً شعرياً خارجيّاً لشخص الصعلوك الخليعِ الباحث عن الأُنس والصحبة في عالم الوحش ؟ وتلك الزُمرةُ من الذئاب " المُهلهلةِ المهرّتةِ الفوهِ " في سلوكها الطافِح حُنّواً وإحساساً بصاحِبها أليست مُعادلاً خارجيّاً مجازيّاً لزمرة الصعاليك التي طالما أحاطت بالشنفرى ؟

وذئبُ الفرزدق الأطلسُ العسّالُ ، هَلْ بقيَ مُجرّدَ ذئبٍ من لحمٍ ودمٍ يسمو للشاعر موهناً فيكرمُه ، أم أنه أصبَحَ شيئاً آخر تماماً حين قفزَ إلى مطلع قصيدةٍ عظيمة فأزاحَ المرأةَ ـ النّوارَ إلى الخلفِ قليلاً وتصدّر النص ؛ ولماذا سَمَحَ الشاعرُ للذئب أن يفعلَ ذلك ؟ أما كان باستطاعتِهِ أن يؤجِلَ مشهدَ الذئب قليلاً ـ كما فَعَلَ البُحتري ـ فيتحدّث عن أطلال النّوار ودارها المقفرة ، وغدرها وخذلانها الشاعر ، ثُمّ يعود إلى مشهد الذئب ؟! هل كانَ الفرزدق ينظرُ إلى ضيفهِ الغريب ويفكّرُ بالنوار؟، هل كان يصفِهُ بالغدر ، ويطلب منه ألا يخونه وهو يتذكّر أفعّال النوار؟ أنا أرجّحُ كل هذا ولا أرى الذئب إلا وسيلةً فنيّةً أو رمزاً استخدمَهُ الشاعر عن وعيٍ ، أو بفعل موهبةٍ عظيمةٍ وجهتها روحٌ مخذولة عن غير قصد .

4 ـ امتلك كل مشهدٍ من المشاهد السابقة خصوصيّة لافتة ميّزته من سواه وإن كنا نقعُ على بعضِ الصيغ المتشابهة ، التي أخذها هذا الشاعِرُ عن ذاك ، ونستطيع أن نرصدَ مُعجماً خاصاً في وصف الذئب من خلال المشاهد السابقة سواء ما يتعلق بلون الذئب أو حركتِهِ أو سوى ذلك ([66]).

5 ـ استطاعت المشاهد السابقة التي امتدّت زمنياً منذ الجاهليّة حتى أواخر القرن الثالث الهجري أن ترصدَ شيئاً من تغيّر بعض المفاهيمِ التي كانت سائدة ؛ كمفهوم الفروسيّة والشجاعة والكرم وما إلى ذلك .



رد مع اقتباس