عرض مشاركة واحدة
 
غير متصل
 رقم المشاركة : ( 5 )
خيَّال الغلباء
وسام التميز
رقم العضوية : 12388
تاريخ التسجيل : 01 - 03 - 2007
الدولة : ذكر
العمر :
الجنس :
مكان الإقامة : نجد العذية
عدد المشاركات : 20,738 [+]
آخر تواجد : [+]
عدد النقاط : 49
قوة الترشيح : خيَّال الغلباء is on a distinguished road
الأوسمـة
بيانات الإتصال
آخر المواضيع

التوقيت
رد : هضبة نجد العذية أم المجد

كُتب : [ 10 - 06 - 2008 ]

بسم الله الرحمن الرحيم

جـــاذِبيَّةُ نــَــــجْــد ـــ محمود مفلح البكر

لكل بلاد جاذبيتُها الخاصة التي تشدّ سكانَها ، وتهيج مشاعرهم حنيناً إليها إذا ما أبعدوا عنها ، وشوقاً لرؤية معالمها ، ومعاشرة ناسها ، والإقتراب من ظل الأحبة فيها .

لكن جاذبية نجد كانت مميزة عما سواها ، وكان أهل نجد أشد الناس تعلقاً بموطنهم ، وأكثرهم توقاً لربوعه ، وما فيها من جبال ، ومياه ، ونبات ، وأحبة . ويكفي أن يومض برق من جهة نجد أو تهب نسمة ، أو يفوح شذا زهر ، كي تهيج عواطف النجدي ، ويستبد به حنين جارف يبجس مكامن الدمع ، وينطقه الشعر وإن لم يكن شاعراً حتى ليمكن وصف ذلك بـ" الظاهرة النجدية "، ولهذا حين نتأمل خريطة الشعر العربي القديم يتضح لنا أن شاعرية العرب كانت تستوطن ربوع نجد ، وقلما تفارقها .

وتتجلى هذه الظاهرة بكثرة الأشعار التي تلهج باسم نجد وتذكر هواءه ، ونفحات شذاه ، وأسماء أماكنه ، وتعبر عن توق دائم للعيش فيه ، وسوف نتوقف عند بعض الأمور الأبرز في هذا الحنين الذي نرى فيه انعكاساً عميقاً لتلك الجاذبية .

التُّوْقُ الدائم إلى ربوع نجد :

عبر النجديون عن توقهم الدائم إلى موطنهم في قصائد كثيرة ، يذكرون في بعضها اسم نجد ، وفي بعضها أسماء أمكنة وجبال في نجد ، وفي الحالين كانت اللهفة تفيض من النص ، مشفوعة بروح تكاد تسيل بين الكلمات من شدة الشوق ، لرؤية هذا الموطن العزيز . وفي أبيات جعفر بن علبه الحارثي مثل معبر حقاً :

أحقَّاً عبادَ الله أن لستَ رائياً
= صحاريَّ نجدٍ والرياحَ الذواريا

ولا زائراً شُمَّ العرانين ، أنتمي
= إلى عامر ، يحللن رملا معاليا

إذا ما أتيتَ الحارثياتِ فَانْعَني
= لهن ، وخبرهن أن لا تلاقيا (1).

وهذا آخر يسابق قلبه إلى منازل أحبته ، فينتابه شعور بأن قلبه سينقطع قبل بلوغ المكان لشدة شوقه ، واضطراب فؤاده :

أقول لصاحبيَّ بأرضِ نجدٍ
= وجَدَّ مسيرُنا ودنا الطروقُ

أرى قلبي سينقطع اشتياقا
= وأحزانا ، وما انقطع الطريق (2).

وإذا ما اغترب أحد هؤلاء الناس لسبب ما ، فكل شيء يسمعه أو يراه ، ويذكره بموطنه ، يهيج مشاعره ، ويؤجِّج توقه ، كما تُؤجَّجُ النارُ الكامنةُ تحت الرماد . وما كان له أن يصبر على البعد إذا ما هدلت حمامة ، أو هبت رياح ، أو ومض برق من جهة نجد ، فيتذكر الأماكن التي ألفها ، والناس الذين عاشرهم .

وما أبلغ أبيات ذلك البدوي الذي قدم إلى بغداد فسمع غناء الحمائم في بستان إبراهيم بن المهدي وربما لمح برقاً ، فحن إلى بلده ، فراح يخمن الأماكن التي ينزل فيها المطر ، وقد تنسم مع الريح نفحات نجد ، وفوح عراره ، فلم يستطع حبس عبراته :

أشاقتك البوارقُ والجَنوبُ
= ومن عَلوى الرياحُ لها هبوبُ

أتتكَ بنفحةٍ من ريح نجد
= تَضَوَّعُ والعرارُ بها مَشوبُ

وشِمتُ البارقاتِ فقلت : جيدت
= حبالُ البِشْرِ أو مُطِرَ القَليبُ

ومن بستان إبراهيم غَنَّتْ
= حمائمُ بينها فَننٌ رطيبُ

فقلتُ لها : وُقيتِ سهامَ رام
= ورُقطَ الريشَ مَطعَمُها الجُنوبُ

كما هيَّجتِ ذا حَزَنٍ غريباً
= على أشجانه فبكى الغريبُ (3).

ويلاحظ مدى شفافية هذا البدوي في إشفاقه على هذه الحمائم من أن تصيبها سهام الصيادين ، ولعل خوفه نابع أصلاً من إشفاقه على حمائم نجد ، ومن ثم على الحمام كله في أي مكان .

ولابن الدمينة ( أو ابن الطثرية في رواية ثانية ). موقف يقارب هذا حين هاجه هبوب الصبا ، وهديل الحمام ، فسابقت دموعه أشواقه إلى نجد ، ومن يحب فيه :

ألا يا صَبا نجد متى هِجتَ من نجد
= فقد زادَنِي مسراكَ وجداً على وجدِ

أَإِنْ هتفت ورقاءُ في رونقِ الضحى
= على فنن غَضِّ النباتِ من الرَّندِ

بكيتَ كما يبكي الحزينُ صبابة
= وذبتَ من الشوق المبرح والصَّدِّ

بكيتَ كما يبكي الوليدُ ، ولم تكن
= جَزوعاً ، وأبديتَ الذي لم تكن تبدي

وقد زعموا أن المُحبَّ إذا دنا
= يملُّ ، وأنَّ النأيَ يشفي من الوجدِ

بكلٍّ تداوينا فلم يشفَ ما بنا
= على أن قُربَ الدارِ خيرٌ من البُعدِ (4).

وفي قصة الفتى العامري من بني نمير الذي اشتد عليه المرض في بغداد صورة بليغة لهذا الحنين ، وهذا الشوق الجارف إلى الموطن ، فقد رأى ذلك الفتى وميض البرق جهة دياره فهاجت مشاعره ، وهو بين أنياب المرض ، فتمنى رؤية وطنه قبل أن يفارق الدنيا ، حيث يقول :

ألا يا سنا برقٍ على قُللِ الحِمى
= لَهِنَّكِ مِنْ برقٍ عليَّ كريمُ

لمعتَ اقتذاءَ الطير والقومُ هُجَّعٌ
= فهيَّجتَ أسقاماً وأنتَ سليمُ

فهل من معير طرفَ عينٍ خَليَّةٍ
= فإنسانُ طرفِ العامريِّ كليمُ

رمى طرفَهُ البرقُ الهلاليُّ رميةً
= بذكرِ الحِمى وهناً فباتَ يهيمُ (5).


فقيل له : يا هذا ، إنك لفي شُغُلٍ عن هذا ؛ فقال : صدقتَ ، ولكن أنطقني البرق . ثم اضطجع فما كان ساعة حتى مات .

اللَّهْجُ باسمِ نجد :

يمكن لأي مهتم أن يلاحظ ولع النجديين بالتلفظ بكلمة " نجد " وتكرار لفظها مراراً في البيت الواحد أحياناً ، وكأنها فلذة شهد لا يود اللسان مفارقتها ، وما أبلغ كلمات مروان الأصغر بن أبي الجنوب حيث يقول :

سقى الله نجداً ، والسلامُ على نجدِ
= ويا حبذا نجداً على النأي والبُعدِ

نظرتُ إلى نجدٍ وبغدادُ دونَها
= لعليِّ أرى نجداً ، وهيهاتَ من نجد

ونجدٌ بها قومٌ هواهم زيارتي
= ولا شيء أحلى من زيارتهم عندي (6).

ست مرات تكررت كلمة ( نجد ) في البيتين الأولين فقط، فأية لذة مذهلة يجدها النجدي في أحرف كلمة ( نجد ) ليرددها مراراً لتظل عالقة في لسانه ، وذهنه ، ووجدانه ! وليكثِّف بها فيضاً من لواعج الحب والشوق تطفح به النفس فلا تطيق احتباسه !...

ولننظر أيضاً إلى هذا البيت الذي يعبر عن جوهر العلاقة بين النجدي وبين موطنه :

قفا ودِّعا نجداً ومَنْ حَلَّ بالحِمى
= وقلَّ لنجدٍ عندنا أن يُوَدَّعا

فالنجدي إذن لم يكن يفارق نجداً إلا نادراً ، واضطراراً ، ولا يكاد يفارقه حتى يحن إليه ، ويلهج باسمه ، بل كثيراً ما يستبد به الشوق قبل أن يقطع أرض نجد ، فيحاول أن يملأَ صدره بعبق العرار ، ونفحات تلك الأرض ، وهو بذلك يتشبث بكل ما يمكنه التشبث به من ربوع نجد ، ولو استطاع حمله لحمله معه ليتزود به في غربته ، وما تكرار اسم " نجد " في هذه الحال إلا نوع من التشبث بالموطن وبكل مايمت إليه بصله . وهذه هي حال القائل ـ وهو الصِّمة القشيري حسب بعض الروايات ـ الذي يكادُ يذوب في نفحات نجد ، وريح عراره :

أقولُ لصاحِبي والعيسُ تخدي
= بنا بين المُنيفةِ فالضِّمارِ

تَمتَّعْ من شميمِ عَرار نجدٍ
= فما بعدَ العشيةِ من عرارِ

ألا حبذا نفحات نجدٍ
= ورَيَّا روضهِ بعد القِطارٍ

وأهلُكَ إذ يحلُّ الحَيُّ نجداً
= وأنتَ على زمانكَ غيرُ زاري

شهورٌ ينقضينَ وما شعرنا
= بأنصافٍ لهنَّ ولا سِرار (7).

وفي هذه الأبيات إشارات لأسباب تعلق النجديين بموطنهم ، منها طيب هوائه ، وجودة نباته ، وطيب الحياة فيه .

وقد عَبَّرَ بدويٌ من بني طهية عن معاناة النجدي في غربته عن موطنه وعن محبوبته ، وقد يئس من إمكانية الإياب ، وهو يحصي أيام اغترابه وطول لياليه ، وفكر بحياته التي لا " ليلى " فيها ، ولا " نجد "، فهو إذن في حرمان مرير إلى يوم القيامة :

أحنُّ إلى نجدٍ وإني ليائسٌ
= طوالَ الليالي من رجوع إلى نجدِ

فإنكَ لا ليلى ولا نجد فاعترِفْ
= بهجرٍ إلى يومِ القيامة والوَعدِ (8).

ويمكن للقارئ أن يلاحظ تكرار كلمة " نجد " ثلاث مرات في هذين البيتين ، والشاعر بذلك يحاول استحضار بلاده ، وإبقاء صورتها مرسومة في ذهنه ووجدانه بكل تجلياتها ، يستمد منها طاقة حياته في غربته ، بينما لم يذكر اسم محبوبته " ليلى " إلا مرة واحدة ، وكأن محبوبته قد تماهت في " نجد "، فحين يلهج باسمه يلهج باسمها ضمناً .

فاللهج باسم نجد إذن محاولة ذات محرك نفسي ، لإشعار المغترب بأنه غير مبتور الأسباب من وطنه وأن صلاته باقية على الرغم من البعد .

التعلُّق بهواءِ نجد :

أغلب الذين عبروا عن توقهم إلى بلاد نجد أثناء غربتهم ذكروا رياح الصبا بمحبة غامرة ، وإعجاب شديد ببرودتها المنعشة ، التي تجدد النشاط، وتبسط النفس ، ومما يروى أن امرأة نجدية تزوجت تهامياً ، ولما خرج بها الرجل إلى تهامة شعرت بحرها ، فقالت : " ما فعلت ريح كانت تأتينا ونحن بنجد يقال لها : الصبا ؟ قال : " يحبسها عنك هذان الجبلان ". فأنشدت :

أَياَ جَبَلَيْ نعمانَ بالله خَلِّيا
= نسيمَ الصَّبا يَخلُصْ إليَّ نسيمُها

أَجِدْ بردَها أو تَشْفِ مني حرارةً
= على كَبَدٍ لم يبقَ إلا صميمُها

فإن الصَّبا ريحٌ إذا ما تَنَسَّمتْ
= على نفس مهمومٍ تَجَلَّتْ همومُها (9).


فريح الصبا في نظر هذه المرأة ، أشبه بدواء يبرئ النفس من همومها وأحزانها ، إلى جانب دوره المنعش أيام الصيف .

ولريح الصبا النجدية نفحة يميزها النجدي عما سواها ، فتفعل فعلها الساحر في نفسه ، متذكراً فيها الربع وساكنيه ، وما يتعلق بهما من أمور لا تحصى :

إذا دَرَجَتْ ريحُ الصبا وتنسَّمتْ
= تَعَرَّفت من نجدٍ وساكِنهِ نشرا

فقرَّفَ قُرْحَ القلبِ بعد اندماله
= وهيَّجَ دمعاً لا جموداً ولا نزرا (10).

وتأهب الدموع في عيون المغترب ـ كما يصرح الشطر الثاني من البيت الأخير ـ دليل على توهج روح النجدي ، وسرعة استجابته لأي مثير يذكره بموطنه ، أينما كان ، ويتذكر معه عبق الهواء في نجد بشذا زهوره ، وعبق نبته الطري :

وعن عُلُوِِيّاتِ الرياحِ إذا جرتْ
= بريح الخُزامى هل تهبُّ على نجدِ ؟

وعن أقحوان الرمل ماهو فاعلٌ
= إذا هو أسرى ليلَةً بثرىً جَعْدِ؟

ومع عبق الخزامى والأقحوان هناك عبق العرار الذي غدا سمة من سمات نجد :

تمتَّعْ من شميمِ عرارِ نجد
= فما بعدَ العشيةِ من عرارِ

وتبدو الصبا في كثير من الأحيان أشبه برسول يحمل معه أخبار الوطن / نجد ومن فيه ، وتلويحات الأحبة ، وعواطفهم ، وصورهم النابضة بالحياة ، وشيئاً من طلباتهم ورغباتهم :

هل الريحُ أو برقُ الغمامةِ مخبرٌ
= ضمائرَ حاجٍ لا أطيقُ لها ذكْرا ؟

ولهذا ترى النجدي يخاطب الصبا مستفسراً منها عن زمن مجيئها من نجد ليستشف منها آخر أخبار أحبته ، وموطنه ، وكأنها رسول إليه حقاً :

ألا يا صبا نجدٍ متى هجت من نجد
= لقد زادني مسراكِ وجداً على وجدِ

ولشدة تأثر النجدي بالصبا شمل بعواطفه كل ريح يهب عليه نسيمها ، وخاصة إذا كانت قادمة من نجد ، أو من إحدى بقاعه ، وربما يسهم البرق في تحديد الجهة ، فيتظافر البرق مع الرياح في تأجيج العواطف :

أشاقتكَ البوارقُ والجنوبُ
= ومن عَلْوَى الرياحُ لها هبوبُ

أتتكَ بنفحة من ريح نجد
= تَضَوَّعُ ، والعرار بها مشوبُ

حتى الرياح الهوج العاتية يجدها المغترب حبيبة إلى القلب ، تهيج عواطفه ، وتذكره بنفحات نجد ، حتى وإن كان قد غادر بإرادته ، كما يقول الحسين بن مطير :

بكرت عليَّ فهيَّجْتْ وَجدا
= هوجُ الرياحِ وأذكرتْ نجدا

أتحن من شوقٍ إذا ذُكِرَتْ
= نجدٌ ، وأنتَ تركتَها عَمدا ؟ (11).

إذا لابد من الحنين ، وتهيج الأشجان كلما هبت الصبا ، أو أي ريح ، سواء أترك النجدي موطنه رغماً عنه أو بإرادته .

أنسنةُ الأمكنة :

ومن ملامح تعلق النجديين ببلادهم إضفاؤهم الملمح الإنساني على كثير من الأمكنة ، وغيرها من الأشياء ومخاطبتها مخاطبة الإنسان للإنسان ، وبثها ما يجول في النفس من أفكار ، وهموم . ومن الأمثلة البارزة على ذلك أبيات قيس بن الملوح التي يحادث فيها جبل التوباذ كما يحادث الصديق صديقه الحميم ، فيقول :

وأجهشتُ للتوباذِ حين رأيتُهُ
= وكَبَّرَ للرحمنِ حين رآني

فأذريتُ دمعَ العينِ لما رأيتُهُ
= ونادى بأعلى صوته فدعاني

فقلتُ له : أين الذين عهدتُهم
= حواليك في أمن وخَفضِ زمانِ ؟

فقال : مضوا واستودعوني بلادَهم
= ومن ذا الذي يبقى على الحَدَثانِ ؟

وإني لأبكي اليومَ من حذري غداً
= فراقَكَ ، والحَيانِ مُجتمعانِ

سِجالاً ، وتَهتاناً ، وَوَبْلاً ، ودِيمةً
= وسَحَّاً ، وتَسْكَاباً ، وتَنْهملانِ (12).

فجبل التوباذ هنا يُكبِّرُ فرحاً لرؤية قيس ، ويناديه بأعلى صوته ليبثه ما لديه من أخبار ، وحين يسأله قيس عن ساكني تلك الربوع يجيب التوباذ بأنهم قد رحلوا إلى أمكنة أخرى واستودعوه بلادهم ، ثم يبوح التوباذ بحزنه خوفاً من أن يفارق صاحبه قيساً في الأيام المقبلة .

وبذلك لم يعد المكان ، في نظر هؤلاء النجديين ، مجرد مكان محايد ، بل أصبح صديقاً حميماً يتمتع بصفات الإنسان ، فيفرح ، ويحزن ، ويتحدث عن أفكاره ، ويبوح بمشاعره ، ولا يحدث هذا بمثل هذه الصورة الحميمة إلا نتيجة محبة عميقة ، وألفة طويلة ، وانسجام بين الإنسان وبين المكان يبلغ درجة الاتحاد، تجعل كل من يغترب مشدوداً إلى موطنه الذي يشكِّلُ المكمِّلَ لشخصيته .

التوجُّدُ على نجد :

حين يشتعل صدر النجدي بالحنين إلى موطنه ولا تسعفه الظروف بتكحيل عينيه برؤيته يبدأ بالتوجد على ربوع نجد وهوائها ، وما فيها من منازل ، وجبال ، ومطارح متنوعة ، وما تضم من نبات ، وكائنات ، وما يسكنها من أحبة ، وهذا قيس بن الملوح ، يتوجد على الأمكنة ، وهواء البلاد ، والناس الذين عاشرهم . يقول :

ألا ليتَ شِعري عن عوارضتَيْ قناً
= لطول الليالي هل تغيرتا بَعدي ؟

وهل جارتانا بالبتيل إلى الحِمى
= على عهدِنا أم لم تدوما على العهدِ ؟

وعن عُلُوِيّاتِ الرياحِ إذا جَرَتْ
= بريحِ الخُزامى هل تهبُّ على نجدِ ؟

وعن أقحوان الرمل ما هو فاعلٌ
= إذا هو أسرى ليلةً بثرىً جَعْدِ ؟

وهل أنفضنَّ الدهرَ أفنانَ لِمَّتي
= على لاحق المتنينِ مندلقِ الوَخْدِ ؟

وهل أسمعنَّ الدهرَ أصواتَ هَجْمةٍ
= تحدَّرُ من نشْزٍ خصيبٍ إلى وهدِ ؟ (13).

فالشاعر في هذه الأبيات يتمنى أن يعرف ما حلَّ بتلك الأماكن التي يذكرها ، ويتذكر ما كان فيها ويتساءل عن تغيرها بعده، ويتساءل عن جارتَيْه وما طرأ عليهما ، وعن الرياح العابقة بريح الخزامى أما زالت تهب على نجد ؟ ثم ما حدث للأقحوان في تلك الربوع بعد أن تكون قد اخْضَلَّتْ بماء الغيومِ ؟ ثم يتمنى بصيغة السؤال أن يعود ثانية إلى تلك الربوع ويسمع أصوات الإِبل الكثيرة وهي تنتقل من مكان إلى آخر .

وفي أبيات الصِّمَّة القُشيري صورة واضحة لهذا التوجد على الوطن والأحبة ، والحنين إلى ما مضى من سالف العهد :

حننتَ إلى ريَّا ونفسُكَ باعدتْ
= مزارَكَ من ريَّا وشعباكما معا

فما حسنٌ أن تأتي الأمر طائعاً
= وتَجْزَعْ أَنْ داعي الصبابة أسمعا

قِفا ودِّعا نجداً ومَنْ حَلَّ بالحِمى
= وقلَّ لنجدٍ عندنا أن يُوَدَّعا

ولما رأيتَ البِِشْرَ أَعْرَضَ دوننا
= وجالت بناتُ الشوقِ يحننَّ نُزَّعا

بكتْ عَيْنيَ اليُسْرَى فلما زَجْرتُها
= عن الجهلِ بعدَ الحِلْمِ أَسبلتا معا

تلفَّتُّ نحو الحَيِّ حتى وجدتُني
= وجِعتُ من الإِصغاءِ ليتاً وأخدَعا

وأذكرُ أيامَ الحِمى ثم أنثني
= على كبدي من خشيةٍ أن تَصَدَّعا

وليست عشياتُ الحِمى برواجعٍ
= إليكَ ولكنْ خَلِّ عينيكِ تدمعا

بنفسي تلك الأرض ما أطيب الرُّبا
= وما أَحْسَنَ المُصطافَ والمُتَرَّبعا ! (14).

فالقشيري هنا يقرُّ ببعد المزار ، ويحاول أن يتغلب على الجزع بالصبر ، ثم يتذكر يوم ودَّع نجداً ومن فيهِ ، فقد ودع تلك الربوع الخصبة الحبيبة ، التي قلما يودعها أحد ، وعندما ابتعد عن منازل قومه ، وأعرض جبل البِشْرِ يحجب ما خلفه من بلاد نجد جاشت نفس الشاعر حزناً على فراق وطنه وأحبته ، ولم يستطع حبس دموعه ، ولم يُجْدِهْ التلفت إلى جهة الحي ، فقد أزف الفراق .

ويعترف الشاعر بأنه حين يتذكر أيام الحمى بين صحبه وأحبته يفتك به الحزن والجزع ، فيسند كبدَهُ بيدهِ كي لا تتمزع ألماً ، ثم يتوجد الشاعر على عشيات الحمى التي يقرُّ بأنها لن تعود ، ومادام الأمر كذلك فلتدمع العيون كلما جاشت النفس .

وعلى رغم البعد والجزع يظل الصمة متعلقاً بوطنه ، متشبثاً بكل معالمه ، وبذكرياته فيه ، فَيُفدِّي بنفسه تلك الربوع الطيبة ورباها ومنازلها في صيفها وشتائها .

وما أكثر من يدعو لها بالسقيا لتبقى مخضلة في الواقع مثلما هي مخضلة في الوجدان .

الدعاء بالسقيا :

ما الدعاء بالسقيا إلا دعاء بتجدد الحياة ، وازدهارها ، وإطالة أمدها ، ومن ثم سلامتها من أي ضر ، وهو لهذا من أحب الأدعية ، وألطفها وقعاً في نفس العربي الذي كثيراً ماعانى من شح الماء ، وقلة الخضرة في صحاريه ، وبواديه ، وفقد كثيراً من إبله ومواشيه ، وأطفالهِ جراء ذلك .

ولهذا نراه يتوجه بهذا الدعاء الندي إلى أحب الأمكنة إليه ، وأسعد الأيام التي عاشها .

وفي أبيات ابن عمارة السلمي صورة لهذا الدعاء الحميم ، حيث يذكر نجداً ، ثم يتفقد أمكنة بعينها متمنياً أن تنهلَّ عليها شآبيب الغيث المصحوب بالرعد المتتابع الذي يعني وفرة الماء المنهمر ، وما ينتج عنه من ربيع ، وخصب :

سَقَى مَأْزَمَيْ نجدٍ إلى بئرِ خالدٍ
= فوادي نِصاعٍ ، فالقُرونِ إلى عَمْدِ

وجادتْ بروقُ الرائحاتِ بِمُزْنةٍ
= تسحُّ شآبيباً بمرتَجزِ الرَّعْدِ

منازلَ هندٍ إذ تواصلُني بها
= لياليَ تسبيني بمستطرَفِ الوُدِّ (15).

فالشاعر في دعائه يتفقد منازل محبوبته هند ، وكأنه بذلك يسعى إلى تثبيت أركان هذا الحب في ذاكرة المكان الذي هو نجد ، وإبقائه أخضر ندياً على الزمن .

وفي الأبيات التالية دعاء آخر يتفقد صاحبه بعض الأمكنة التي يتمنى لها السقيا ، والاخضرار ، والتي ترتبط أيضاً بمحبوته زلفاء :

سَقَى دِمنتينِ ليس لي بهما عهدُ
= بحيثُ التقى الداراتُ والجَرَعُ الكُبْدُ

فيا ربوةَ الرَّبعينِ حُييتِ ربوةً
= على النأيِ مِنَّا واستهلَّ بِكِ الرعدُ . (16).

وهذا مروان الأصغر يحيط نجداً بحب مدهش حقاً فيدعو لـه بالسقيا ، ويهديه السلام ، ويعلن عن حبه له ، وتفضيله على غيرهِ من البقاعِ ، مهما شت به المزار ، ونأى عنه :

سقى الله نجداً والسلام على نجدِ
= ويا حبذا نجداً على النأيِ والبُعْدِ

أما الصِّمة القشيري فيطلب من آخرين أن يشاركوه الدعاء لله ، أن يسقي الحمى ، ثم يطمئن إلى أن الله قد استجاب ، فسقى الحِمى ، وما حوله من ربوع ، ثم يلتفت إلى أمر آخر ، وهو أنه دائم السؤال عن الحمى ، كلما لقي قادماً منه ، ليطمئن إلى سقياه ، ثم يسأل ذلك السؤال الحرج : هل يسأل أهل الحمى عن حاله كما يسأل عن حالهم ؟

ألا تسألانِ الله أن يسقيَ الحِمى
= بلى فسقى الله الحِمى والمَطاليا

وأسألُ مَنْ لاقيتُ : هل مُطِرَ الحمى
= فهل يسألنْ أهلُ الحِمى: كيف حاليا ؟ (17).

وتمكن ملاحظة الروح الإنسانية لدى الشاعر حين اطمأنَّ أن الغيث قد شمل بسقياه كلاً من الحمى ، والمناطق التي تتوالد فيها حيوانات البر ، وتربي صغارها بعيداً عن الناس ، وفي ذلك تصعيد لغرائز الإنسان ، وارتقاءٌ بأفكاره ، التي توسع دائرة مسؤوليتيه في البيئة لتشمل الإنسان ، والمكان ، ومخلوقات البيئة المحيطة به .

ويبرز البيت الثاني مما قاله الصِّمة حالة التجاذب الحميمية رغم ما يعتريها أحياناً من عذابات بين الحمى وأهله وبين الشاعر ، وهي حالة متوهجة لا يطفئ جذوتها إلا الموت .

وختاماً ، نستطيع القول : إن جاذبية نجد بلغت درجة مدهشة ، وقد وجدت في شاعرية النجديين خير معبر عنها ، بما اتصفوا به من حضور بديهة ، وصفاء نفوس ، ورقة لسان ، وطلاوة لغة ، وجموح خيال ، وتوهج عاطفة ، وأرواح محلقة ، شغوف ، مرهفة ، عشاقة .

ولعل في الكلمات التي ظل الصِّمة القشيريُّ يرددها تكراراً ، ليرطب لسانه بها ، وهو يجود بأنفاسه ، غريباً على أرض " طبرستان "، خير معبر عن جاذبية نجد ، وعن انجذاب أهلها إليه :

تَعَزَّ بصبرٍ لا وَجَدِّكَ لا ترى
= بَشَام الحِمى أخرى الليالي الغوابِرِ

كأن فؤادي من تذكُّرِهِ الحمى
= وأهل الحِمى يهفو به ريشُ طائرِ (18).

الهوامش :

(1) ـ كتاب الأغاني ـ أبو الفرج الأصفهاني ـ ج13 ـ ص: 47 ـ 48 .

(2) ـ كتاب الأمالي ـ أبو علي القالي ـ ج1 ـ ص : 55 .

(3) ـ كتاب الأمالي ـ ص 53 .

(4) ـ كتاب الأغاني ـ ج17 ـ ص : 104، وانظر : ج5 ـ ص : 234 .

(5) ـ كتاب الأمالي ـ ص : 218.

(6) ـ كتاب الأغاني ـ أبو الفرج الأصفهاني ـ ج23 ـ ص : 208 .

(7) ـ كتاب الأمالي ـ ج1 ص:31 ـ 32 .

(8) ـ المرجع نفسه ـ ج1 ص 189 .

(9) ـ المرجع نفسه ـ ج 2 ـ ص : 177 .

(10) ـ المرجع نفسه ـ ج2 ص 38 ـ 39 . قرَّف القُرح : قشره

(11) ـ شعر الحسين بن مطير ـ ص : 49 .

(12) ـ كتاب الأمالي ـ مرجع سابق ـ ج1 ـ ص : 205 .

(13) ـ كتاب الأغاني ـ ج2 ـ ص : 24 .

(14) ـ كتاب الأمالي ـ ج1 ـ ص : 188 .

(15) ـ كتاب الأغاني ـ ج1 ـ ص : 299 .

(16) ـ كتاب الأمالي ـ ج1 ـ ص : 54 .

(17) ـ كتاب الأغاني ـ ج6 ـ ص :3 .

(18) ـ المرجع نفسه ـ ج6 ص : 4 .

المراجع :

1 ـ كتاب الأغاني ـ أبو الفرج الأصفهاني ـ مركز تحقيق التراث بإشراف : محمد أبو الفضل إبراهيم ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ 1992 ـ 24 جزءاً .

2 ـ كتاب الأمالي ـ أبو علي القالي ـ جزآن ـ دار الحكمة ـ لبنان ـ دون تاريخ .

3 ـ شعر الحسين بن مطير ـ جمع وتحقيق : د . محسن غياث ـ مديرية الثقافة العامة ـ بغداد ـ 1391هـ /1971م .

تحياتي للجميع



وأقول إن خير ما يمثل ذلك قول الشاعر النجدي المريض على الفرات وهو يتذكر هوى نجد ورمثها :

قال الأطباء ما يشفيك قلت لهم
= دخان رمث من التسرير يشفيني

منقول وأنتم سالمون وغانمون والسلام .



رد مع اقتباس