عرض مشاركة واحدة
 
غير متصل
 رقم المشاركة : ( 1 )
خيَّال الغلباء
وسام التميز
رقم العضوية : 12388
تاريخ التسجيل : 01 - 03 - 2007
الدولة : ذكر
العمر :
الجنس :
مكان الإقامة : نجد العذية
عدد المشاركات : 20,738 [+]
آخر تواجد : [+]
عدد النقاط : 49
قوة الترشيح : خيَّال الغلباء is on a distinguished road
الأوسمـة
بيانات الإتصال
آخر المواضيع

التوقيت
Post الخليفة الراشد الخامس / عمر بن عبدالعزيز رحمه الله

كُتب : [ 10 - 04 - 2008 ]

بسم الله الرحمن الرحيم

الخليفة الراشد الخامس / عمر بن عبدالعزيز رحمه الله

بقلم : حمدي شفيق

كان / عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتفقد أحوال الرعية كعادته كل ليلة عندما سمع امرأة تقول لابنتها : قومي إلي اللبن فاخلطيه بالماء . أبت الفتاة أن تفعل قائلة : يا أماه إن أمير المؤمنين / عمر بن الخطاب قد نهى عن غش اللبن بالماء . ردت الأم : وهل يرانا عمر الآن إذا فعلنا ؟ قالت الفتاة الصالحة : يا أماه إذا كان عمر لا يرانا فإن ربه يرانا . مضي الأمير حامدا ربه أن جعل في أمته مثل هذه الزهور الواعدة ، وأسرّ رضي الله عنه في نفسه أمرا . في الصباح استدعي المرأة وابنتها ، وسألهما عما حدث بينهما البارحة ، فقصتا عليه ما حدث بكل الصدق والأمانة . تذكر الفاروق أن ابنه عاصما قد بلغ مبلغ الرجال ولم يتزوج بعد . وهل يجد عاصم زوجة صالحة موفورة العقل والذكاء مثل هذة الفتاة الأمينة ؟

دعا الفاروق ابنه وأشار عليه بخطبة الفتاة ووافق الابن الصالح من فوره . وكأن الأمير الملهم كان يستشف ما وراء حجب الغيب ، ولا عجب فهو الفاروق الذي كان ينطق بالكلمة فينزل القراّن الكريم بها من فوق سبع سماوات !!

فقد ولدت هذه الزوجة التقية لابنه عاصما بنتا سمّاها ليلى كان لها فيما بعد شأن عظيم . وما كان غريبا أن تشب ليلي عن الطوق في بيت الخلافة الراشدة فترضع التقي والعدل والعز ومكارم الأخلاق ، وتتفتح أكمامها يوما بعد يوم ، مبشّرة بفجر جديد يخلق في رحمها ليعيد إلي الأرض ما فقدته حينا من الدهر ، بعد أن ودّعت أربعة من خلفاء رسول الله صلي الله عليه وسلم في أمته ، وتحولت الخلافة الراشدة إلي ملك كريه مغتصب يتوارثه بنو أميّة بغير رضا أو شوري من المسلمين . وقد كان من كرامات الفاروق عمر رضي الله عنه أنّه يلهم بالأمر فيحدث كما توقعه بلا زيادة أو نقصان . وهناك قصته المشهورة عندما صعد إلي المنبر ليخطب الجمعة وفجأة صاح : يا سارية الجبل الجبل ومن استرعي الذئب الغنم فقد ظلم . ويومها عجب الناس وظنّوا بعقل أميرهم الظنون ، ولكن شاء الله أن يأتي البشير بعد ذلك بانتصار جيش سارية على الفرس في نهاوند ، وأخبرهم بأنهم سمعوا في تلك الجمعة التي وقع فيها القتال صوتا يقول يا سارية الجبل الجبل فاحتموا بالجبل وكان هذا سببا لتحقيق النصر بإذن الله .

ومنها أيضا أنه كان يردد كثيرا وكأنه يناجي نفسه بما أطلعه الله عليه سبحانه وألهمه إياه : " ليت شعري من هذا الذي بوجهه شجّة - أثر جرح - من آل عمر يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا ؟! وكان / عبدالله بن عمر رضي الله عنه لا يكفّ عن التبشير بخلافة عمرية أخري قبل قيام الساعة . وكان يقول : يا عجبا ، يزعم الناس أن الدنيا لا تنقضي حتى يلي رجل من آل عمر الخلافة يعمل بمثل عمل عمر . وكانوا يظنون أنه سيكون بلال بن عبدالله بن عمر ، لأن في رأسه علامة تشبه تلك التي جاءت بها الآثار . لكن القدر كان يحتفظ بها لحفيد فتاة أمينة اتقت ربها ، وأبت ذات ليلة أن تبيع دينها بقليل من الماء تزيد به وزن اللبن .

تزوجت / ليلي بنت عاصم بن عمر بالشاب الصالح / عبدالعزيز بن مروان الذي خرج مع أبيه مروان بن الحكم إلي الشام . وقدّر الله للأب أن يلي الخلافة ، فجعل الأمر من بعده لابنه عبدالملك ثم لأخيه عبد العزيز . وفي سنة 65 بعد الهجرة النبوية الشريفة تولى / عبدالعزيز بن مروان حكم مصر . وفي حلوان ولدت ليلى ابنها / عمر بن عبدالعزيز . كانت الغنائم وأموال الخراج تتدفق على بيت المال من كل حدب وصوب ، ولم يكن أمير مصر يأل جهدا في التوسعة علي الرعية من مال الله . وكان يحرص علي تكريم العلماء والصالحين ومنهم / عبدالله بن عمر الذي كان يتلقى الدنانير من / عبدالعزيز بن مروان فيوزعها كلها علي الفقراء والمساكين وأبناء السبيل وغيرهم من المستحقين . وكان / عبدالعزيز يقول لجلسائه : عجبا لمؤمن يوقن أن الله يرزقه ويخلف عليه فيحبس مالا عن عظيم أجر وحسن ثناء ؟!

أحضروا إليه ذات مرة أمواله ليحصيها فإذا هي أكثر من ثلاثمائة مد من الذهب ، وهو قدر يعادل ملاين الدنانير ، لكن الرجل الصالح لم يغتر بكثرة المال ولم يفخر علي جلسائه بنعمة الله الوافرة ، بل انهمرت الدموع علي خديه وهو يقول : والله لوددت أنه بعر ( أي مخلفات الإبل ) ولوددت أني لم أكن شيئا مذكورا ، وددت أن أكون هذا الماء الجاري أو نباتة بأرض الحجاز . كان / عبدالعزيز بن مروان يشعر بثقل التبعة الملقاة علي كاهله ، ويعلم أنه سيحاسب على ما أعطاه الله من السلطة والمال حسابا عسيرا يوشك أن يلقي به في أعماق الجحيم ما لم تدركه رحمة الله ومغفرته . ولهذا كان حريصا علي الإنفاق من ماله ما استطاع إلي ذلك سبيلا ، وكان يتقي الله في أهل مصر ، ولم يكن غريبا بعد ذلك أن يشب أولاده على شاكلته .

من بين أولاد / عبدالعزيز بن مروان كانت للصغير عمر مكانة خاصة في قلب أبويه . كانا يعلمان أن له شأنا أخبر عنه جده الفاروق / عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعم والدته / عبدالله بن عمر وعدد كبير من الصحابة والتابعين الذين أجمعوا علي أن أعدل حكام بني أمية قاطبة سيكون فتي برأسه شجة ( إصابة )، وينتهي نسبه إلي أمير المؤمنين / عمر رضي الله عنه . ولم يكن هذا الأشج سوى الصغير / عمر بن عبدالعزيز الذي تحققت الآية فيه مبكرا .

دخل مرة إلى إصطبل خيول أبيه ليلهو ويلعب فركله جواد في رأسه . ذاب قلب / عبدالعزيز وهو يمسح الدماء الغزيرة من رأس طفله ، وفزعت أمه / ليلي بنت عاصم ، لكنهما أيقنا منذ تلك اللحظة أن الخلافة الراشدة الموعودة توشك أن تصادف موضعا من حفيد ابن الخطاب . راح / عبدالعزيز يخفف ألام الطفل ويهوّن علي زوجته قائلا : " إن كنت يا ولدي أشج بني مروان إنك إذا لسعيد ". وما له ألا يكون هو وقد كانت أمه تدخل عليه في طفولته المبكرة ، فإذا هو يبكي لذكر الموت والحساب . كان الصغير قد أتم حفظ القران الكريم في فترة قصيرة ، وأراد أبوه أن يجعله معه في مصر حيث ولايته ، لكن الفتي الذي لم يكن قد بلغ الرشد بعد قال له : يا أبتي إني أرغب في أمر لعله يكون أنفع لي ولك ؟ سأله أبوه : وما هو ؟ أجاب عمر : ترسلني إلي المدينة فأجلس إلى فقهائها لأتعلم منهم وأتأدب بآدابهم . كان رأى الصغير العبقري صائبا ، فأرسله أبوه إلى / صالح بن كيسان رضي الله عنه - وكان من كبار فقهاء المدينة - ليعلمه . وفي مدينة رسول الله صلي الله عليه وسلم بدأت مرحلة جديدة من حياة الفتي الذي تصنعه الأقدار لأمر عظيم . وكان من حفظ الله له أنه خطا إلى المراهقة والفحولة في المدينة بعيدا عما انغمس فيه أقرانه وبنو عمومته من ملذات ونعيم زائل بأرض الشام التي تحولت في عهد الأمويين إلى بلاد للفتنة والتكالب على حطام الدنيا تشبها بأباطرة الرومان وأكاسرة الفرس . وشتان ما بين فتى يستهل صباه بحفظ القراّن الكريم وما استطاع من الفقه وحديث الرسول صلي الله عليه وسلم والصبر على ملازمة كبار الفقهاء من الصحابة والتابعين ليل نهار ، وآخر يشب بين أحضان الجواري ونعيم القصور الذي ينسي أهلها أمر الآخرة والحساب ، فيقتل فيه الرجولة ويعكر صفاء الذهن ويترك الشاب مسخا مشوها لا يكاد يصلح لشيء .

ربما لم يعرف تاريخ ولاة بني أمية أشر ولا أخبث من / الحجاج بن يوسف الثقفي طاغية العراق الذي باع دينه بدنيا بني مروان بن الحكم ، وسفك دماء مئات الألوف من المسلمين ، وضرب وجوههم ، وشرّد أطفالهم ونساءهم ، واعتقل أشرافهم ، وأذل سادتهم في سبيل تثبيت دعائم الملك الأموي . أجل إنه الحجاج دعوة / عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما على أهل العراق الذين فسقوا ونافقوا ولم يسلم أمير من أذاهم وشقاقهم وخيانتهم . فقد جاءت الرسل إلى / عمر رضي الله عنه يوما ليخبروه بأن العراقيين قذفوا الوالي على منبره بالحصى . غضب عمر حتى سها لأول مرة في صلاته ، وعندما فرغ دعا على أهل العراق قائلا :" اللهم عجل عليهم بالغلام الثقفي يحكم فيهم بحكم الجبابرة لا يقبل من محسنهم ولا يتجاوز عن مسيئهم ".

وكان / علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يدعو على أهل العراق بعد أن خذلوه قائلا : اللهم كما ائتمنتهم فخانوني ونصحت لهم فغشوني ، فسلط عليهم فتي ثقيف الذيّال الميّال يأكل خضرتها ويلبس فروتها ويحكم فيها بحكم الجاهلية . وهو الطاغية المبير ( المهلك ) الذي قال عنه رسول الله صلي الله عليه وسلم " يخرج من ثقيف رجلان كذّاب ومبير ".كما أخبرت السيدة / أسماء بنت أبى بكر الصدّيق رضي الله عنهما .

لم يكتف الحجاج بسفك الدماء الزكية أنهارا بلا ذنب أو دليل ، وإنما أضاف إلى ذلك كبائر من الذنوب لا تحصي ولا توصف . كان يتطاول على كبار الصحابة بما لا يجرؤ على النطق به مسلم ، رغم الإجماع المعروف على كفر من يسب صحابة الرسول صلي الله عليه وسلم . وكان لا يتورع عن فعل أي شيئ ينافق به حكام بني مروان ويرضيهم عنه ولو بسخط الله عز وجل وقهر الأبرياء العزل بلا جريرة . ومن ذلك أنه بعث إلى / عبدالملك بن مروان يحرضه على خلع أخيه / عبدالعزيز من ولاية العهد وتولية ابنه / الوليد بن عبدالملك بدلا منه . وكان حكام بني أمية منذ عهد / معاوية بن أبي سفيان قد دأبوا على توارث السلطة بلا رضا من المسلمين أو إعمال للشورى التي أمر بها القران الكريم . فكان الحاكم الأموي يبعث في الأمصار بالبيعة لمن يشاء من أولاده ، فمن أبى البيعة من الرعية فإن مصيره الموت على الفور بسيوف الولاة الطواغيت . كذلك أخذ / مروان بن الحكم البيعة لولدية / عبدالملك ثم / عبدالعزيز رغبا ورهبا ، لكن / عبدالملك بن مروان بتحريض من الحجاج الثقفي طمع في تولية ابنه الوليد بدلا من أخيه ، فكتب إلى الأخر - وكان / عبدالعزيز واليا على مصر في ذلك الوقت - يطلب منه التنازل عن ولاية العهد للوليد بن عبد الملك .

رفض / عبدالعزيز مطلب أخيه الطامع ، ورد عليه مرشحا لابنه / أبي بكر بن عبدالعزيز بدلا من الوليد . وساءت علاقات الأخوين لذلك السبب ، فأرسل عبدالملك إلى عبدالعزيز يأمره بإرسال خراج مصر إليه خلافا لما تعارفا عليه من قبل . فقد كان والي مصر لا يرسل شيئا من الخراج إلي الخليفة الأموي بدمشق ، وينفقه كله في مصالح المصريين . ولجأ عبدالعزيز إلى ملاطفة أخيه حتى لا يرهق أهل مصر بدفع الخراج ، فكتب إليه يقول : إني وإياك يا أمير المؤمنين قد بلغنا عمرا لا يبلغه أحد من أهل بيتنا إلا كان بقاؤه بالدنيا قليلا ، وإني لا أدري ولا تدري أنت أيضا أينا يأتيه الموت أولا ، فإن رأيت ألا تعتب علي بقية عمري فافعل . تأثر عبدالملك بالرسالة فكف عن محاولات إرغام أخيه على التنازل عن ولاية العهد وترك الأمر لله .

لم يجد حاسدو الفتي الأموي الناضر له عيبا سوي المبالغة في ارتداء أفخر الثياب وأجودها وأغلاها ثمنا . كانت له أموال تدر ريعا سنويا يزيد علي أربعين ألف دينار ، لكنه لم ينس الفقراء والمساكين وأبناء السبيل ، فقد ورث الكرم والمروءة ومحبة المساكين ، وهو وإن كان مترفا ناعما فإنه أيضا شب بين فقهاء مدينة الرسول صلي الله عليه وسلم ومن بقي على قيد الحياة من أصحابه الأبرار وأتباعهم الصالحين . ولهذا كان يفئ إلى الحق عندما يذكره أحد به ، ويقضي الأيام والأسابيع يحاسب نفسه على أدني هفوة خشية أن يميل بها ميزانه يوما تشخص فيه القلوب والأبصار . تأخر الصبي ذات يوم عن صلاة الجماعة فسأله معلمه / صالح بن كيسان : ما شغلك عن صلاة الجماعة ؟ أجاب عمر : كانت مربيتي تسوّي شعري ! قال له المعلم : قدّمت هذا على الصلاة ؟!! وأرسل إلى والده بمصر يخبره بما حدث . غضب / عبدالعزيز بن مروان بشدة على ولده ، وأرسل إليه من مصر رجلا وأمره ألا يكلم ابنه حتى يحلق شعره كله تأديبا له على تأخير الصلاة في تلك المرة اليتيمة . هكذا كانوا يربون الأطفال ويصنعون منهم بإذن الله رهبانا بالليل فرسانا بالنهار . وهكذا نشأ / عمر بن عبدالعزيز ، حتى قال : عنه معلمه وهو لم يزل صبيا غضا : ما علمت أحدا الله أعظم في صدره من هذا الغلام .

كان عمر يغشي مجالس العلم والفقه والذكر في المسجد النبوي الشريف فيسمع من / أنس بن مالك و / سعيد بن جبير و / سعيد بن المسيب و / عبيدالله بن عبدالله بن عتبة و / سالم بن عبدالله و / عروة بن الزبير وغيرهم من كبار الفقهاء والصالحين في عهده . وربما شدد عليه بعضهم وأغلظ له القول وهو يعظه ، فلا يغضب الفتي الأموي ، وهو ابن حاكم مصر وابن شقيق الخليفة الأموي الذي ترتعد أوصال أكثر الرعية فرقا من سيفه ، وتطمح أبصار الكثيرين إلي ذهبه البراق وعطاياه المسرفة للأنصار والحواشي .

كان عمر يتواضع لهؤلاء الأعلام الفحول ، وكانوا هم لا يعبأون بجاه الحكام وسلطانهم وما في أيديهم من أموال ، لأنهم كانوا يزنون الدنيا بالميزان الصحيح ، فلا يجدونها تساوي جناح بعوضة أو ما دونه ، ولا يعنيهم منها إلا أن يعبروها بسلام إلى آخرة خير وأبقي . علم / عبيدالله بن عبدالله بن عتبة رضي عنه إن تلميذه / عمر بن عبدالعزيز تحدث مرّة بلهجة غير مقبولة عن / علي بن أبي طالب كرم الله وجهه . كان الصبي يردد ما اعتاد عليه الأمويون منذ وقع الخلاف على الحكم بين علي ومعاوية رضي الله عنهما .

فأعرض / عبيدالله عن تلميذه طويلا ثم نهره قائلا : متى علمت أن الله سخط على أهل بدر - ومنهم علي - بعد أن رضي عنهم ؟! فهم عمر ما يقصده شيخه فهتف : معذرة إلى الله ثم إليك ، والله لا أعود إلى مثلها أبدا ، فلم يسمعه أحد بعد ذلك يذكر عليا إلا بكل خير .

مات / عبدالعزيز بن مروان في السنة الخامسة والثمانين بعد الهجرة النبوية الشريفة . ورغم تأثر / عبدالملك بن مروان بوفاة أخيه ونائبه على مصر ، إلا أنه لم يستطع أن يكتم فرحته بالفرصة التي واتت ابنه الوليد ليكون وليا للعهد بعد وفاة عمه . إنه الحرص على الملك والتشبه المرذول بالفرس والرومان ، وليست الخلافة التي كانت في عهود أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب رضوان الله عليهم . وسرعان ما انتهز / عبدالملك الفرصة فأرسل إلي نوابه في البلاد قبل أن تجف الدماء في عروق أخيه المسجى يأمرهم بأخذ البيعة لابنه ، فبايعت الرعية خشية سيوف الجبابرة في دمشق وسائر بلاد المسلمين حتى مكة والمدينة ، لكن رجلا واحدا في مدينة الرسول العظيم أبي البيعة الجائرة بحد السيف . إنه عالم المدينة التابعي الجليل / سعيد بن المسيب رضي الله عنه . أنكر الرجل الصالح ما يفعله عبيد السلطة والجاه الذين اّثروا أنفسهم وأهليهم بالأموال والخراج والغنائم ، ولم يجعلوا حدا فاصلا بين أموالهم الخاصة وأموال المسلمين ، وجاهر بنقد سلوكيات الأسرة الأموية الحاكمة ، ودعا الناس إلي رفض البيعة التي لا تقوم على أساس من الإختيار الحر الهادف إلى تحقيق مصلحة الإسلام والمسلمين . وهنا أسفرت السلطة الغاشمة عن وجهها القبيح ، فأرسل / عبدالملك بن مروان إلى نائبه على المدينة / هشام بن إسماعيل يأمره بالقبض على العالم الجليل والتنكيل به على مرأى ومسمع من أهل مدينة الرسول صلي الله عليه وسلم ليكون عبرة للناس فيبادروا بالإمتثال والطاعة للسادة الحكام .

ورأي الفتي اليافع / عمر بن عبدالعزيز مشهدا أسخطه وملأ نفسه الزكية كربا وأسى . اقتاد جنود الوالي الغشوم / هشام بن اسما عيل العالم الجليل ذات صباح إلى وسط المدينة مكبّلا بالأغلال ، وراحت سياطهم الفاجرة الآثمة تلهب ظهره الطاهر في جنون وحشي ، والناس يرتعدون هلعا ، وكلهم يأسي لما أصاب الشيخ المبارك ، لكن أحدا لا يجرؤ على التصدي للطغاة الذين سفكوا الدماء وأذلوا الرقاب في سبيل تنفيذ رغبات ملوك بني أمية .

لم يكتفوا بجلد ولي الله أمام أهله وتلاميذه ، بل ألبسوه ثيابا من الشعر ووضعوه على ظهر جمل أجرد وطافوا به مدينة الرسول صلي الله عليه وسلم حتى قالت له امرأة في حسرة : ما هذا الخزي يا سعيد ؟! تقصد أن تلومه على ما صنعه بنفسه ، فرد عليها في يقين موضحا لها أن الخزي ليس في تعرضه للعذاب والبطش ، ولكن الخزي والذل في طاعة الحكام الظالمين وتلبية أوامرهم ورغباتهم . وقد أودع الفقيه العظيم سجن المدينة مرة أخري ، لكنه أصر على موقفه المناهض للظلم والباطل والطغيان . ولعل هذا كان أعظم درس تلقاه / عمر بن عبدالعزيز من أستاذه ومعلمه / سعيد بن المسيب رضي الله عنه طول فترة مكثه بالمدينة .

إن العالم أو الداعية لا ينبغي له أن يشتري بآيات الله وأحكامه ثمنا قليلا تافها من دنيا الناس الفانية ، وإنما عليه أن يقف - ولو وحيدا - ليصدع بكلمة الحق في وجه السلطان الجائر مهما ناله من بطش وأذى ، وهذا أفضل الجهاد عند الله عز وجل .

استدعي / عبدالملك بن مروان ابن شقيقه / عمر بن عبدالعزيز إلى دمشق بعد وفاة أبيه . كان عمر قد بلغ مبلغ الرجال وتجمعت فيه كل الصفات التي ترجى في الشباب وهى التقوى والعلم والفتوة والجمال وغني النفس والمال . وماذا يبغي / عبدالملك بن مروان بعد ذلك من شروط فيمن يتزوج ابنته الحسناء فاطمة ؟ إن عبدالملك بما لديه من فطنة وفراسة كان يرى في عمر دون باقي أبناء إخوته وأقاربه من الأمويين نموذجا نادرا ، ولهذا كان طبيعيا أن تقع عينه الخبيرة الفاحصة عليه هو بالذات ليرشحه زوجا لأكرم الناس عليه وأحبهن إليه وأحظاهن لديه وهي ابنته الوحيدة فاطمة . وكان عبدالملك يقرب عمر إليه ويدنيه من مجلسه ولا يخفي إعجابه بعلمه وتقواه . ولم ينس قبل وفاته أن يوصي ابنه الوليد بأخته فاطمة وزوجها / عمر بن عبدالعزيز . كما أثرها بأغلى الحلي والجواهر التي كانت تحمل إليه من غنائم الفتح في بلاد فارس والروم وأفريقية وغيرها .

على أن هذا لم يؤثر على مشاعر عمر رضي الله عنه الذي كان ينقم على عمه إسرافه مثل غيره من حكام بني أمية في قهر الرعية وكثرة المظالم التي ارتكبها في سبيل المحافظة على عرشه والقضاء على شتئ الحركات المناوئة لحكمه . كما لم ينس / عمر بن عبدالعزيز أن عمه جاء بالطاغية الثقفي / الحجاج بن يوسف ، وأطلق يده في البطش بكل من يخالف النظام الأموي . وحتى أم القرى البلد الحرام لم يتورع جنود الحجاج عن انتهاك حرمتها ، وضربوا الكعبة المشرفة بالمنجنيق ، وأحرقوا أستارها ، وأفسدوا موسم الحج ، وقتلوا / عبدالله بن الزبير رضي الله عنه لمجرد أنه رفض مبايعة أحد بعد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه .

كذلك بطش الحجاج - برضاء من عبدالملك - بأهل العراق والمدينة وبلاد الفتح في فارس وما وراءها ، كما لم يسلم / هشام بن إسماعيل نائب عبدالملك على المدينة وغيره من الولاة من ارتكاب العديد من الجرائم المنكرة والمظالم الفاجرة نزولا على أوامر بني مروان . وقد فزع / عمر بن عبدالعزيز عندما بلغته مقولة عمه عبدالملك : قد أصبحت لا أفرح بالحسنة إذا فعلتها ، ولا أحزن للسيئة إذا ارتكبتها ، فقد أدرك أنها دليل كما قال / سعيد بن المسيب رضي الله عنه على موت قلبه وأنه صار من الغافلين .

كذلك كظم عمر غيظه وهو يسمع عمه قبيل موته يوصي ولي عهده الوليد بتكريم / الحجاج بن يوسف طاغية العراق بحجة أنه هو الذي : " مهد لبني مروان البلاد وقهر الأعداء وخلصّ لعبدالملك وبنية الحكم وشتت الخصوم " !! ثم وهو يوصيه أيضا قائلا له : إذا أنا مت فادع الناس إلى بيعتك . فمن أبي فاضرب عنقه بالسيف !!

يا إلهي . حتى وهو على فراش الموت لا يتورع عن إسداء النصائح الآثمة والأوامر الفاجرة إلى ولي عهده بأن يواصل السير على درب القهر والظلم والطغيان ، فيكرم السفاح الدموي الثقفي ، ويطيح برقاب المسلمين إذا رفضوا توارث الحكم والاستئثار بالسلطة !! لهذا لم يكن عجيبا أن تسودّ وجوه هؤلاء بعد موتهم وأن يندم أحدهم ويلطم وجهه بيديه - وهو عبدالملك نفسه - ويلوم نفسه لأنه قبل الحكم وفرّط في طاعة الله عز وجل .

استهل / الوليد بن عبدالملك عهده بالبدء في بناء المسجد الأموي الكبير في دمشق عاصمة الخلافة في ذلك الوقت . وقد استمر تشيد هذا الصرح الحضاري الهائل طوال فترة خلافة الوليد وهي تسع سنوات ونصف السنة . ويروي أنه لم ينفق على بناء المسجد درهما واحدا من أموال المسلمين وإنما أنفق عليه 11 مليون دينارا من ماله الخاص . وأبى بشدّة أن يتحمل بيت المال شيئا من تكاليف بناء المسجد . ورغم اجتهاده في استمرار الفتوحات الإسلامية وإرسال الجيوش بصفة دائمة إلى بلاد الروم وأفريقيا وغيرها ، إلا أنه كان لا يتورع عن قمع المعارضين بقسوة وشراسة تماما كما أوصاه أبوه وهو على فراش الموت . وشاء قدر الله أن تمر بالناس نفحات من رحمته ، فقرر الوليد عزل / هشام بن إسماعيل عن إمارة مدينة الرسول صلي الله عليه وسلم في سنة 87 بعد الهجرة ، وعيّن بدلا منه ابن عمه وزوج أخته / عمر بن عبدالعزيز . كان عمر قد بلغ خمسا وعشرين سنة عندما ركب بعيره في شهر ربيع الأول من هذا العام إلى يثرب ليباشر أعباء الولاية . نزل الوالي الشاب دار جده / مروان بن الحكم . وجاء الناس أفواجا يصافحون الأمير الجديد بسعادة بالغة ، وألسنتهم تلهج بحمد الله تبارك وتعالى أن جعل لهم بعد العسر يسرا ، ورفع عنهم ظلم الطاغية / هشام بن إسماعيل ، واستبدله بالفتي التقي الذي تربي بين ظهرانيهم وتشرّب العلم والورع من كبار علمائهم وفقهائهم . وكان أول ما فعله عمر رضي الله عنه بعد صلاة الظهر بالمسجد النبوي الشريف هو دعوة عشرة من كبار فقهاء المدينة هم / عروة بن الزبير ، و / عبيدالله بن عبدالله بن عتبة ، و / أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام و / أبو بكر بن سليمان بن خليفة و / سليمان بن يسار و / القاسم بن محمد و / سالم بن عبدالله بن عمر وأخوه / عبدالله بن عبدالله بن عمر و / عبدالله بن عامر بن ربيعة و / خارجة بن زيد بن ثابت .

دخل العشرة الكبار إلى مجلس الأمير الشاب ليعرفوا لماذا دعاهم وليسمعوا كيف يحكم هذا الفتى المدينة ، وهو الذي توسموا فيه الخير والصلاح منذ جاء إلى مجالسهم طفلا غضا يطلب العلم . حمد عمر ربه وأثنى عليه بما هو أهل له ثم قال موجها حديثه لأستاذته العشرة : " إني لا أريد أن أقطع أمرا إلا برأيكم . فإن رأيتم أحدا يتعدّى أو بلغتكم عن عامل لي مظلمة - ظلما للرعية - فاستحلف من بلغه ذلك أن يطلعني عليه ". بهذه العبارات المشرقة بدأ الأمير الشاب ولايته على مدينة رسول الله . لقد اختار مجلسا للشورى يضم كبار الفقهاء ووجهاء المسلمين من ذوي العلم والكفاية والعدالة والمكانة ليشاركوا في تحمل المسئولية ويشيروا عليه بالرأي الصواب ، لأن يد الله مع الجماعة ، ومن استبد برأيه فقد هلك . وهو أيضا يشدّد التنبيه على هؤلاء الصالحين الصادقين ألّا يتركوا واقعة تبلغ مسامعهم عن أي عامل من عماله يظلم فيها أحدا من الناس إلا أبلغوها له شخصيا ، حتى يتخذ فيها إجراء رادعا يعيد الحق إلى أهله ، ويعاقب العامل الظالم بشدّة كي لا يعيد الكرّة . خرج العلماء العشرة من مجلس / عمر بن عبدالعزيز وهم يدعون له بالتوفيق والعون والرشد . وكانت الخطوة التالية التي أقدم عليها عمر هي تمكين أهل المدينة من نيل حقهم المشروع في القصاص من الحاكم الظالم / هشام بن إسماعيل الذي أذاقهم ألوان العذاب والتنكيل طيلة 4 سنوات . ومن آيات أولياء الله الصادقين أنهم يعفون عند المقدرة ولا يجزون بالسيئة السيئة ، بل يحسنون إلى من اّذاهم وبطش بهم ، وهذا ما فعله العالم الجليل / سعيد بن المسيب و / علي بن الحسين رضي الله عنهما بهشام بن إسماعيل .

وربما كان من خصائص حكام بني مروان أنهم خلطوا أعمالا صالحة بأخرى سيئة ولم يخل أحدهم من مناقب حسنة وإن أساء وتعدي وظلم . وهم في جميع الأحوال بشر ابتلاهم الله بالرعية وابتلى الرعية بهم وابتلى الطائفتين بالدنيا . وليس مستحيلا أن تكون للجواد الأصيل كبوة وربما كبوات ، وأمر الجميع إلى الله إن شاء عذب وإن شاء غفر . لقد اتسعت الفتوحات الإسلامية في عهد الأمويين بصفة عامة ، وكان الجهاد في سبيل الله فريضة ألزم بها الخلفاء أنفسهم وجيوشهم ، وأوصوا بها أولادهم ومن يأتي بعدهم ، واجتهدوا جميعا في العبادة والعلم ومحاربة الفتن والخرافات والأباطيل ونشر دعوة الإسلام وتعظيم شعائر الله. وعلي سبيل المثال فقد كان / عبدالملك بن مروان فقيها من المعدودين بالمدينة قبل توليه الخلافة ، وكان ابن عمر رضي الله عنه يرشحه للإفتاء وتدريس العلم . وقال أبو الزناد : فقهاء المدينة أربعة / سعيد بن المسيب و / عروة بن الزبير و / قبيصة بن ذؤيب و / عبد الملك بن مروان . وفي عهد عبدالملك اتسعت رقعة الدولة الإسلامية بضم بلاد ومناطق من المغرب وأرمينية وبلاد الفرس والروم . وكان ابنه الوليد حريصا على استمرار الجهاد في عهده ، وفتحت علي يديه الهند والأندلس وأفغانستان وأذربيجان وغيرها . وكان من أكثر الخلفاء اهتماما بالتشييد والعمران وخاصة بناء المساجد ومنها المسجد الأموي العريق بدمشق ، والمسجد النبوي الذي أصدر أمره إلى واليه على المدينة – عمر بن عبدالعزيز - بإعادة بنائه وتوسعته بإضافة حجرات أزواج الرسول صلي الله عليه وسلم وشراء ما حوله من الأراضي والبيوت بثمن عادل أو نزعها من أصحابها - بثمن أيضا إن رفضوا البيع - في سبيل توسيع مساحة مسجد النبي صلي الله عليه وسلم .

وكعادته جمع / عمر بن عبدالعزيز من بقي حيا من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم وفقهاء المدينة العشرة وكبار الصالحين وذوي المكانة في يثرب ، وقرأ عليهم كتاب الوليد . كان هدم المسجد النبوي أمرا شاقا على النفوس ، وقال الفقهاء والصالحون إن حجرات زوجات الرسول صلي الله علية وسلم المتواضعة يجب أن تبقي على حالها ليعتبر بها الحجّاج والزوار القادمون من شتى بلاد المسلمين ويقتدون بما تمثله من الزهد والبساطة والقناعة من الدنيا باليسير ، فقد كانت حيطانها من الطوب اللبن المصنوع من الطين الذي لم يدخل النار ، وكانت سقوفها من جريد النخل ، وعلى أبوابها المسوح - أثواب مصنوعة من الشعر - فأراد الفقهاء أن تبقى على حالها ليري الناس بيوت نبيهم البسيطة فيزهدوا في الدنيا ولا يعمّرون فيها إلا بقدر الحاجة ، وهو ما يستر ويكن . وقال العلماء في ردهم على أمر الوليد : " إن البنيان العالي هو من أفعال الفراعنة والأكاسرة وكل طويل الأمل في الدنيا راغب في الخلود بها . وإزاء هذا الرأي توقف عمر رضي الله عنه وبعث إلى الوليد بما أجمع عليه العلماء وأهل الرأي والشورى . لكن الوليد رفض الانصياع لرأي الفقهاء ونفّذ رغبته هو في هدم المسجد وإعادة بنائه على أحدث طراز في ذلك الوقت مع توسيعه بمقدار مائتي ذراع طولا وعرضا . وللإنصاف نقرر أن الوليد كان أبعد نظرا وأصوب رأيا ، فقد كثر الناس واحتاج الحرم إلى عدة توسعات فيما بعد كما رأينا في عصرنا هذا . وما كانت تلك التوسعات ممكنة إلا بهدم الحجرات وإضافة مساحتها إلى المسجد . كما أنه لا حرمة لمبنى أو مكان في الإسلام إلا الكعبة المشرفة والمسجد النبوي والقبر الشريف وليس لحجرات زوجات النبي في ذاتها . وقد تولي / عمر بن عبدالعزيز إمرة الحج خلال العامين الأولين من خلافة الوليد وصلى بالناس صلاة الاستسقاء فأمطرت مكة وما حولها وأخصبت أرضيها بصورة غير معهودة ، ولعلها بركات الوالي العادل أشج بني مروان .

سار / عمر بن عبدالعزيز في أهل المدينة سيرة جده العظيم / عمر بن الخطاب . وسعد به الصحابة والتابعون لما وجدوا فيه من القدوة الصالحة لغيره من الحكام ، وعوضا للمسلمين عما يفعله / الحجاج بن يوسف وغيره من عمال / الوليد بن عبدالملك . قال عنه الصحابي الجليل / أنس بن مالك رضي الله عنه : " ما صليت وراء إمام - بعد رسول الله صلي الله عليه وسلم - أشبه صلاة بالرسول صلي الله عليه وسلم من هذا الفتي " . يقصد / عمر بن عبدالعزيز أمير المدينة . وقال / زيد بن أسلم رضي الله عنه : كان عمر يتم الركوع والسجود ويخفف القيام والقعود . وجاء إليه رجل صالح ذات يوم فأخبره بأنه رأى النبي صلي الله عليه وسلم في المنام ، وكان / أبو بكر رضي الله عنه يجلس على يمينه ، و / عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجلس على يساره وأمامهم رجلان يختصمان وبين يدي الرسول صلي الله عليه وسلم كان / عمر بن عبدالعزيز جالسا . وقال النبي صلي الله عليه وسلم لابن عبدالعزيز : " يا عمر إذا عملت فاعمل بعمل هذين – أبو بكر وعمر بن الخطاب ". ولم يطمئن عمر بن عبدالعزيز حتى أقسم له الرجل أنه رأى هذا في منامه وتحقق من كل كلمة أمره بها الرسول صلي الله عليه وسلم . حينئذ لم يتمالك / عمر بن عبدالعزيز وجعل يبكي مشفقا على نفسه من ثقل التبعة ، ووعورة الطريق ، وقلة الزاد ، وبعد السفر . ورغم كثرة الصحابة والتابعين الأجلّاء في مكة والمدينة كان / عمر بن عبد العزيز - رغم حداثة سنه - يؤم الناس في الحج طيلة سنوات ولايته على مدينة الرسول صلي الله عليه وسلم ، اللهم إلا سنة واحدة حج فيها بالناس / الوليد بن عبدالملك ، وصحبه عمر خلالها أيضا . وقد استطاع عمر رضي الله عنه أن يلطّف من حدّة / الوليد بن عبد الملك ، وأن يقنعه بالتخلي عن إيذاء كبار الفقهاء والصالحين الذين رفضوا بيعته ، على خلاف ما كان الحجاج الخبيث يفعل زلفى ونفاقا للوليد .

خرج أشراف المدينة لاستقبال / الوليد بن عبدالملك أثناء مروره بها في طريقه إلى الحج ، ولم يخرج معهم فقيه المدينة / سعيد بن المسيب رضي الله عنه الذي تعرض للضرب والسجن والتشهير لرفضه مبايعة الوليد . وأراد الوليد أن يصلي بالمسجد النبوي الشريف فأخلاه حراسه من الناس ، لكن أحدا لم يجرؤ على إخراج عالم المدينة / سعيد بن المسيب من المسجد . حدث هذا رغم أن العالم الجليل كان يرتدي في تلك اللحظات ثوبا رخيصا ثمنه خمسة دراهم !! ولكن متى كان للثياب دور في تقييم الرجال ، أو احتساب مكانة العلماء وأقدار أهل الطاعة والتقوى ؟ تجاسر أحد الحراس فقال لسعيد : تنح عن المسجد أيها الشيخ فإن أمير المؤمنين قادم . غضب ولي الله من جرأة زبانية الحاكم ، وسوء أدبهم في مسجد رسول الله صلي الله عليه وسلم .

إذ لم يفعلها أحد من الخلفاء الراشدين ، فلم تكن الشرطة تطرد العامة من المسجد النبوي ليصلي فيه أبو بكر أو عمر أو عثمان أو علي بن أبي طالب . ومن هو الحاكم ؟ إنه داخل المسجد أو خارجه ليس إلا واحدا من المسلمين ، لا فضل له على الآخرين ، ولا يجوز له أن يتميّز على أفقرهم بشيء سوى التقوى والعلم وحسن الأدب مع الله . وهكذا أصرّ سعيد على عدم طاعة الأوامر ، ورفض أن يغادر المسجد مهما حدث . استولى الرعب على الحراس فقد كان الوليد جبارا رهيبا إذا غضب ، وخشي الجميع أن ينقم الوليد على العالم الجليل عزّة نفسه ، وقلة اكتراثه بالحاكم ، وبصفة خاصة لأنه رفض أن يبايعه من قبل . ولم يكن ابن المسيب يحب عبدالملك ، وأعلن رفضه القاطع لانتقال السلطة بالميراث البغيض الذي لا شوري فيه ولا رأي للمسلمين . وكان قد رفض أيضا تزويج ابنته الحسناء للوليد بن عبد الملك وأنكحها تلميذا فقيرا من تلاميذه هو / كثير بن وداعة وكان مهرها درهمان فقط !!. مما تسبب في ازدياد سخط / عبدالملك وولده على سعيد .

دخل الوليد إلى المسجد النبوي ومعه / عمر بن عبدالعزيز . صلى الرجلان في مختلف أرجاء المسجد ، وجعل الوليد يتنقل هنا وهناك ليدعو ويستغفر ربه ، وعمر يحاول أن يبعده عن الموضع الذي كان / سعيد بن المسيب جالسا فيه وحده . تلفت الوليد أثناء تفقده للمسجد فرأي الشيخ الجليل . سأل رفيقه : من هذا ؟ أهو / سعيد بن المسيب ؟ أجاب / عمر بن عبدالعزيز : نعم يا أمير المؤمنين ، ولو علم أنك قادم لقام إليك وسلم عليك – قال عمر ذلك كي لا يغضب الأمير على الشيخ – لم يصدّق الوليد وقال لعمر : قد علمت بغضه لنا . فسارع عمر رضي الله عنه بالنفي ، وأثني على العالم الجليل ، وأفاض في سرد مناقبه وسجاياه حتى أقر الوليد بفضله ومكانته . وقال : عمر مدافعا عن الفقيه المسنّ : يا أمير المؤمنين إنه ضعيف البصر – يعني أن ضعف بصره جعله لا يرى الخليفة وهو يدخل المسجد فلم يقم له – فرد الوليد : نحن أحق بالسعي إليه .

ورأي الناس يومئذ عجبا / الوليد بن عبدالملك أقوي حكام الأرض في تلك الفترة ، الذي فتحت جيوشه معظم قارتي أسيا وأفريقيا وأجزاء كبيرة من شرق أوروبا ، يقف بكل قوته وسلطانه وأمواله خاشعا مترفقا أمام كهل أعزل عليه ثوب بخمسة دراهم !! ويلقي الوليد عليه السلام ، فيرد الشيخ الجليل السلام وهو جالس في موضعه لم تهتز في جسده شعرة !! ولم الدهشة ؟ أليس هو نفسه العالم والفقيه الذي رفض من قبل أن يزوّج ابنته للوليد بن عبدالملك بن مروان وجلب على نفسه الأذى في ذلك الحين بسبب رفضه لهذه المصاهرة المشرّفة بمقاييس أهل الدنيا !!؟

سأله الوليد : كيف حال الشيخ ؟ رد سعيد بن المسيب : بخير والحمد لله وحده . كيف حال أمير المؤمنين ؟ رد الوليد : بخير والحمد لله . بهذه العبارات القصيرة انتهت المقابلة ، ومضي الوليد من المكان وهو يردد مشيرا إلى / سعيد بن المسيب : هذا فقيه الناس !! إنه الإسلام العظيم الذي يربّي في النفوس العزة والكرامة والشجاعة ، فلا ترهب إلا الله ولا تخضع لسواه .

ويبدو أن / الحجاج بن يوسف الثقفي عزّ عليه أن يسمع ثناء الناس ودعواتهم لعمر بن عبد العزيز ، بينما كانوا يصبّون عليه لعناتهم ليل نهار لما يسفك من الدماء ويستحل من المحرمات وإن كان مجتهدا متعبّدا فيما دون ذلك . اشتعل حقد الطاغية الثقفي أكثر وكاد صدره ينشق غيظا عندما سمع برأي عمر فيه ، وعلم أنه أرسل إلي الوليد يطالبه بإبعاد الحجاج لكف الظلم عن الرعية . وجاء بالرسالة على لسان عمر : " إن أهل العراق في ضيم وضيق مع الحجاج لظلمه وغشمه ، ولو جاءت كل أمة بخطاياها ، وجاء بنو مروان بالحجاج وحده لكفاهم ". وطالب الحواري الصالح ابن عمه – الخليفة – بعزل الحجاج والقصاص منه ورد حقوق المسلمين المغتصبة إليهم . وكعادة كل الظالمين المستبدين ، تشبث الحجاج بكل قواه بموقعه وكرسيه ، ولجأ إلى الدس والوقيعة بين الوليد و / عمر بن عبدالعزيز ليبقى في منصبه . كتب الطاغية إلى / الوليد بن عبدالملك يحذره من خطورة استمرار / عمر بن عبدالعزيز في ولايته على المدينة ومكة ، زاعما أن سياسة عمر من شأنها أن تفسد الرعية على الخليفة ، ولا تستقيم معها أحوال الدولة ! وقال طاغية العراق للوليد : " إن عمر ضعيف عن إمرة الحرمين ، وهذا ضعف في الحكم ، فاجعل على الحرمين - مكة والمدينة – من يضبط أمرهما " !!. واّثر الوليد الدنيا والهوى فأبقى على السفاح الثقفي ، وعزل والي المدينة العادل !! كذلك أغري / الحجاج بن يوسف أميره / الوليد بن عبدالملك بخلع أخيه / سليمان من ولاية العهد ليعهد بدلا منه إلى ابنه / عبدالعزيز بن الوليد . إنها ذات اللعبة الخبيثة التي فشل في إتمامها مع / عبدالملك بن مروان وأخيه عبدالعزيز !! وقد فشل هذه المرة أيضا بسبب رفض / عمر بن عبدالعزيز . وانتهز الحجاج الفرصة السانحة فألهب صدر الوليد وحرّضه على ابن عمه ، وما زال به حتى أمر بحبسه في مكان سدت جميع منافذه ليموت جوعا وعطشا !! وتسامع الناس بما فعل الوليد بزوج أخته وابن عمه حاكم المدينة السابق الذي تحدثت بورعه وعلمه وتقواه الركبان في البوادي ، والمنتديات في الحضر .

وبدأت بوادر ثورة شعبية هائلة تلوح في الأفق ، ونقل جواسيس الوليد إليه ما يتحدث به الناس في سخط متزايد عن اعتقال / عمر بن عبدالعزيز لوقوفه ضد الظلم والطغيان . ورأى الوليد أجواء البلاد مليئة بسحب قاتمة من غضب يوشك أن يمسي جحيما لا يبقي ولا يذر ، فاضطر إلى إخلاء سبيل ابن عمه - بعد ثلاثة أيام فقط - قبل اندلاع الثورة فى دمشق ومكة والمدينة وغيرها من بلاد المسلمين .

وشاء القدر أن تعم الفرحة بعد ذلك بقليل بهلاك / الحجاج الثقفي – في سنة 95هـ - وبموته انهار ركن كبير من أركان دولة بني مروان واستراح أهل العراق أخيرا من إجرامه وطغيانه . كما لم يلبث / الوليد بن عبدالملك أن مرض وتوفي في يوم السبت منتصف شهر جمادى الآخر عام 96 هـ. وحمل جثمان الوليد إلى قبره . وخطب / عمر بن عبدالعزيز الذي صلى عليه وتولى دفنه في الناس ووعظهم قائلا : " هذا / الوليد بن عبدالملك يلقى ربه . فاليوم ننزله غير موسد ولا ممهد ، قد خلف الأسلاب ، وفارق الأحباب ، وسكن التراب ، وواجه الحساب ، فقيرا إلى ما قدم ، غنيا عما أخر ".

تولي الخلافة بعد الوليد أخوه / سليمان بن عبدالملك واستهل عهده بتعيين ابن عمه / عمر بن عبدالعزيز مستشارا ونائبا له . وقد كان سليمان عاقلا عادلا شديد التواضع يريد الإصلاح ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، ولم يكن يلهث وراء مجد شخصي زائل ، ولهذا لم يجد عيبا في أن يصارح ابن عمه وزوج أخته / عمر بن عبدالعزيز قائلا : " إنّا قد ولينا ما ترى ، وليس لنا علم بتدبيره ، فما رأيت من مصلحة الناس فمر - أصدر أمرا به – فليكتب ". وقد أعطى بذلك لمستشاره / عمر بن عبدالعزيز - تفويضا صريحا بلا حدود لاتخاذ ما يراه صالحا من قرارات وتنفيذه على الفور . وكان عمر رضي الله عنه وزير صدق عند حسن الظن به ، فبدأ رضي الله عنه بنواب الحجاج على البلاد فعزلهم وأراح الناس من ظلمهم ، وأمر بإطلاق جميع السجناء والأسري الذين اعتقلهم الحجاج الثقفي بلا ذنب .

وكان عددهم يزيد على 81 ألف سجين منهم 30 ألف امرأة !! وقرر عمر تخصيص جزء كبير من موارد الدولة للإنفاق على الفقراء والمساكين وغيرهم من المستحقين ، وخاصة في العراق التي حرم الحجاج معظم أهلها من أنصبتهم المستحقة في بيت المال . وأمر برد الصلاة إلى ميقاتها . وكان الحكام من بني مروان يؤخرون الصلوات عن أوقاتها إتباعا للهوى بلا نص شرعي أو سنّة ثابتة . وكان من أوامره إرسال جيش كبير لغزو القسطنطينية وجهاد أهلها الذين بغوا على جيرانهم من المسلمين . واستمر هذا حال الخليفة ونائبه طوال فترة حكم سليمان - سنتان وثمانية أشهر – وقد شهد الكثيرون لسليمان بن عبد الملك بالتقوى والصلاح ، وذكروا أنه كان شديد الورع يحافظ على الصلوات ، وينهى عن الغناء لأنه رسول الشيطان ، ويبكي من خشية الله .

وقد حج رضي الله عنه بالناس سنة 97 هـ ، فعجب لكثرة الحجيج ، وقال لعمر بن عبد العزيز : ألا ترى هؤلاء الحجّاج الذين لا يحصي عددهم إلا الله ولا يسع رزقهم غيره ؟! فقال له عمر : يا أمير المؤمنين هؤلاء رعاياك اليوم ، وهم خصماؤك غدا أمام الله تعالي . فبكي سليمان بحرارة وقال : بالله استعين .

ثم خرج / سليمان بن عبدالملك إلى مرج دابق بعد خروج جيش أخيه / مسلمة بن عبدالملك لفتح القسطنطينية وتأديب الرومان الذين غدروا بجانب من جيش المسلمين ، وأوهموهم بالمصالحة والأمان ، ثم قتلوا عددا منهم وأسروا الباقين . وأقسم سليمان ألا يرجع إلى دمشق حتى يفتح الجيش مدينة القسطنطينية أو يقبضه الله إليه قبل ذلك . وشاء القدر أن تتحقق الثانية ، إذ أصيب سليمان بالحمى وأحس أسفا باقتراب أجله قبل أن يأتي خبر النصر .

وجاء إليه الوزير الصدوق / رجاء بن حيوة فسأله سليمان : لمن يعهد بأمر المسلمين ؟ أجاب رجاء : إن مما يحفظ الخليفة في قبره أن يولّي على المسلمين رجلا صالحا . قال سليمان : ما تقول في ابني داود ؟ أجاب رجاء : إنه غائب عنك – كان في جيش مسلمة الذي توجه لفتح القسطنطينية – ولا ندرى هل حي أو ميت . عاد سليمان يرشح ابنا له صغيرا لم يبلغ الحلم فعارضه / رجاء بن حيوة حتى صرفه عن ذلك . سأله سليمان : ما تري في / عمر بن عبدالعزيز ؟

استبشر رجاء خيرا وقال : أعلمه والله خيّرا فاضلا مسلما يحب الخير وأهله . صاح سليمان : هو والله على ذلك – يقصد أنه سينفذ ترشيحه لعمر بن عبدالعزيز وإن رفض إخوته أبناء عبدالملك – وهنا فكر الوزير الذكي لبعض الوقت ، ثم قال لسليمان : أرى أن تجعل ولاية العهد بعد / عمر بن عبدالعزيز ليزيد بن عبدالملك ليرضى بذلك بنو مروان . ووافق سليمان وكتب عهده لعمر واستدعى / كعب بن حامد العبسي صاحب الشرطة فقال له : اجمع أهل بيتي ومرهم فليبايعوا على ما في هذا الكتاب – مغلقا – فمن أبى منهم فاضرب عنقه . وجاء إخوة سليمان والأمراء والوجهاء وأبناؤهم وأبناء عمومته ليزوروه وفوجئوا به يأمرهم بالبيعة لمن عهد إليه في الكتاب المختوم قبل أن يموت .




التعديل الأخير تم بواسطة خيَّال الغلباء ; 18 - 06 - 2008 الساعة 10:34
رد مع اقتباس