عرض مشاركة واحدة
 
غير متصل
 رقم المشاركة : ( 1 )
خيَّال الغلباء
وسام التميز
رقم العضوية : 12388
تاريخ التسجيل : 01 - 03 - 2007
الدولة : ذكر
العمر :
الجنس :
مكان الإقامة : نجد العذية
عدد المشاركات : 20,738 [+]
آخر تواجد : [+]
عدد النقاط : 49
قوة الترشيح : خيَّال الغلباء is on a distinguished road
الأوسمـة
بيانات الإتصال
آخر المواضيع

التوقيت
Post البحث التاريخي وأخلاقيات المنهج

كُتب : [ 27 - 01 - 2009 ]

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث التاريخي وأخلاقية المنهج :

ما أكثر الأخطاء التي يقع فيها كُتَّاب التاريخ !! ومن أخطائهم المنهجية : إهمال ( الدقائق والتفصيلات )، والاكتفاء بالوقوف أمام الأحداث الكبيرة المتوهجة ، وإصدار الأحكام تأسيسًا عليها ، والكاتب الذي يسلك مثل هذا المسلك لا يعدو - في نظري - كونه " مشاهدًا أو متفرجًا " يرى بالبصر ، ولكنه معطل البصيرة ، والبصيرة العلمية تعتمد على الاستنباط والتعمق ، وربط الأسباب بالمسببات ، والعلل بالمعلولات ، والأحداث الظاهرة الطافية على السطح بجذورها الضاربة في الأعماق .

بين القديم والحديث :

وقبل أن نعرض لمزالق أخرى يقع فيها كثير من المؤرخين وكتَبة التاريخ أجدني أمام سؤال يطرح نفسه ، مؤداه : أيُّهما أسهل تناولاً وأقل مزالق ، وأوضح سُبلاً : التاريخ القديم أم التاريخ الحديث ؟ ولعلي أكون في جانب الصواب إذا رأيت أن دراسة التاريخ القديم أسهل- إلى حد كبير - من دراسة التاريخ الحديث ، مع أن هذا الأخير أوفر مصادر ، وقد يلتقي الباحث المصادر الحية من الشهود الذين عاصروا الأحداث ، وأراني أستند في رؤيتي هذه إلى الأسباب التالية :

-1- التاريخ القديم استكمل كل ملامحه وسماته ، أو أغلبها ، ومِنْ ثَمَّ لا يعوز عهوده النضج والتكامل ، إنه أشبه ما يكون بالوجبة الناضجة الجاهزة ، أو الجسد المستعد للتشريح ، بينما التاريخ الحديث لمَّا يستكمل حلقاته ، ولمَّا تتجمع عناصره التي يتكون منها الموجود الناضج ، وقد يكون ما نجزم بأنه نتائج حاسمة لا يعدو كونه مقدمات لنتائج لم تُولد بعد .

-2- التاريخ القديم لا يثير فينا - غالبًا - حدة الانفعال لبعد عهده وجذوره الضاربة في القدم ، فالناظر إليه وفيه لا تأخذه - في الغالب - الحماسات والانفعالات الحادة ، وإن أثار التفاعل والتعاطف والاعتزاز أو الازدراء ، بينما التاريخ الحديث ما زال يرتبط بكثيرٍ جدًا من قضايانا الحساسة ، ومن ثَمَّ يصعب التخلص تجاهه من عواطفنا المتوقدة ، ويكون التجرد في دراسته وتقييمه عملاً من أشق الأعمال .

- 3- أصبحت دراسة التاريخ العربي الحديث - ابتداءً من الخمسينيات - خاضعةً للتكييف السياسي المرتبط بنزعات أيديولوجية وسياسية وحزبية عاتية ، واقترب هذا التكييف - الذي يتظاهر بالعلمية - من التزوير الذي يمحو الحسنات ، ويبرز السيئات أو العكس ، ويتغافل عن كثير من الحقائق لخدمة أهداف سياسية معينة .

- 4- من الأمثال الفرنسية " لن ترى الصورة إلا إذا كنت خارج إطارها "، وهذا يعني أن شدة الالتصاق والقُرب قد تسمح برؤية جزئية واضحة ، ولكنها تُضبِّب الرؤية الكلية الشاملة , فالمواجهة القريبة المباشرة تعطينا الصورة الواضحة للمساحة المنظورة ، ولكنها تحرمنا الرؤية الشاملة لكل الأبعاد والمنعطفات والزوايا للمرئي المنظور ، وكلما ازداد القُرب قلت المساحة المرئية ، وقد يصحب ذلك الغلط في التعريف والتقييم ، كالذي خرج لاستطلاع رؤية هلال رمضان ، وشهد بأنه يراه رأي العين ، ولم يكن ما رأى غير شعرة بيضاء سقطت من رأسه على أطراف رموش إحدى عينيه .

مزالق ذات أخطار :

والكاتب الذي يتصدى للحُكم على العصر والوقائع والشخصيات يتعرَّض - إذا لم يُرزَق روح التجرد والبصيرة النافذة - للوقوع في عدة مآزق أو مزالق كل منها خطير ومُجافٍ للتفكير المنهجي السديد ، وهي - في النهاية - تقود إلى متاهات تبعده عن الحكم الصحيح السليم ، ومن هذه المزالق :

-1- الخلط بين الأسباب الظاهرية والأسباب الحقيقية لحادثة من الحوادث أو ظاهرة من الظواهر ، فليس من اللازم أن يكون السبب الظاهري هو السبب الحقيقي ، بل قد يكون السبب الحقيقي أخفى الأسباب على الإطلاق , ومن هذا القبيل الخلط بين الأسباب الرئيسية والأسباب الثانوية للحدث أو الظاهرة .

-2- التقاط الحدث والتعامل معه معزولاً عن مجموعة الأحداث والوقائع التي ترسم ملامح الشخصية التاريخية ، وتفتح عيوننا على معطيات العصر والبيئة .

-3- الحكم على معطيات عصر وظواهره بمعايير عصر آخر ، فمن الحقائق البدهية أن لكل عصرٍ آلياته وأبعاده وعاداته وتقاليده ، ومناهجه في العيش والتفكير .

والحكم على العصر بغير معاييره نزعة تفشَّت - للأسف - مع مطلع الخمسينيات ، وتولى كبْرَ ذلك أدعياءُ التجديد ودعاةُ التحديث , ومن النماذج الصارخة لهذه النزعة ما كتبه أحدهم - وهو يفسر اختلاف وجهات النظر بين بعض المسلمين في صدر الإسلام - إذ جعل هذا الاختلاف صراعًا بين اليمين واليسار - فحكم على صحابيٍّ جليل هو " أبوذر الغفاري " بأنه كان يمثل اليسار الإسلامي أو " البلوريتاريا الإسلامية "، أما " عبدالرحمن بن عوف " فهو في نَظر الكاتب يمثل " اليمين الرأسمالي ".

- 4 - وآفةُ الآفات ألا يقرأ الباحث التاريخ نفسه بل يكتفي بالقراءة " عن التاريخ " وفرق شاسع بين مَنْ يقرأ تاريخ العصر أو الشخصية من المصادر الأصلية ، ومَنْ يكتفي ويقنع بآراء الآخرين عنهما .

وتكون الخطورة أشد وأعتى إذا ما كانت هذ الآراء لمشاهير لهم ثقلهم ومكانهم المرموق في الساحة الفكرية ؛ مما قد يستهوي الباحث ويستغويه ، فينساق إليها مُردِّدًا مسبِّحًا ، دون الرجوع إلى المصادر الأصلية ، ودون تحكيم العقل والبصيرة وهؤلاء الذين يروجون أقوال المشاهير وآراءهم في العهود والأشخاص والوقائع - اعتمادًا على شهرتهم دون تمحيص وتدقيق ، يشبههم " أرنولد توينبي " بمروجي " العملة الزائفة " همّهم الأول والأخير أن تُروّج العملة ، ولو أدَّى ذلك إلى إفلاس الاقتصاد القومي .

العُميان والفيل المظلوم :

هذه الآفات العلمية التي أصابت كثيرًا من الأقلام والمفاهيم وتلك المزالق التي يهوي إليها كثير من الدارسين وتكون حصيلتها الأحكام القاصرة الغالطة ، التي حرمت النظرة الشمولية المحيطة بكل الجوانب والأجزاء والملامح تذكِّرني بقصة قرأتُها في صغري خلاصتها أن جماعةً من العميان أحاطوا بفيل ، وشرعوا يتبارون في وصفه ، فوضع أولهم يدَه على خرطومه ، وقال " إن الفيل حيوان لا عظام فيه ، وهو يتحرك إلى أعلى وأسفل " ووصفه الأعمى الذي لمس نابه بأنه " حيوان صلب مدبب " أما الأعمى الذي أمسك برجله فقال " الفيل حيوان غليظ قائم "، وكانت هذ هي حصيلة المباراة التي ظُلِم فيها الفيل ، كما ظُلم ويُظلم التاريخ والحق والحقيقة بأقلام عاجزة عمياء .

منهج أخلاقي :

ومنهج البحث في التاريخ بخاصة يجب أن يكون منهجًا أخلاقيًا قبل كل شيء ؛ معتمدًا على الصدق في الرواية ، والصدق في التثبُّت ، والصدق في التفسير ، والصدق في التكييف ، مع توافر حسن النية في كل مرحلةٍ من المراحل .

ولا أغلو إذا قلت إن تراثنا الإسلامي قد أرسى قواعد هذا المنهج العلمي الأخلاقي في نفوس المسلمين وضمائرهم , ويشدّني ما جاء في الأثر من أنَّ رجلاً أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد أمسك بتلابيب رجل آخر ، وهو يقول في غضب شديد وثورة " يا رسول الله إن هذا الرجل سرق مني كذا وكذا " فرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم- قائلاً :" لاَ تَقُلْ سَرَقَ ، وَلَكِنْ قُلْ أَخَذَ "، نعم لا تقل سرق ، ولكن قل أخذ ، إنها كلمات مشرقة عجيبة تكثّف في بساطة ووضوح المنهج الأخلاقي في ملء مناحي الحياة ، فمن معطيات هذه الكلمات العلوية قاعدة قانونية إنسانية ، خلاصتها : ضرورة التثبت قبل الإدانة ، فالمتَّهم برئ حتى تثبت إدانته ، والأصل هو البراءة ، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بنص .

والعطاء الذي تمنحه هذه الكلمات يمتد حتى تصبح " منهجًا علميًا " من ملامحه التأنّي والتعمق ، والتمحيص ، والترفع على مستوى الشبهات والبُعد عن كل ما لا يطمئن إليه القلب والعقل والضمير .

واستقاءً من هذا المنهج العذب حرص أسلافنا - في كتابة التاريخ ، وتدوين الحديث النبوي - على " السند " أو " الإسناد "، أي " العنعنة " : حدثنا فلان عن فلان عن فلان ، وظهرت كتب " الجرح والتعديل "، وهي الكتب التي تبحث في أحوال الرواة والمحدثين وأخبارهم ، وتضع معايير الأخذ منهم أو رفض ما قدموا ، فتُجيز مَن يُطمأَن إلى دينه وأخلاقه وحفظه ، وترفض من يشك في يقينه وعقيدته ، أو مروءته ، أو سلوكه ، أو حافظته .

وقد تأخذ الحيطة والأناة والحذر والتثبت العلمي عند بعض السلف صورةً تدعو إلى الدهشة والإعجاب ، وفي هذا المقام يُروَى أن " أحمد بن حنبل " - رضي الله عنه - تجشَّم مشاق السفر إلى اليمن لأسابيع أو أشهر ليتحقق من صحة حديث نبوي ، فلما عثر على العالِم المحدث المطلوب رآه يضم إليه أطراف ثوبه ، ويدعو بغلته النافرة إلى طعام في حِجره ، وحِجره فارغ ، فتراجَع " أحمد بن حنبل "، ورفض أن يسأله عن الحديث الذي جاء من أجله ؛ لأنه كذِب على بغلته بإيهامها أن في حِجره طعامًا ؛ مما يشكك في مصداقيته ومروءته .

تلك هي الوجهة الأخلاقية التي يجب أن يتسم بها منهج البحث في كل العلوم ، وخصوصًا التاريخ ، حتى لا نكون أدعياءَ وعالةً على تراثنا وتاريخنا البعيد والقريب ، وحتى لا تتكرر في حياتنا قصةُ " الفيل والعميان "، وتصبح منهجًا له قواعده وكتبه ورجاله وحواريوه . أ . د / جابر قميحة . منقول مع خالص التحية وأطيب الأمنيات وأنتم سالمون وغانمون والسلام .



رد مع اقتباس