تشتد وتيرة الصراع على النفط في العالم كلما استشعرت الدول المستهلكة له ان احتياطاته بدأت في النضوب. وكانت الدول الكبرى قبل الانفتاح الصيني على العالم تستأثر وحدها بالنفط لعقود طويلة انتاجاً وتصنيعاً وبيعاً. وبقي الحال على هذا النحو حتى أخذت دول كالصين وجنوب شرق آسيا تشهد نمواً متسارعاً راح يهد٧د الانسياب الطبيعي لتلك المادة ويؤث٧ر على تدفق النفط إلى العالم الغربي بالكميات التي تعو٧د عليها لعقود طويلة.
وتزامنت زيادة الطلب على النفط مع الاكتشافات الواسعة خلال العقد الماضي في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، التي حظيت الشركات الأميركية فيها على العديد من المشاريع النفطية وتمكنت من التحكم بكمياته المنتجة وأسعاره العالمية. وأخذت عمليات التنقيب تتقدم بخطوات سريعة استجابة للطلب العالمي الملح على تلك المادة، خصوصاً وان منطقة الشرق الأوسط، المنتج الأول لها، عرضة للمنازعات والحروب أكثر من أي وقت مضى، ولا يؤمَن عدم حدوث المزيد من الحروب التي تؤث٧ر على صادراته وبالتالي على حاجة السوق العالمية منه.
مثل هذا الوضع خلق فرصاً هائلة لنشوء الشركات النفطية العملاقة في روسيا والدول المحيطة بها التي عاجلت إلى تأمين ما أمكن من العقود مع الأسواق العالمية، كما سارعت إلى مد خطوط أنابيب إلى شواطئها الشرقية تجاه بحر اليابان وإلى حدودها الجنوبية الغربية تجاه القارة الاوروبية.
وكما احتدم السباق على انتاج النفط في مناطق جديدة في العالم، كذلك أخذ السباق على النفوذ الاستراتيجي في مناطق الانتاج يلعب دوراً خطيراً على مستقبل الدول الكبرى وقدرة كل منها على التحكم بالواردات العالمية حسب الأولويات التي تناسبها.
المشروع التركي
عام 1992 بدأت تركيا مشروعاً أسست فيه مجلساً لتعاون الدول المطلة على البحر الأسود، حيث كان لتركيا حينئذ رؤية استراتيجية لموقع البحر الأسود كحلقة رئيسية في خطوط النفط التي ستتقاطع في أعماقه. وبعد ثلاثة عشر عاماً تقريباً على تأسيس هذا التجمع شعرت الولايات المتحدة ان بقاءها خارج هذا المجلس ولو بصفة مراقب يفقدها القدرة على التنبؤ بما يرسم له في منطقة حساسة من هذا القبيل، كما يفقدها القدرة على التدخل السريع في سياسات كل دولة منها إذا اضطرتها الظروف لذلك.
وعلى رغم إدراك تركيا لأهمية الدور الأميركي من الناحية الاستراتيجية، خصوصاً وانها تسعى إلى المزيد من التقارب مع دول الاتحاد الاوروبي، إلا ان الطلب الاميركي للمشاركة ولو بصفة مراقب في تلك المجموعة قوبل بالرفض من هذا التجمع، ما أثار تساؤلات عن ماهية الدور الروسي في هذا الشأن، وعن حجم المخاوف الروسية من أي تدخل أميركي متوقع في تلك المنطقة.
ولم تكن المخاوف الروسية من التوغل الأميركي في المنطقة تحتاج لمبررات كثيرة، حيث سبق للولايات المتحدة أن عمدت إلى استبعاد الأراضي الروسية من مسار خط انابيب آخر أشرفت هي على تنفيذه يربط باكو في أذربيجان بميناء كيهان التركي المطل على البحر المتوسط، مروراً بجورجيا بعيداً عن الحدود الروسية بمسافة تبقي روسيا خارج أي مكاسب كان يتوقع أن تحق٧قها في ما لو مر٧ الخط عبر أراضيها، إضافة إلى ان الاعتماد الاوروبي على النفط الروسي سيتأث٧ر إلى حد كبير بعد فتح هذا الخط، حيث ستجد اوروبا نفسها غيرمضطرة الى تغطية وارداتها النفطية من النفط الروسي وحده.
ولا يقتصر الصراع على النفط الحالي بين الدول الكبرى في الجنوب الغربي لآسيا، بل ان ثمة صراعا آخر أخذت تتقد حممه أخيراً في الجنوب الشرقي لتلك القارة، بين كل من الصين واليابان حول المخزون النفطي لروسيا في سيبيريا والرغبة الروسية في مد خط أنابيب لتصدير انتاجها النفطي إلى واحدة من هاتين الدولتين.
العلاقات الصينية - اليابانية
وقد بدأ الصراع النفطي على تلك المنطقة ينعكس على العلاقات الصينية - اليابانية أكثر من أي وقت مضى، حيث خرج الآلاف من المواطنين الصينيين أخيراً في تظاهرات ضد الحكومة اليابانية احتجاجاً على إدراج مادة في المناهج التعليمية تبرئ فيها اليابان نفسها من المجازر المرتكبة ضد الشعب الصيني خلال الحرب العالمية الثانية.
وكان واضحاً من نمط هذا الاحتجاج ان ثمة أسبابا أكثر جدية حملت الحكومة الصينية على التعبير عن استيائها من السياسة اليابانية، بفعل الضغط الياباني على الحكومة الروسية لمد خط الأنابيب المعتزم انشاؤه من انجارسك في سيبيريا في الاتجاه الغربي إلى ميناء بيريفوزنايا على بحر اليابان، تمكيناً لليابان من نقله مباشرة عبر البحر إلى أراضيها بدلاً من مده نحو الجنوب تجاه الصين.
والفارق بين أن يتقرر مد خط الأنابيب جنوباً نحو الصين أم شرقاً في اتجاه بحر اليابان قد يضطر الحكومة الروسية إلى التضحية بعلاقاتها مع الجانب الذي تتخلى عنه لصالح الدولة الاخرى، كما يضع الانتاج الروسي من النفط السيبيري رهن العلاقات السياسية مع الدولة التي تتعاقد على شرائه لعدد من العقود.
وقد أخذت كل من الصين واليابان بالضغط على حكومة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لسنوات عدة، بغرض اقناعها ان المصلحة الروسية في التعامل مع كل منهما هي أكثر أمناً وضماناً على المدى البعيد من التعامل مع الطرف الآخر.
غير ان السباق الصيني - الياباني في الحصول على النفط السيبيري لم يعد محكوماً بعلاقاتهما مع السلطات الرسمية في موسكو ولا بقدرتهما على اقناع أو تطويع حكومة بوتين للتعاقد معهما، حيث ان هناك تغيرات بدأت تظهر في خريطة مراكز القوى الروسية أشد تأثيراً على القرارات الاستراتيجية من أي طرف رسمي آخر.
دور "يوكوس"
وما كانت اليابان تخشاه منذ سنوات هو فقدان الحكومة الروسية لسيطرتها على تقرير مستقبل مشاريع النفط الاستراتيجية، خصوصاً وان عملاقاً اقتصادياً جديداً من القطاع الخاص الروسي يدعى "يوكوس" كان أخذ بالظهور برئاسة شاب قيادي يدعى ميخائيل خودوركوفسكي، تمك٧ن من السيطرة على أكبر المشاريع الاقتصادية خطورة، وأخذ يعد العدة للبدأ في تنفيذ مشروع النفط في اتجاه الصين، اقتناعاً منه بأن المصلحة الروسية مع الجار الجنوبي أكثر أمناً وضمانا للاقتصاد الروسي من أي بديل جانبي آخر حتى وإن كان اليابان.
وإثر تمك٧نها من توقيع عقود استراتيجية ضخمة للبدأ في أعمال الحفر، أعلنت "يوكوس" في نهاية 2002 عن اطلاق مشروع خط الأنابيب الواصل بين أرجانسك في سيبيريا وداتسيت في الصين بكلفة 1.7 بليون دولار.
لم يرق الأمر للقيادة الروسية أو اليابانية بأن ثمة عقود بدأت تُبرم بين "يوكوس" والصين، وان مستقبل النفط الروسي بات بأيدي مجموعة أشخاص من القطاع الخاص الروسي أوشكوا على التحكم بالسياسات الخارجية لروسيا، وكذا الحال بالنسبة لليابان التي سارعت بدورها إلى وضع العراقيل بشتى السبل الممكنة، حتى بدأت الحملة الرسمية للحكومة الروسية ضد "يوكوس" التي تم اتهامها بالتهرب الضريبي وتوقيف رئيسها بتهم مالية عدة.
وتم تجميد مشروع خط الأنابيب في الاتجاه الصيني، والذي لا يزال متوقفاً حتى الساعة انتظاراً لمخرج روسي من مأزق التجاذب بين كل من الجارين. ولا يقتصر المأزق الروسي على التحالفات بين هاتين الدولتين، بل ثمة ضغوط عدة تتعرض لها الحكومة الروسية من جماعات الضغط البيئي المعارضة، حيث تتمتع بحيرة بايكال بحماية بيئية مشد٧دة لا تسمح بعبور أنابيب نفطية قربها.
وقد أوقد رد الفعل الرسمي تجاه "يوكوس" أسعار النفط عالمياً في فترة من الفترات، وأثار حفيظة الولايات المتحدة التي راق لها أن ترشق السياسة الروسية بتهم العودة إلى أساليب حكم موروثة عن النظام السوفياتي البائد.
أما الصين، فقد كانت أكثر المتضررين من هذا الاجراء الانقلابي على شركة "يوكوس" والتبعات التي يحملها على مشروع خط الأنابيب نحو أراضيها. وعلى رغم الذيول الوخيمة لتلك الاجراءات على مستقبل امدادات النفط إليها، إلا ان الصين آثرت البقاء على ذات النهج الملتزم بعدم التدخل بالأوضاع الداخلية للدول التي تتعامل معها مهما تكن مضاعفات السياسة الروسية تجاه "يوكوس" عليها.
ولكن مهما تكن صحة الادعاءات الروسية الموج٧هة إلى "يوكوس" ورئيسها خودوركوفسكي، فإنه من الواضح ان تزامنها مع إطلاق مشروع خط الأنابيب في اتجاه الأراضي الصينية لا ينزع عنها صفة المحاباة للمصالح اليابانية ولا يبرأها من الطبيعية الكيدية التي سيقت فيها بغرض تحطيم هذا العملاق الاقتصادي وإزالة خطره على سياساتها الخارجية. ومهما كانت المحاولات الروسية الجارية الآن لإبادة مراكز القوى الداخلية التي تتهد٧د سياساتها الخارجية كـ"يوكوس" أو غيرها، فإنها عجزت عن العثور على مخرج تستطيع فيه تقرير أي اتجاه سيتخذه خط أنابيبها المقبل: نحو الجنوب إلى جارها الجنوبي الساكن، الذي يأمل بأن تدرك روسيا ان حقوق الجوار تملي عليها دعمه ما أمكن ضماناً لحدودها الجنوبية، هذا بخلاف ان حقائق التاريخ والجغرافيا تجمع بينهما أكثر بكثير من العلاقات العابرة التي تربط روسيا باليابان أو بأي دولية غربية أخرى، أو إلى جارها الشرقي عبر بحر اليابان الذي لا تستطيع التكهن بردات فعله ولا بردات فعل العالم الغربي، إن هي قررت الاستمرار بما ابتدأت به "يوكوس" قبل سنوات بالذهاب الى دانسيت في الصين مهما بلغ الثمن.
المصدر menafn.com