Untitled 1
 
  ما هو بنك سيتي جروب النصاب في السعودية؟ (اخر مشاركة : ارينسن - عددالردود : 0 - عددالزوار : 119 )           »          شركة أديس القابضة (اخر مشاركة : ارينسن - عددالردود : 0 - عددالزوار : 317 )           »          اختيار افضل شركة تداول (اخر مشاركة : ارينسن - عددالردود : 0 - عددالزوار : 290 )           »          رسوم الحساب الاستثماري في تداول الراجحي (اخر مشاركة : ارينسن - عددالردود : 0 - عددالزوار : 570 )           »          كيف اعرف اسهمي القديمه برقم الهوية (اخر مشاركة : ارينسن - عددالردود : 0 - عددالزوار : 342 )           »          تريد فيو (اخر مشاركة : ارينسن - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2029 )           »          كيفية شراء الاسهم الامريكية الحلال (اخر مشاركة : ارينسن - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2024 )           »          افضل شركة توزع أرباح في السوق السعودي (اخر مشاركة : ارينسن - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2255 )           »          حساب سعر الصرف (اخر مشاركة : ارينسن - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2440 )           »          قصيدة رثاء في حمد الحضبي السبيعي (اخر مشاركة : عبدالله الحضبي - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2421 )           »         
 

 
العودة   منتديات سبيع الغلباء > منتدى تاريخ الجزيرة العربية > تاريخ القبائل العربية
 

تاريخ القبائل العربية كل ما يخص القبائل العربية التي تسكن في الجزيرة العربية او تعود اصولها لها


النظام القبلي عند العرب في الجاهلية والإسلام

كل ما يخص القبائل العربية التي تسكن في الجزيرة العربية او تعود اصولها لها


إضافة رد
 
أدوات الموضوع
 
غير متصل
 رقم المشاركة : ( 1 )
خيَّال الغلباء
وسام التميز
رقم العضوية : 12388
تاريخ التسجيل : 01 - 03 - 2007
الدولة : ذكر
العمر :
الجنس :
مكان الإقامة : نجد العذية
عدد المشاركات : 20,738 [+]
آخر تواجد : [+]
عدد النقاط : 49
قوة الترشيح : خيَّال الغلباء is on a distinguished road
الأوسمـة
بيانات الإتصال
آخر المواضيع

التوقيت
Post النظام القبلي عند العرب في الجاهلية والإسلام

كُتب : [ 03 - 04 - 2008 ]

بسم الله الرحمن الرحيم

النظام القبلي عند العرب في الجاهلية بقلم : أ. محمد الخطيب ( مقال من مجلة العرب )

تُعدّ القبيلة الوحدة السياسية عند العرب في الجاهلية ؛ ذلك لأنّ القبيلة هي جماعة من الناس ينتمون إلى أصل واحد وينحدرون من أب واحد. والواقع أنّ الذي يجمع أفراد تلك الجماعة في ما يسمى القبيلة إنما هو الشعور بذلك الانتماء، وهذا الشعور يدعى (العصبية).
يقول ابن خلدون : "العصبية هي النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم تهلكة. وتكون العصبية بين أهل النسب الواضح (القرابة الظاهرة) ومن صاهرهم، أي تزوج من نساء منهم أو تزوجوا هم من نسائه، أو ينتسب إليهم بالولاء (دخل في حمايتهم أو أصبح رقيقًا عندهم) أو الحلف (المعاهدة)"(1).
كان مجتمع شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام ينقسم إلى (عرب) وهم سكان المدن والمراكز الحضرية، وكانوا يسمّون "أهل المدر"، أي أصحاب البيوت المبنية و(الأعراب) وهم الذين يقطنون البادية، وكان يطلق عليهم "أهل الوبر"، أي الذين يعيشون في الخيام.
وبين البداوة والحضارة فَرْق أساسيّ واحد: يكتفي البدويّ بالضروريّ من أسباب المعاش، بينما يتوسّع أهل الحضر في أسباب الترف من المطاعم والملابس والمساكن. من هذا الفَرْق الأساسيّ تتفرّع جميع خصائص البداوة وجميع خصائص الحضارة المدنية بما في البداوة وفي الحضارة البدوية من المحاسن والمساوئ(2).
لقد نظر أكثر المؤرخين إلى وضع المجتمع العربيّ في الجاهلية فوجدوه مفكَّكًا سياسيًّا ينقسم إلى وحدات متعدّدة، قائمة بذاتها، تمثّلها القبائل المختلفة، ووجدوا أنّ العصبية القبيلة هي التي قضت على فكرة الترابط السياسي(3).
ووجد آخرون أنّ سعة الأرض في الجزيرة وقسوة الطبيعة وصعوبة المواصلات وتفشّي البداوة، منعت نشوء دولة موحَّدة، وأبطلت التنظيم السياسيّ الصحيح(4).
وعاب غيرهم على العرب الجاهليين افتقاد النـزعة أو الشعور بالقومية الشاملة، وبرّر ذلك بقوله: إنّ وعيهم السياسيّ كان ضعيفًا محدودًا لا يتجاوز القبيلة أو القبائل المنتمية إلى الجد المشترك"(5).
وهناك من وجد في النظام الاقتصاديّ السبب المباشر: "...ولقد أثّر النظام الاقتصاديّ في النظام السياسيّ والاجتماعيّ. فقد كانت القبيلة هي أساس المجتمع بدلاً من الدولة. فهي المجتمع الأكبر بالنسبة لأهل البادية. فليس فوقها مجتمع عندهم، وهي في معنى شعب عندنا الآن"(6).
إنّ وجهات النظر هذه نابعة من تطبيق المفاهيم السائدة في المجتمع المعاصر ومحاولة النظر من خلالها إلى المجتمع الجاهليّ. فالترابط السياسيّ وليد عملية تطوّر تاريخية طويلة طرأت على العلاقات الاجتماعية التي ربطت فيما بين أطراف مجتمع معيّن. تلك العلاقات الاجتماعية التي كانت تتطوّر باستمرار مع تطوّر القوى المنتجة التي اقتضت في النهاية، وتحت وطأة الضرورات الاقتصادية والاستهلاكية والإنتاج، توحيد المجتمعات؛ فوجد آنذاك الترابط السياسيّ.
لقد أظهرت "شابيرا" أنّ الحقيقة الأولى والأساسية في الفكر السياسيّ في المجتمعات القبلية هي أنّ قرابة الدّم هي الأساس الوحيد للأمّة في تلك المجتمعات؛ فالذي يقول بترابط سياسيّ وينطلق أساسًا من فكرة الحيّز الجغرافيّ المحدود موغل في الوهم؛ لأنّ هذه الفكرة لم تكن معروفة بعد. والفَرْق إذن بين الجماعة البدائية والجماعة المتحضرة هو أنّ الفرد في الجماعة الأولى يتقمّص شخصية الجماعة عن طريق "النسب" و"قرابة الدّم"، في حين أنه في الثانية يجعل حدود شخصيته ضمن ارتباطه بأرض معيّنة(7).
إنّ كل تنظيم سياسيّ هو تنظيم تفرضه طبيعة المرحلة التي يمرّ بها المجتمع ودرجة تطوّرها. وكما يقول مورغان في مؤلفه "المجتمع القديم": "التنظيم الاجتماعيّ أو المجتمع موجود عند كافّة الجماعات البشرية، ولكنّ أسسه تختلف من جماعة إلى أخرى حسب درجة تطوّرها، مادّيًّا، واجتماعيًّا. فعند الجماعات البربرية والبدوية يقوم هذا التنظيم على أساس من البطون والعشائر. والسلطة في هذا النظام تتعامل مع الناس على اعتبارهم أعضاء ينتمون إلى نسب أو قرابة واحدة. أمّا في الجماعات المتحضرة فإنّ التنظيم الاجتماعيّ يرتكز على نظام عامّ هو التنظيم السياسيّ أو الدولة. ومن أهمّ أُسسها توفّر الأرض المعنية والملك أو التملّك. وتتعامل السلطة مع الناس، في إطار كهذا، كسكان في وحدة إقليمية كالبلدة أو البلد أو الدولة"(8).

العصبية القبلية:
إنّ رابطة العصبية -عند العرب في الجاهلية- هي شعور التماسك والتضامن والاندماج فيما بينهم، وهي على هذا النحو مصدر القوة السياسية والدفاعية التي تربط بين أفراد القبيلة، وتعادل في وقتنا الحاضر الشعور القوميّ عند شعب من الشعوب(9).
نستنتج مما تقدّم أنّ الجاهلية مرحلة من مراحل التطور التاريخيّ اقتضت أن تكون "القبيلة" هي وحدة التنظيم السياسيّ والاجتماعيّ في العصر الجاهليّ عند العرب في الحواضر والبوادي، يعزّز ذلك ويفرضه إيمان العرب بالنَّسب وقرابة الدّم. هذا الإيمان كان المبدأ الذي يحدّد علاقات الناس ويرسم لهم الإطار الماديّ والاجتماعيّ الذي سيعيشون داخله. فلم يكن مقبولاً اجتماعيًّا أن يبقى الفرد دون انتماء قبليّ أو خارج إطار القبيلة. وسبّب هذا الأمر مشاكل اجتماعية بالنسبة للذين كانت تخلعهم قبائلهم من عضويتها فتحوّلوا إلى "صعاليك" لا يجدون الإطار الاجتماعيّ الذي يمكنهم من العيش ضمنه. فامتهنوا قطع الطُّرُق والغزو والسلب. وكذلك كانت مشكلة "الأدعياء" الذين قبلتْ بعض القبائل التحاقهم بها، لكن استمرت النظرة الاجتماعية إليهم على اعتبار واحدهم دعيًّا، ولا يخفى ما في ذلك من مهانة وإذلال.
مجتمع شبه الجزيرة العربية كان إذن مجموعة من مجتمعات القبائل، كل منها يشكّل مجتمعًا قائمًا بذاته، مستقلاًّ في إدارة شؤونه ومعيشته وحكمه. يبد أنّ هناك جامعًا مشتركًا واحدًا بينها هو نمط تنظيمها الداخليّ. إنّ هذا التنظيم هو نفسه، يتكرّر عند كل القبائل مما يجعلها وحدات منفصلة ماديًّا فيما بينها، لكنها منسجمة التكوين الداخليّ، متشابهة الأوضاع، الحديث عن أيّ منها يسمح بالتعميم والإلمام بالوضع الاجتماعيّ في الجزيرة العربية كلها(10).
والقبيلة في البادية دولة صغيرة، تنطبق عليها مقوّمات الدولة، باستثناء الأرض الثابتة التي تحدّد منطقة نفوذها؛ فمن المعروف أنّ أهل الوبر لم تكن لهم أوطان ثابتة بسبب تنقّلهم الدائم وراء مصادر العشب والماء، وكان ضيق أسباب الحياة في الصحراء حافزًا لهذه القبائل المتبدّية على التنقّل والترحّل، كما كان سببًا في تمسّكهم بالعصبية التي أملتها الظروف الصعبة المحيطة بهم.
وبفضل العصبية أمكن لهذه القبائل أن تدافع عن كيانها، والتغلب على غيرها، لتضمن لنفسها موردًا لحياتها. ولذلك كانت حياة القبائل المتبدّية صراعًا دائمًا، والصراع هجوم ودفاع؛ فالهجوم يتمّ بقصد الحصول على مزيد من الرزق، والدفاع يقومون به للحفاظ على وجود القبيلة، والدفاع والهجوم يتطلّبان التكتّل والدخول في أحلاف مع القبائل الأخرى. ولهذا اعتُبر قانون البادية قانون الغاب، وقوامه "الحق في جانب القوة"، فمن كان سيفه أمضى وأقوى، كانت له الكلمة والغلبة وكان الحق في جانبه(11).
وكما ذكرنا، فإنّ أساس النظام القبلي هو "العصبية" سواء أكانت عصبية للأهل والعشيرة أم لسائر فروع القبيلة. ومن شروطها أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتألّب لهم على من يناوئهم، ظالمين كانوا أو مظلومين، فليس له أن يتساءل أهو ظالم أم مظلوم.
وتلزم العصبية أبناء القبيلة بوجوب تحمّل التبعة والقيام بواجبها وتلبية ندائها، فهي إذن مسؤولية جماعية؛ فإذا قُتل أحد أشخاصها فعليها تقع تبعة قتل القاتل، باعتبار أنّ الدّم لا يغسله إلاّ الدّم. كما يقع عليها دفع الدِّية إذا عجز القاتل أو أهله عن دفعها، ومن هنا خضعت فردية العربيّ المتطرّفة لقانون الجماعة ولسلطان العصبية، فصار واجبًا عليه أن يضع نفسه تحت إمرة القبيلة. وتشمل العصبية كل منتمٍ إلى القبيلة من الأحرار، أي الأبناء من الخلّص الصرحاء، والموالي، وكل مملوك من الرقيق، كما تشمل كذلك أهل الولاء والجوار(12).
والعصبية عند العرب نوعان:
1- عصبية الدّم: وهي أساس القرابة في البيت الواحد، ومصدر الترابط الوثيق بين أفراد القبيلة كما لو كانت أسرة.
2- عصبية الانتماء إلى جدّ مشترك: من نسله تكوّنت القبيلة أو القبائل المنتمية إليه. وعلى هذا النحو لم تكن للمجتمع الجاهليّ نزعة قومية شاملة؛ لأنّ الوعي السياسيّ فيه كان ضيّقًا محدودًا لا يتجاوز حدود القبيلة أو حدود القبائل المنتمية إلى الجدّ، فقوميتها قومية ضعيفة، وجنسيتها جنسية النَّسب، من انتمى إليها بِنَسب كان منها، ومن لم يمتّ إلى نَسبها عُدّ غريبًا عنها، فلا تشمله العصبية(13).
وكان النظام القبليّ أيضًا دعامة الحياة السياسية في الممالك العربية والإمارات التي قامت في جنوب جزيرة العرب، وفي حواضر الحجاز، وفي الإمارات العربية على تخوم الشام والعراق، فلم تنصهر القبائل التي نزلت في هذه المدن في شعب واحد، كالشعب الروماني أو الشعب الفارسي، وإنما ظلت تحتفظ بتنظيمها القبليّ، على الرغم من اختلاط أنسابها وتداخل شعوبها، بحكم اختلاطها بغير العرب ممن لا يعتبرون المحافظة على النَّسب في بيوتهم وشعوبهم. ومع الإيقان بأنّ الشعوب القديمة قد عاشت في وحدات جنسية يجمع بين أفرادها النَّسب الواحد، فإنّ تلك الوحدات قد تخلخلت بعوامل مختلفة:
أ- بالزواج: فقد يتزوج رجل من قبيلة امرأة من قبيلة أخرى. وقد يتزوج الرجل امرأة من شعب غير عربيّ، فإنّ عمرو بن شداد اتخذ جارية حبشية أو زنجية فولدت له عنترة. ومع أنّ عمرًا لم يعترف بعنترة من الناحية الحقوقية (الحق بالزواج من عربية، والحق بنصيب من الغنائم، إلخ)، فإنّ عنترة كان عَبْسيًّا في النَّسب، ذلك لأنّ المدرك الجاهليّ النسب إنما هو الأب وحده، أمّا الأمّ فكانت عند الجاهليين وعاء للولد لا أثر لها في جنسه. فأبناء الأمهات الفارسيات من الآباء العرب عرب.
ب- بالنقلة: قد ينقل رجل نسبه من قبيلة إلى قبيلة، فقد كان ذلك جائزًا. ولم يكن نادرًا.
ج- بالاستلحاق: قد يكون لقبيلة عبد من العرب أو من غير العرب فيزوجوه امرأة من نسائهم فيصبح بعد مدة معروف النَّسب فيهم. وقد يكون لرجل عربيّ جَوارٍ غير عربيات فيلِدْن له، فربما ألحق أولاد تلك الجواري بنسبه وربما لم يلحقهم. وقد يُلحق أحدهم بنَسبه ولدًا له من غير زواج شرعيّ.
د- بالولاء: قد يحتاج رجل إلى حماية فيلجأ إلى قبيلة قويّة فتحميه فيصبح مولى لها. ثم يدخل نَسبه مع الأيام في نَسبها.
هـ- بالحلف: قد يتحالف فريقان من قبيلتين مختلفتين ويتعايشان ثم يصبحان مع الأيام كأنهما من قبيلة واحدة، ويدخل نَسب الفريق الأضعف في نَسب الفريق الأقوى(14).
وقد أشارت كتب اللغة إلى جماعة من الموالي والعبيد تعرّبت واستقرّت فصارت من العرب، وكانت من الرقيق المشترى من الخارج. وقد ضاعت أنساب جماعات كثيرة غيرهم بامتزاجها بالعرب ودخولها فيهم فصاروا في عداد العرب الصرحاء، وأوجدوا لهم نسبًا هو نسب من اختلطوا بهم وانتسبوا إليهم بالولاء. وقد نُسِّي ذلك الولاء بمرور الزمان وتقادم العهد فأصبح نسبًا وأصلاً.
من أجل ذلك كله يحسن أن نعلم أنّ النَّسب في حقيقته أمر عرفيّ أكثر منه أمرًا طبيعيًّا، وأنّ الذي يجمع بعض أفراد القبيلة إلى بعض إنما هو الشعور بالصلة وفائدة التعاون على تحصيل الرزق وردِّ العدوِّ ونيل الحكم حينما يكثر عدد أفراد القبيلة وتزداد قوّتها، هذا الشعور في سبيل هذه الأهداف يسمّى (العصبية)(15).

كان ابن القبيلة يعتزّ بنسبه اعتزازًا كبيرًا؛ إذ إنه هو الذي يحدّد هويته، فبدونه يتحوّل إلى "دعيّ" وهو من ينتسب إلى غير قبيلته أو قومه، وندر أن اعتزّت أمّة بأنسابها مثل العرب، ومن ثم يمكن الجزم بأنّ النَّسب "ملمح" عربيّ أصيل ينفرد به العرب دون سائر الناس. وقد تخصص بعض الأشخاص في هذا النوع من الفن، فن حفظ الأنساب، وكانت لهم مكانة مهابة، منهم أبو بكر الصديق  الذي اختير عضوًا في حكومة الملأ (ملأ قريش) وتولى "الأشناق"، وهي الدِّيات والمغارم، بسبب أنه كان "نسّابة" أي عالم بالأنساب، ومن ثم كان في مقدوره تحديد الدِّيات والمغارم حسب مكانة المجنيّ عليه وما إذا كان محضًا أو حليفًا أو لصيقًا أو زنيمًا...إلخ، ومعرفة الجاني ومكانه من القبيلة التي ينتمي إليها؛ وحول النسب تحلّقت الظواهر الاجتماعية مثل الخلع والولاء والحلف...إلخ، كذلك تترتب على النَّسب آثار اجتماعية لا يمكن التهوين من شأنها: منها الميراث، وتحديد مكانة الفرد في القبيلة، فإن كان لصيقًا أو زنيمًا فلا يحقّ له أن يشارك في "مجلس القبيلة" أو يتولى رئاستها، وأيضًا الكفاءة في الزواج، فالمولى لا يحقّ له الزواج من امرأة ذات نَسب صريح. ونشير هنا إلى أنّ هذه الكفاءة انتقلت إلى الفقه الإسلامي فلا يجوز لغير الهاشميّ أن يتزوج هاشمية، وكذا تحديد المهور؛ إذ إنّ مهر العربية الصريحة يفوق بما لا يقاس مهر غيرها.

ومن منظور النَّسب تضم القبيلة ثلاثة أصناف:
1- صرحاء النَّسب، وهم طبقة الأشراف، وهم يتفاوتون في الشرف بتفاوت بيوتهم في الحسب.
2- الموالي أو اللصقاء، أو الملتصقين بالقبيلة بواسطة الجوار أو الحلف أو الاصطناع.
3- العبيد المسترقّين، وهم في الغالب أسرى الحروب والغارات.
فالنَّسب الشريف الصريح إذا انضافت إليه الخلال الحميدة تحقق معنى الحسب، وكلاهما من شروط الرئاسة والسؤدد في مجتمع شبه الجزيرة العربية، وقد فطن القرشيون إلى ذلك من وقت مبكّر، فبجانب نسبهم الصريح الشريف حرصوا أشدّ ما يكون الحرص على اكتساب الخلال الحميدة والسجايا الرفيعة والأخلاق العالية والصفات الممتازة، فتحقق لهم الحسب المنيف.
وتحفظ لنا كتب السيرة الألقاب التي كانت تُطلق على مؤسسي "دولة قريش" والتي تقطع بأنهم كانوا يتمتعون بنَسب شريف وحسب منيف أهّلهم لما وصلوا إليه من مجد، فقد كان "هاشم" من أحسن الناس وأجملهم وكانت العرب تسمّيه "قدح النضار" و"البدر"، وكان أخوه "المطلب" بن مناف ذا شرف في قومه وفضل، وكانت قريش إنما تسمّيه الفضل لسماحته وفضله، وكانوا يسمّون بني عبد مناف بـ"المغيرات" مدحًا لهم وتعظيمًا.
أمّا عبد المطلب الجدّ المباشر لمحمد  فقد تعدّدت ألقابه، فهو "الفياض" و"الفضل" و"مطعم الطير" و"شيبة الحمد": بنو شيبة الحمد الذي وجهه يضيء ظلام الليل كالقمر البدر.
وهكذا تكامل في قيادات قريش النَّسب الشريف والحسب الرفيع مما لم يتح لأيّ قبيلة أخرى من قبائل العرب وكان ذلك أحد الدعامات البارزة التي أسهمت في ترسيخ الدولة التي أقامها الحفيد محمد  في يثرب(16).
سيّد القبيلة:
ويأتي على رأس القبيلة شيخها، وشيخ القبيلة رئيس بالعصبية، أي أنّ القبيلة هي التي تختار من أفرادها رجلاً تقدّمه للرئاسة عليها ثم تطيعه بإرادتها وتطوّعًا منها. والمفروض أن يكون شيخ القبيلة، كما تدلّ كلمة "شيخ" كبيرًا في السن. فإذا كان صغير السن ثم اتفق أن كانت له حكمة وشجاعة وثروة مضافة إلى شرف أصل قدّمته قبيلته للرئاسة. ومصداق ذلك قول الخنساء ترثي أخاها صخرًا:
طويل النجاد رفيع العماد
يحمّلـه القوم ما عالهـم سـاد عشيرته أمـردا
وإن كان أصغرهم مولدا
والواقع، كما يبدو من أبيات الخنساء أيضًا، أنّ الرئيس بالعصبية (شيخ القبيلة) لم يكن يتناول من قبيلته مالاً، بل كان هو يقوم عن المحتاجين بما كان المحتاجون يعجزون عن القيام به، يُطعم الفقراء منهم ويدفع الدِّيات عن الذين لا يملكون ما يدفعونه، إذا وجبت عليهم دية.
أمّا الامتياز الذي كان شيخ القبيلة يتمتع به فهو أنه كان حَكمًا في المنازعات وكان حُكمه نافذًا على الجميع.
والمفروض أيضًا أن يكون شيخ القبيلة قائد القبيلة في الحرب ولسانها في السلم وشاعرها، كعمرو بن كلثوم؛ ولكن قد يتفق أن يكون في القبيلة أبطال يأخذون في الحرب مكان شيخ القبيلة.
إنّ عنترة لم يكن سيّد بني عبس، ولكنه كان شاعرهم وفارسهم وبطلهم وقائدهم في الغزوات والمعارك. وكذلك يتفق أن يكون في القبيلة شعراء وخطباء يحملون عن شيخ القبيلة أعباء التغنّي بمحامدها والدفاع عنها والنطق بلسانها، كالحارث بن حِلِّزة(17).
لذلك كان للشاعر شأن كبير في حياة القبيلة ومنـزلة، وكان إذا نبغ في إحدى القبائل شاعر أتت القبائل فهنّأتها بذلك. كذلك كان للخطباء أثر كبير في الدفاع عن القبيلة، وفي تعظيمها عند غيرها، أو دفعها إلى الحرب، ففصاحة الخطيب، وقدرته على الإقناع تدفع الناس إلى الانقياد إليه والامتثال لأوامره، والناس في الجاهلية كانوا أحوج إلى ما يستنهض هممهم، ويفتح أعينهم، ويقيم قاعدهم، ويشجّع جبانهم، ويشدّ جنانهم، ويثير أشجانهم، ويستوقد نيرانهم، صيانة لعزّهم أن يستهان، وتشفِّيًا بأخذ الثأر، وتحرّزًا من عار الغلبة وذلّ الدمار، فكانوا أحوج إلى الخطيب بعد الشِّعر لتخليد مآثرهم وتأييد مفاخرهم(18).
وكان العرف يقرّ لسيِّد القبيلة ببعض الحقوق، كما كان يلقي على عاتقه بعدد من الواجبات. فمن حقوق سيِّد القبيلة من الغنائم التي تغنمها القبيلة في حروبها مع القبائل الأخرى:
1- المرباع: وهو حقّ سيِّد القبيلة في الحصول على ربع جميع الغنيمة. ولا شكّ أنّ المرباع كان يشكّل موردًا ماليًّا مهمًّا لسيِّد القبيلة، يعينه في الوفاء بالتزاماته المالية المتعددة.
2- الصفايا: وهي ما يصطفيه سيِّد القبيلة لنفسه من الغنيمة من فرس أو سلاح أو جارية أو غير ذلك من الأموال، قبل القسمة كالسيف اللهذم، والفرس العتيق، والدرع الحصينة، والشيء النادر.
3- النشيطة: وهي أنه كان للرئيس أن ينشط عند قسمة المتاع فيأخذ العلق النفيس يراده إذا استحلاه. وقيل إنّ النشيطة هي ما أصاب الرئيس في الطريق قبل أن يصير إلى بيضة القوم.
4- الفضول: وهي فضول المقاسم، فقد يتبقّى بعد القسمة شيء لا تمكن قسمته، فيؤول إلى سيِّد القبيلة. كاللؤلؤة والسيف والدرع والبيضة والجارية، وغير ذلك(19).
وقد جمع أحد شعراء الجاهلية هذه الحقوق في بيت واحد من الشعر:
لك المرباع منها والصفايا وحكمك والنشيطة والفضول
وإذا كان من حقّ شيخ القبيلة أن يكون حُكمه نافذًا على جميع أفراد قبيلته إلى جانب امتيازاته الأخرى التي ذكرناها فقد كان من النادر أن يستبد في حُكمه وفي رئاسته للقبيلة؛ لأنه كان مضطرَّا إلى مبايعة أهل الرأي في القبيلة. فسيِّد القبيلة لم يكن يتمتّع بسلطة إصدار قواعد قانونية ملزمة، فلم تكن له في الأغلب، سلطة تشريعية أو سلطة تنفيذية ذات بال.
وكذلك لم يكن سيِّد القبيلة يتمتّع بسلطة قضائية؛ فالقضاء كان بين يدي حكّام يختارهم الخصوم، ولم تكن قراراتهم تنفّذ بالقوة، بل كان المحكوم ضدّه يقوم بتنفيذها طواعية. وكان من الحكمة الالتجاء إلى سيِّد القبيلة بوصفه حَكَمًا، لكنه في هذه الحالة لم يكن يتمتّع بأكثر مما يتمتّع به غيره من الحكّام، فلم تكن له سلطة تنفيذ قراراته جبرًا. وكانت سلطته تعتمد، في الدرجة الأولى، على ما يتمتّع به من مكانة وما يحظى به من احترام وتبجيل.
وكانت وسيلته إلى تحقيق مشيئته هي الإقناع أكثر من الإجبار، والتأثير الشخصيّ أكثر منه القوّة المادية. وفضلاً عن ذلك فإنّ رئيس القبيلة لم يكن ينفرد باتخاذ القرارات في المسائل المهمّة أو المصيرية، بل كان ملزمًا بدعوة زعماء العشائر والشخصيات البارزة في القبيلة إلى مجلس يناقشون فيه المسائل المطروحة، ويتخذون في شأنها ما يشاؤون من قرارات، ولم يكن هذا المجلس مجرّد مجلس استشاريّ، وإنما كان مجلسًا له وزنه وثقله. ولم يكن في وسع سيِّد القبيلة تجاهل هذا المجلس، واتخاذ قرار مغاير لما استقرّ عليه الرأي فيه. بل إنّ سيِّد القبيلة لم يكن يتمتّع في هذا المجلس بأكثر مما كان يتمتّع به غيره من الأعضاء. وكان سيِّد القبيلة بوصفه رئيسًا ينوب عنها في علاقاتها بالقبائل الأخرى. فهو الذي يرسل الوفود إلى سادات القبائل الأخرى في المناسبات المختلفة لعقد حلف، أو تفاوض، أو التهديد بحرب، أو للتهنئة أو التعزية، وما شاكل ذلك من أمور(20).

الأحـلاف:
و من الاتحادات التي كانت تجمع القبائل اتحادات "الأحلاف" ويُظنّ أنّ هذه الاتحادات لعبتْ دورًا كبيرًا في تكوين القبائل؛ إذ كانت تنضمّ العشائر الضعيفة إلى العشائر القوية الكبيرة لتحميها وتردّ العدوان عنها؛ يقول البكري: "فلمّا رأت القبائل ما وقع بينها من الاختلاف والفُرقة وتنافس الناس في الماء والكلأ، والتماسهم المعاش في المتّسع، وغلبة بعضهم بعضًا على البلاد والمعاش واستصفاف القويّ الضعيف، انضمّ الذليل منهم إلى العزيز، وحالف القليل منهم الكثير، وتباين القوم في ديارهم ومحالّهم، وانتشر كل قوم فيما يليهم"(21).
وبمجرّد أن تدخل القبيلة في حلف يصبح لها على أحلافها كل الحقوق، فهم ينصرونها على أعدائها ويردّون كيدَهم عنها في نحورهم. وقد تنفصل بعض قبائل الحلف لتنضمّ إلى حلف آخر يحقِّق مصالحها، ومن ثم كنا نجد دائمًا أحلافًا تضعف، وتحلّ محلّها أحلاف أخرى. وقبائل قليلة لم تدخل في أحلاف، ولذلك سميت "جمرات العرب"، لما كان فيها من شجعان يكفونها في الحروب؛ على أنّ هذا كثيرًا ما كان يؤول بها إلى أن تنهك في المعارك. أمّا القبائل المتحالفة فكانت تُهاب لخشونة مسنِّها. وأصل الحلف والتحالف من كلمة (الحلف) بمعنى اليمين الذي كانوا يقسمونه في عهودهم، وكانوا يغمسون أيديهم في أثناء عقد أحلافهم في طِيب أو في دم، وكانوا يقولون: الدّم الدّم، والهدم الهدم، لا يزيد العهد طلوع الشمس إلاّ شدّا وطول الليالي إلاّ مدّا. وربما أوقدوا النار عند تحالفهم، ودعوا الله على من يحنث بالعهد بالحرمان من منافعها. ويقال إنّ قبائل مرّة بن عوف الذبيانيين تحالفت عند نار ودنوا منها حتى محشتهم (أحرقتهم) فسمّي حلفهم باسم المحاش. ومن الأحلاف المشهورة في مكة حلف "المطيبين"؛ وقد تعاقد فيه بنو عبد مناف وبنو زهرة وبنو تيم وبنو أسد ضد بني عبد الدار وأحلافهم، ويقال إنهم غمسوا أيديهم في جفنة مملوءة طِيبًا.
وأكرم من هذا الحلف (حلف الفضول) وفيه تحالفتْ قبائل من قريش على أن لا يجدوا بمكة مظلومًا إلا نصروه وقاموا معه حتى تردّ عنه مظلمته.
ومن أحلاف العرب المشهورة (حلف الرباب)، وهم خمس قبائل: ضبة وثور وعُكل وتيم وعدي، وحلف عبس وعامر ضدّ ذبيان وأحلافها من تميم وأسد، وحلف الحُمْس بين قريش وكنانة وخزاعة.
وكان لهذه القبائل جميعًا المتحالفة وغير المتحالفة مجلس يضمّ شيوخ عشائرها، وهو ندوتهم التي ينظرون فيها شؤون قبيلتهم(22).
المـلأ والنـادي:
من المعروف أنّ مجتمع الحواضر كان ينقسم إلى قسمين:
1- القبيل أو الجماعة، وهم جمهور القبيلة وعامتها.
2- الملأ وهم علية القوم وأشراف القبيلة وكبار أعيانها، وهم السادة والكبراء؛ وهؤلاء الملأ هم الطبقة التي تكون حول الملك يأخذ الملك برأيهم ويقتدي القوم بهم أو يخضعون لنفوذهم.
والنادي والندوة والمنتدى والندي مجلس القوم الذي يجتمع فيه الملأ لتصريف شؤون البلاد أو شؤون القوم (القبيل).
وكان نادي أهل مكة يُدعى (دار الندوة)، فيما جاء في الأخبار. أمّا في القرآن الكريم فإنّ اسمه (النادي)(23).
ويبدو أنه كان لكل مدينة وكل قبيلة ناد على مثال نادي قريش في مكة. ووصول الملأ إلى النادي وتصريفهم للأمور لا يجريان على نهج مرسوم ولا على قانون موضوع. إنّ دخول النادي أمر عشائريّ: كلما عظم شأن رجل بالجاه أو الغنى أو بالبطش دخل إلى النادي وأصبح من الملأ الذين يحكمون قومهم. وطريقة الحكم في النادي عشائرية: يحكم الملأ كما يتفق لهم أن يشاؤوا، يحكمون على حسب ما يرون من المصلحة أو على هواهم. وليس من الضروريّ أن يجتمع الملأ في النادي ليتفقوا على ما يجب فعله، بل قد يفصل أحدهم في أمر ما، في النادي أو في السوق أو في بيته، ثم لا يجد من يخالفه من رفاقه لأنهم كلهم يسلكون هذا السبيل. والنادي ليس دارًا للحُكم فقط، بل لجميع الشؤون: فيها يجري إعلان الحرب، ومنها يبدأ سير المحاربين إلى المعركة، وفيها يعقد زواج كل رجل وامرأة، وفيها تدرّع الفتيات إذا بلغن سِنّ الحلُم (يشقّ عنها ثوب الطفولة ثم تُكسى ثوب النساء)(24).
كان الملأ هو الأداة الحكومية الوحيدة في مكة قبل الإسلام، وهو عبارة عن مجموع يضمّ رؤساء جميع بطون قبيلة قريش ورجال الوجاهة فيها. وسلطة هذا المجمع سلطة أدبية وليس له أيّ قوّة تنفيذية، وذلك لأنه من ناحية المبدأ كان لكل بطن استقلاله وحريته في التصرف. وبذلك لا تكون أوامر "الملأ" نافذة إلاّ إذا كانت بالإجماع وبرضى رؤساء جميع البطون بما فيهم البطن موضع المشكلة. أمّا إذا كانت أوامر الملأ غير موافق عليها جماعيًّا فإنّ تنفيذها يرجع إلى حرية البطون ومدى موافقتها على قرار الملأ. وكانت قوة مكة مستمدة إلى حدٍّ بعيدٍ من استطاعة قادتها على الاتفاق على رأي موحَّد حيال الأزمات التي تتعرّض لها، ومقدار ما يقدّمه المخالفون من تنازلات إزاء الصالح العامّ.
وإلى جانب الملأ وهو المجلس المركزيّ للقبيلة بكاملها، كانت هناك مجالس خاصة بالعشائر أو البطون، وتجتمع هذه المجالس لمناقشة القضايا الخاصة، كما حدث مثلاً حين دعا أبو طالب بني هاشم وبني المطلب ليقفوا صفًّا واحدًا في نصرة النبي محمد صلى الله عليه و سلم حين آذته بقيّة بطون قريش واعترضت على دعوته. ولهذه المجالس أماكن للاجتماع وتدعى بالنوادي(25).
وكان مجلس الملأ يُعقد في دار الندوة التي أنشأها قصيّ بن كلاب، قرب الكعبة، وكان يتمّ فيها البتّ في جميع الشؤون العامّة من تجارة وحرب، وعقد المعاهدات والاتفاقات وتجهيز القوافل. كذلك كان يتمّ في هذه الدار كثير من الأمور الخاصة كعقود الزواج والاحتفال ببلوغ البنات سِنّ الحلم. وما عدا أبناء قصيّ كان لا يدخل دار الندوة من قريش إلاّ من بلغ سِنّ الأربعين.
ويتفرّع عن رئاسة قريش ويتصل بها بعض الوظائف المهمة، وكانت هذه الوظائف كلها في الأساس من اختصاص قصيّ، وقد قرر قصيّ قبل أن يتوفّى أن يعهد بوظائفه كرئاسة دار الندوة واللواء والسقاية والحجابة والرفادة إلى ابنه الأكبر عبد الدار. وفعلاً فقد قام عبد الدار بهذه الوظائف كلها بعد وفاة أبيه وخلفه فيها أبناؤه. وقد نازعهم عليها أولاد عمّهم عبد مناف، وكان ينشب قتال مرير بين الطرفين اللذين تمثّلا في حلف المطيبين، ولعلاقة الدّم التي تربط بين الطرفين اللذين انتهيا إلى الاتفاق على أن تكون لبني عبد مناف السقاية والرفادة، وأن تكون الحجابة واللواء ودار الندوة إلى بني عبد الدار.
وكان عبد شمس بن عبد مناف الذي آلت إليه السقاية والرفادة فقيرًا كثير العيال فتنازل عن هاتين الوظيفتين لأخيه هاشم الذي كان موسرًا يستطيع الاضطلاع بنفقاتهما. ولم تزل دار الندوة في يد بني عبد الدار حتى باعها عكرمة ابن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصيّ إلى معاوية دارًا للإمارة.
ويجدر بنا عند هذا الحدّ من حديثنا أن نتوقف قليلاً لنتعرّف على المهامّ المتعلقة بهذه الوظائف والواجبات الملقاة على المسؤول عنها؛ لأنها جميعًا ذات صلة بالرئاسة السياسية لمكة، ولأنها انبثقت من المركز الدينيّ المهمّ لهذه المدينة بالنسبة لعرب الحجاز(26).
1- الحجابة: كان القائم بالحجابة يمتلك مفاتيح الكعبة، فهو الذي يأذن للناس بالدخول إليها، ولا تقام شعائر دينية إلاّ بإذنه. وليس هناك من دليل على أنه كان يفترض فيمن يقوم بها أن يكون عالمًا بالشؤون الدينية أو له صفة الكهانة. وقد أخذ قصيّ الحجابة من خزاعة وسلّمها بعده لابنه عبد الدار ومن بعده لأبنائه.
2- الرفادة: ويقول عنها الطبري ما يلي: "خَرْجٌ تُخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قصيّ بن كلاب، فيصنع به طعامًا للحُجّاج يأكله مَن لم تكن له سعة ولا زاد ممن يحضر الموسم؛ وذلك أنّ قصيًّا فرضه على قريش فقال لهم حين أمرهم به: يا معشر قريش، إنكم جيران الله وأهل بيته الحرام، وإنّ الحجاج ضيوف الله وزوار بيته، وهم أحقّ الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعامًا وشرابًا أيام هذا الحج حتى يصدروا عنكم. ففعلوا، فكانوا يُخرجون لذلك كل عام من أموالهم فيدفعونه إليه فيصنعه طعامًا للناس أيام منى. فجرى من أمره على قومه في الجاهلية، حتى قام الإسلام، ثم جرى في الإسلام إلى يومك هذا، فهو الطعام الذي يصنعه السلطان كل عام بمنى حتى ينقضي الحج"(27). فكان كل إنسان يدفع مقدارًا من المال من أجل طعام الرفادة يتناسب وثروته. وكانت هذه الوظيفة، كما ذكرنا، لبني عبد الدار ثم آلت إلى هاشم.
3- السقاية: وهي جمع الماء من آبار مكة المختلفة وحمله على الإبل في المزاود والقِرَب وسكبه في حياض من أدم توضع في فناء الكعبة فيراه الحجيج ويستقون منه.
وكان قصيّ قد حفر بمكة آبارًا عديدة لحلّ أزمة مياه الشرب التي كانت تشكو منها مكة، وسار على سنّته في حفر الآبار وتقصّي مواقع المياه هاشم بن عبد مناف الذي آلت إليه السقاية إلى جانب الرفادة من بعده. ولم يزل يقوم بهذه الوظيفة حتى مات، فقام بها من بعده ابنه عبد المطلب الذي حفر بئر زمزم التي أصبحت مشرب الحجاج. ولبث عبد المطلب يسقي الناس حتى توفي فقام بأمر السقاية بعده العباس بن عبد المطلب. وكان للعباس كرْم بالطائف يأخذ زبيبه ويضيفه إلى ماء زمزم لسقاية الحجاج(28).
4- اللواء: وليس لهذه الوظيفة صبغة دينية، بل تتعلق بشؤون الحرب. واللواء هو العلم الذي يحمل في المعارك ويدافع عنه أفراد القبيلة حتى الموت. وكان اللواء لبني عبد الدار، وقد قُتل سبعة منهم وهم يدافعون عنه أثناء غزوة أحد(29).

الهوامش : دمشق ، سوريا .

(1) المقدمة لابن خلدون، مطبعة دار القلم، بيروت، 1978م، 56.
(2) تاريخ الجاهلية، د. عمر فروخ، دار العلم للملايين، بيروت، 1984م، 56-57.
(3) دراسات في تاريخ العرب، د. السيد عبدالعزيز سالم، الإسكندرية، 1968م، 1/570.
(4) مقدمة في تاريخ صدر الإسلام. د. عبالعزيز الدوري، ، ط2، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1968م، 32.
(5) دراسات في تاريخ العرب، مرجع سابق، 570.
(6) رؤية العالم عند الجاهليين، د. ثناء أنس الوجود، عين للدراسات والبحوث، القاهرة، 2001م، 34.
(7) الحكومة والسياسة في المجتمعات العربية، شابيرا، لندن، 93.
(8) تطور بنى الأسرة العربية، د. زهير حطب، ط3، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1983م، 35.
(9) تاريخ شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، د. السيد عبدالعزيز سالم، مؤسسة شباب الجامعة، القاهرة، 1999م، 359.
(10) تطور بنى الأسرة العربية، مرجع سابق، 36.
(11) تاريخ شبه الجزيرة العربية، 360-361. (12) رؤية العالم عند الجاهليين، 36-37.
(13) المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، د. جواد علي، دار العلم للملايين، بيروت ومكتبة النهضة ببغداد، ط3، 1980م، 1/212.
(14) العرب في تاريخهم وحضارتهم إلى آخر العصر الأموي، د. عمر فروخ، دار العلم للملايين، بيروت، 190، 67-68.
(15) المرجع نفسه، 68.
(16) قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية، خليل عبدالكريم، سينا للنشر، القاهرة، 1993م، 166-167.
(17) العرب في تاريخهم وحضارتهم، 68-69. (18) تاريخ شبه الجزيرة العربية، 362-363.
(19) نظم العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، د. محمود سلام زناتي، القاهرة، ذ995م، 48-49.
(20) المرجع السابق، 50-51. (21) معجم ما استعجم، البكري، طبعة السقا، 1/53، ص58.
(22) تاريخ الأدب العربي، د. شوقي ضيف، 58-59.
(23) العرب في تاريخهم وحضارتهم، 75-76. (24) المرجع السابق، 76-77.
(25) تاريخ العرب القديم والعصر الجاهلي، د. نبيه عاقل، جامعة دمشق، 1983م، 224.
(26) المرجع السابق، 224-225. (27) الطبري، دار المعارف بمصر، ط4، 2/260.
(28) تاريخ العرب، د. نبيه عاقل، 227. (29) المرجع السابق، 228.

منقول وأنتم سالمون وغانمون والسلام .



رد مع اقتباس
 
 
غير متصل
 رقم المشاركة : ( 2 )
الجوال550
عضو فعال
رقم العضوية : 18187
تاريخ التسجيل : 28 - 12 - 2007
الدولة : ذكر
العمر :
الجنس :
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 138 [+]
آخر تواجد : [+]
عدد النقاط : 10
قوة الترشيح : الجوال550 is on a distinguished road
الأوسمـة
بيانات الإتصال
آخر المواضيع

التوقيت
رد : النظام القبلي عند العرب في الجاهلية

كُتب : [ 03 - 04 - 2008 ]

استاذي الكريم : خيال الغلبا

كتبت فابدعت

سلمت يداك

وبوركت جهودك

جميل ما قدمت من شرح موجز
ونطمع في المزيد.اتمنى لك دوام التوفيق والتميز

تقبل مرورى,,,,,,

رد مع اقتباس
 
 
غير متصل
 رقم المشاركة : ( 3 )
خيَّال الغلباء
وسام التميز
رقم العضوية : 12388
تاريخ التسجيل : 01 - 03 - 2007
الدولة : ذكر
العمر :
الجنس :
مكان الإقامة : نجد العذية
عدد المشاركات : 20,738 [+]
آخر تواجد : [+]
عدد النقاط : 49
قوة الترشيح : خيَّال الغلباء is on a distinguished road
الأوسمـة
بيانات الإتصال
آخر المواضيع

التوقيت
رد : النظام القبلي عند العرب في الجاهلية

كُتب : [ 03 - 04 - 2008 ]

أخي الكريم / الجوال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد : شكرا جزيلا لك على مرورك الكريم بالنظام القبلي عند العرب في الجاهلية مع أطيب الأمنيات واسلم وسلم والسلام .


رد مع اقتباس
 
 
غير متصل
 رقم المشاركة : ( 4 )
منسم الحفيات
عضو مميز
رقم العضوية : 25398
تاريخ التسجيل : 21 - 04 - 2008
الدولة : ذكر
العمر :
الجنس :
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 1,199 [+]
آخر تواجد : [+]
عدد النقاط : 10
قوة الترشيح : منسم الحفيات is on a distinguished road
الأوسمـة
بيانات الإتصال
آخر المواضيع

التوقيت
رد : النظام القبلي عند العرب في الجاهلية

كُتب : [ 22 - 06 - 2008 ]

جزاك الله خير

إذا نطق السفيه فلا تجبه = فخير من إجابته السكوت
سكت عن السفيه فظن أني = عييتُ عن الجواب وما عييتُ
فإن كلمته فـرّجت عنـه = وإن خليته كـمدا يمـوت

رد مع اقتباس
 
 
غير متصل
 رقم المشاركة : ( 5 )
خيَّال الغلباء
وسام التميز
رقم العضوية : 12388
تاريخ التسجيل : 01 - 03 - 2007
الدولة : ذكر
العمر :
الجنس :
مكان الإقامة : نجد العذية
عدد المشاركات : 20,738 [+]
آخر تواجد : [+]
عدد النقاط : 49
قوة الترشيح : خيَّال الغلباء is on a distinguished road
الأوسمـة
بيانات الإتصال
آخر المواضيع

التوقيت
Post رد : النظام القبلي عند العرب في الجاهلية

كُتب : [ 01 - 07 - 2008 ]

أخي الكريم / منسم الحفيات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد : شكرا جزيلا لك على مرورك الكريم بالنظام القبلي عند العرب في الجاهلية والإسلام ويختلف القبيلي بين إطلاقية اللغة ومحدودية المصطلح فإنه في اللغة هو كل من انتسب لقبيلة، والقبيلة في اللغة هي وحدة اجتماعية - سياسية يجمعها العرق ويوحدونها الأسلاف في أفريقيا قبائل وفي أمريكا قبائل، ولبني إسرائيل قبائل؛ وعليه، فالزولاوي ( نسبةً لقبائل الزولو الأفريقية ) قبيلي لغةً لكن هل الحال كذلك اصطلاحاً في نجد ؟ المصطلحات والمفاهيم لا يمكن إطلاقها، بل هي محدودة بثقافة بيئتها أما اللغة فعامة حرة لا تحدها ثقافة ولا تقيدها بيئة لذلك، فمن المنصف التقيد بمصطلحات البيئة عند الحديث عن بيئة ما، وأن لا تستغل عمومية اللغة عندما يكون للمصطلح خصوصية وخير الكلام ما قل ودل والله يعافيك ويبارك فيك ويجزاك خيرا ويبيض وجهك يوم تبيض وجوه وتسود وجوه هذا وتقبل فائق الشكر والإمتنان مقرونا بجزيل المحبة والإحترام والله يحفظكم ويرعاكم مع خالص التحية وأطيب الأمنيات واسلم وسلم والسلام .



التعديل الأخير تم بواسطة خيَّال الغلباء ; 20 - 12 - 2009 الساعة 14:28
رد مع اقتباس
 
 
غير متصل
 رقم المشاركة : ( 6 )
خيَّال الغلباء
وسام التميز
رقم العضوية : 12388
تاريخ التسجيل : 01 - 03 - 2007
الدولة : ذكر
العمر :
الجنس :
مكان الإقامة : نجد العذية
عدد المشاركات : 20,738 [+]
آخر تواجد : [+]
عدد النقاط : 49
قوة الترشيح : خيَّال الغلباء is on a distinguished road
الأوسمـة
بيانات الإتصال
آخر المواضيع

التوقيت
رد : النظام القبلي عند العرب في الجاهلية

كُتب : [ 18 - 08 - 2008 ]

بسم الله الرحمن الرحيم

من ميزات الإسلام أنه استطاع صهر المجموعات البدوية والحضرية في نسق واحد ووجههم في خط الرسالة

بقلم الكاتب السوري / عبد الرحمن حللي :

تعتبر البيئة التي شهدت ختم النبوة ذات دلالة هامة حول علاقة الرسالة بالواقع والسياق الجغرافي والتاريخي الذي بدأت فيه ، كما أن معرفتها مهمة في فهم طبيعة الرسالة الخاتمة وخصائصها ، والإلمام بهذه البيئة يكتنفه الكثير من الصعوبات والغموض , لا سيما فيما يخص الواقع الديني الذي كان سائداً آنذاك ، إذ المراجع التاريخية حول هذه المرحلة وفي الجانب الديني بالخصوص قليلة جداً ، وما وجد منها لا يفيد في الموضوع , إلا إشارات ودلالات عامة لا تفسر العقلية والتفكير الديني الذي كان سائداً , بخلاف مناطق ومراحل تاريخية أخرى , إذ توجد حولها نصوص ونقوش مفصلة أحياناً ، وهذا ما عانى منه مختلف المؤرخين الذين اشتغلوا في الموضوع (1) .

أما النص القرآني فأسلوبه بشكل عام يبتعد عن التفصيل في المواضيع التاريخية , إذ يأتي بذكرها لتحقيق هدف خاص هو العبرة والنقد والتوجيه نحو المستقبل , واكتشاف السنة الإلهية ، لذلك فهو غير صريح في الدلالة على ما كان سائداً ، لكن ما ورد فيه من نقد متواتر لما كان سائداً من عادات وتقاليد وأفكار يمكن أن يكون مرجعاً غير مباشر لاكتشاف تلك البيئة المثيرة (2) .

وهذا ما سنتتبعه في هذه المقاربة مستأنسين ببعض ما ورد في الدراسات التاريخية المتخصصة في تلك المرحلة ، وقد لوحظ أن القرآن يقدم عن الدين الجاهلي صورة تختلف تماماً عما تقدمه كتب التاريخ والأدب (3)، لا سيما وأن تلك المصادر سعت إلى تقليل شأن عصر النبي وبيئته قبل البعثة من الناحية المادية والأدبية , والمدارك العقلية حيث تصفها بصفات الجهل والانحطاط والغلظة .. ، وهي نظرة تخالف ما تلهمه نصوص القرآن عن تلك الفترة (4) .

المجتمع بين البدو والحضر :

من الصعوبات التي نود أن نشير إليها والتي لم يسعف فيها النص القرآني ولا الدراسات التاريخية الخلط في المصادر بين البيئة الحضرية المكية التي بعث فيها الرسول وبين عادات وتقاليد أهل البدو والمناطق غير الحضرية ، فما ورد عن العرب في الجزيرة العربية يتم تداوله مجملاً من غير تفصيل (5)، فهل ما ورد كان خاصاً بأهل مكة من العرب , أم يشمل ما جاورهم في أصقاع الجزيرة العربية من بواد وحواضر أخرى غير مكة وهي غير قليلة وعلى صلة مباشرة بأهل مكة ، وما يدعو إلى إثارة هذا التساؤل ما يمكن ملاحظته من تناقض في العادات (6)، والقيم الواردة عنهم مجملة دون تفصيل ، بل إن بعض المستشرقين شكك في مدينة مكة باعتبارها محطة للقوافل (7) .

وإذا تأملنا في القرآن نجد إشارات خاصة إلى الأعراب (8) الذين يكونون عادة حول القرى (9)، وبينت الآيات بعض أخلاقهم وعاداتهم وكيفية تعاملهم مع الرسول مشيرة إلى كونهم أشد كفراً وغلظة من أهل الحضر (10)، مما يدل على تفاوت في قيم التعامل مع الرسالة بين أهل القرى وأهل البادية ، كما أن الأعراب أنفسهم - كما تشير الآيات - لم يكونوا على درجة واحدة في تلقي الرسالة وتعاملهم معها (11)، ومما يلح على ضرورة التمييز بين البدو الحضر هو ظاهرة تعميم حال البدو الرُّحَّل , واعتبارهم مقياساً للثقافة العربية فيما قبل الإسلام (12).

لكن بعض الباحثين لاحظ ضرورة إعادة الاعتبار للقرشيين الذين كانوا أكثر وعياً وذكاء وإنسانية من الجموع البدوية ، وأنه كانت لهم قدرات أخلاقية وفكرية استثنائية ، لا يستبعد أنها تكرست عبر تحول الشخصية لأناس كانوا بدواً في الماضي , وذلك بفضل الاستقرار الذي ساعد عليه توطد التجارة في مكة (13).

وأن هذا الوضع الجديد للقرشيين في مكة أدى إلى دخول قيم جديدة بفضل الثروة , ومن هذه القيم النزعة الفردية , وروح المنافسة مقابل المثل الجماعية التي كانت طاغية , ويحاول هذا التفسير إبراز حاجة المجتمع إلى قيم جديدة تحافظ على القبيلة (14) .

أياً يكن الأمر فيما يخص الاختلاف بين أهل القرى وأهل البادية وما كان سائداً بين كل من نظُمٍ وقيمٍ ، فإن من ميزات الإسلام أنه استطاع صهر المجموعات البدوية والحضرية في نسق واحد ووجههم في خط الرسالة (15)، والأهم هو فهم هذا المنهج القرآني من خلال الأفكار التي نقدها القرآن مجملة من غير تفصيل بيئتها وخلفيتها وأصحابها ، كما هو الشأن في الكثير من القصص القرآني .

فما لم يكن التاريخ مؤثراً في العبرة والدلالة يهمل ، والذي يمكن تلمسه من خلال هذا العموم القرآني في الحديث عما كان سائداً قبل البعثة هو الثراء والتنوع والتناقض في القيم والأديان والعادات التي كانت سائدة قبل البعثة ، حتى اعتبرت الجزيرة العربية مختزلة لأديان ومعتقدات العالم السماوي منها والأرضي (16).

وفي هذا الإطلاق والتنوع في بيئة جغرافية مركزية تشهد حركية منقطعة النظير بين مختلف المناطق من العالم دلالة على الحكمة من كون الرسالة الخاتمة تنطلق من هذه البيئة إلى العالم , إذ ستأخذ طابع البيئة التي انطلقت منها وهو العالمية ، وهذا ما يدعونا إلى اكتشاف مكة في عصر ما قبل البعثة , وما أهَّلها لاحتضان مبعث النبوة الخاتمة .

مكة قبل البعثة :

إذا ذكرت مكة تعود الذاكرة إلى إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - ورفعهما القواعد من البيت , ونداء إبراهيم في الناس بالحج ، ودعاء إبراهيم لأهل هذا البيت (17)، وفي هذه الإشارة والعلاقة بين إسماعيل وذريته والبيت الحرام دلالة على التقابل مع إسحق , وتوالي الأنبياء من ذريته ، فكانت ذرية إبراهيم قد شرفت بالتاريخ الرسالي والجغرافية المقدسة والمحرمة ، فلئن اختص نسل إسحق بالأنبياء فإن نسل إسماعيل ارتبط بالمكان الذي أصبح مركزاً ومآلاً للرسالات التي ختمت به ؛ لتنطلق إلى العالم بصيغة نهائية تناسب الكونية التي غدت تحتلها مكة وبيتها الحرام ، أول بيت وضع للناس (18)، الذي سيصبح مركز التاريخ الإنساني (19) .

هذه المركزية والعمق التاريخي لمكة الذي يشير إليه القرآن يدعو لمعرفة أحوالها , وذلك لفهم الأساس الذي قام عليه الإسلام (20).

يطلق القرآن على مكة اسم أم القرى (21) مما يحمل دلالة على محوريتها بين القرى الأخرى التي ترجع إليها , وتقلدها كعاصمة توجه المنطقة (22)، فموقفها من أي قضية يؤثر بموقف المناطق الأخرى حتى إذا فتحت ودانت بالإسلام تبعها الناس (23)، ومما لا يحتاج إلى تأكيد أن وجود الكعبة ومناسك الحج فيها كان العامل الأكبر في مكانة مكة , والمركز المعنوي الذي تتمتع به (24).

إضافة إلى ما كانت تتمتع به من حركية تجارية بفضل موقعها على الطريق التجاري البري بين اليمن وبلاد الهلال الخصيب ، وممارسة أهلها للتجارة مع مختلف بقاع العالم براً وبحراً ، وكذلك المهن المرتبطة بالتجارة (25)، والقرآن يحفل بالآيات الدالة على ذلك .

فالقرآن يستعمل تعابير مالية وتجارية لا بد كانت مفهومة ومتداولة مثل : الحساب والميزان والقسطاس والذرة والمثقال والقرض ، كما ذُكرت السفن والجواري والمنشآت في البحر ، وتردد فيه ذكر تجارة البحر ، كما كانت ظاهرة الاستثمار بالربا والقرض ظاهرة منتشرة كما تدل آيات الربا في القرآن ، وسورة قريش (26) واضحة الدلالة على الرحلات التجارية البرية , وما كان يعقد فيها من اتفاقيات وعلاقات ، والسور المكية تحفل بما يدل على ثرواتهم الطائلة (27).

كما أن عاداتهم في استقبال القوافل التجارية بقيت مستمرة لما بعد الإسلام (28)، كل ذلك يدل على المكانة التجارية التي كانت تحتلها مكة قبل البعثة ، ويستتبع هذه المكانة مستوى من الوعي الضروري الذي أهَّلهم للقيام بهذا الدور .

هذا والمكانة الدينية التي تحتلها مكة منذ القديم (29) هي العامل الأساسي في نجاحها التجاري , إذ شكل موسم الحج فيها سوقاً تجارياً سنوياً ، والأهم من ذلك ما وفره الحرم من أمن لمكة , تلك المدينة التي لا تمتلك عوامل الأمن الطبيعية فجاء أمنها من قدسيتها واحترامها عند الناس , وقد أشار القرآن إلى هذا الجانب في قوله تعالى : " وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا , أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ " [ القصص : 57 ].

بل هناك آية قرآنية صريحة في كثرة خيراته , وهي" يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ " وقد أشار اللَّهُ إلى العلاقة بين الكعبة وموسم الحج وبين التجارة التي فيها قوام الحياة في قوله تعالى : " جعل الله الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ " [ المائدة : 97 ] (30).

قدسية مكة ومكانتها هذه فرضت بعض الوظائف الدينية والاجتماعية لدى أهل مكة الذين شرفوا بها ، وهي وظائف متداخلة ، فهي اجتماعية باعتبار علاقة الأقوام والقبائل بها , ودينية من حيث ارتباطها بالبيت الحرام ورعايته ، ومن هذه الوظائف التي أشار القرآن إلى قيامهم بها : النسيء وهو تحديد مواعيد الأشهر الحرم من كل عام بما يتناسب مع مصالحهم (31)، والسقاية وعمارة المسجد الحرام ورعايته (32).

هذه الصورة العامة لواقع مدينة مكة تدل على كونها مدينة تمتلك من مقومات النظام ما يؤهلها لقيادة ما حولها من الحواضر ، بل وتنظيم العلاقات واللقاءات بين مختلف القبائل والوفود القادمة إليها ، ولئن كان غامضاً طبيعة النظام الذي كان سائداً فإن هناك إشارات قرآنية عديدة إلى بعض الآليات التي كانت سائدة في إدارة مكة وقيادتها ، من ذلك ظاهرة النوادي التي كان يجتمع فيها الناس ويتداولون الشأن العام , وقد أشار القرآن إلى ذلك (33).

إضافة إلى العديد من المفردات التي تم تداولها في القرآن , والتي تدل على وجود ملامح الشوكة والسلطة والحكم في تلك البيئة ، من ذلك : الجند ، الإثبات والإخراج من مكة ، الملأ ، الحبس ، السجن ، أولو الأمر .. ، كل هذه المفردات تدل على مفهوم السلطة , وقد استعملت في آيات مكية ، ومنها ما هو مباشر يخص أهل مكة , ومنها ما يدل السياق على علمهم بمضمونها ومعانيها (34).

ونفس الأمر بالنسبة للقضاء فهناك آيات ومصطلحات – أبرزها مفردة الحكم ومشتقاتها - تدل على وجود نمط من السلطة القضائية تحل النزاعات بين الناس ، وكانت تستند إلى التقليد والعرف ، ويقوم بها الوجهاء ، وتتم بالاختيار (35).

هذا عن المعالم العامة لمكة قبل البعثة ، أما الشرائح السكانية التي كانت تقطن في مكة فهناك آية تشير إلى وجود بعض الأجانب إلى جانب العرب (36)، لكن هناك آيات مكية كثيرة (37) تدل على وجود جالية لا بأس بها من أهل الكتاب يعيشون مع العرب في مكة وأكثرهم من النصارى وفيها بعض اليهود (38).

أما جذور وتاريخ اليهود في الجزيرة العربية فليس هناك من النصوص التاريخية ما يتحدث عن وجودهم قبل الميلاد , أما بعده فقد ثبتت هجرتهم إلى الحجاز إثر ظهور الروم على بلاد الشام وفتكهم بالعبرانيين (39)، أما النصرانية فقد دخلت الحجاز عن طريق التبشير والنساك والرهبان الذين قدموا إليها (40).

وقد دخل بعض العرب في النصرانية , أما اليهود فقد كانوا أقلية في مكة , وانتشروا في المدينة أكثر , ويدل الخطاب القرآني لهم بـ ( بني إسرائيل ) على الإطلاق على الصلة بين معاصري عصر الرسول وأسلافهم وعلى كونهم طارئين على الحجاز , وأنهم غير عرب (41).

هذه الجالية الأجنبية المقيمة بمكة بما تحمله من أفكار وعادات ، إضافة إلى الوفود السنوية من مختلف المناطق التي تفد إلى مكة في موسم الحج أو القوافل التجارية التي تمر عبر طريقها ، كل ذلك سيكون له دوره في التلاقح الفكري الذي من الطبيعي أن يكون له أثره في أفكار وربما عقائد المكيين ، وفضلاً عن هذا الجانب فإن لحضور هذه الجاليات دلالة على كون مكة فضاء مفتوحاً , وكون المكيين على إحاطة بما يجري في العالم , وعلى اتصال دائم بما حولهم ، كل هذه المعطيات تؤكد المكانة الحضارية التي كانت تمتاز بها مكة مما أهلها لاحتضان الرسالة الخاتمة التي ستنطلق إلى العالم المختزل في عالم مكة الأرخبيلي .

لكن المحور الأهم في حياة المكيين هو الأفكار والعقائد التي كانت سائدة قبل البعثة ، ولئن كان القرآن المكي يشتمل على بيانها فإن السياق القرآني يعالج هذه الأفكار خارج إطار الزمان والمكان ، وليس من الضروري أن تكون الأفكار المطروحة للنقد هي أفكار أهل مكة باعتبار أن الدعوة كانت تنطلق إلى جميع الناس , حتى الوفود الذين يردون إلى مكة أو القاطنين خارجها ، مما يقتضي اتباع السياق القرآني , وتناول تلك الأفكار خارج السياق التاريخي والجغرافي ، ويؤكد أهمية ذلك ما أشرنا إليه سابقاً من تداخل أفكار أهل البدو مع أهل الحضر دون تمييز .

لهذه الاعتبارات سنتناول الأفكار والعقائد التي كانت سائدة قبل البعثة , والتي يشير إليها القرآن , وذلك بغض النظر عمن كان يتبناها ، والمكان والتاريخ الذي كانت منتشرة فيه ، المهم حضورها في عصر الرسول .

الأفكار والعقائد / البيئة الدينية والفكرية قبل البعثة :

يحتل المجتمع الجاهلي مساحة كبيرة من آيات القرآن , إذ بلغت الآيات التي تناولته /1575/آية ، منها /1096/آية مكية و/479/آية مدنية ، وتشكل عقائد المجتمع الجاهلي نسبة 54% من الآيات ، ومعظمها مكي ، وقد توزعت القضايا العقدية فيها على ثلاثة محاور : الشرك = 514، البعث =282، إنكار الوحي =69 (42).

هذه المعطيات العددية إن دلت على شيء فإنما تدل على أهمية تلك المرحلة , وضرورة معرفتها لما لها من أثر في تصور الإضافة التي جاءت بها الرسالة الخاتمة ، والتركيز القرآني على مجموعة من العقائد المركزية , يشير إلى أهميتها في مضمون الرسالة الجديدة .

سنحاول استكشاف المحاور الرئيسية للأفكار والعقائد التي كانت سائدة مستلهمين ذلك من آيات القرآن مع الإحالة على أماكن تفصيلها في كتب اختصت بالموضوع ، وسنركز على ثلاثة محاور : الأفكار والعادات العامة , وسنجمل فيها ما ساد من عادات وتقاليد اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية بشكل عام ، ثم نثني بالعقائد الدينية التي كانت سائدة , ونتبع ذلك بالطقوس الدينية المنتشرة .

1- الأفكار والعادات العامة :

يوصف المجتمع الذي سبق البعثة بالجاهلية , وهو وصف وارد في القرآن على بعض الجوانب في ذلك المجتمع (43)، فهو وصف نسبي ينطبق على الجانب العقدي وما يرتبط به , وبعض العادات الاجتماعية , ولا تصح هذه التسمية من الناحية الثقافية (44)، فلم يكن مجتمع ما قبل البعثة كما تصوره الكثير من المصادر مجتمعاً معزولاً عن العالم , أو لا يعرف من العلوم شيئاً بل العكس ، إذ كان لدى العرب أدب ولغة في غاية التطور ، وكانت لديهم معارف بالأنساب والتاريخ والفلك ، فضلاً عما تقتضيه الحركة التجارية التي كانت سائدة في المنطقة من علم بالاقتصاد والحساب والكتابة ، والدلائل كثيرة على إلمام العرب بالقراءة والكتابة وانتشارها بينهم (45).

هذا التقدم الحضري الذي سبق البعثة يذكرنا بالبيئات التي بعث بها الرسل من قبل , والتي كانت تتميز بكونها مجتمعات حضرية متقدمة , وربما بلغت شأواً في العلم والتقدم المادي ، هذا الجانب المادي عندما يطغى على الجانب الأخلاقي يسود الظلم , ويصل بالمجتمع إلى مأزق روحي ، فيأتي التدخل الإلهي عبر إرسال الأنبياء لتصحيح مسيرة الناس , وردهم إلى فطرتهم , والإيمان بالله الذي يقتضي العدل , وإعارة الجانب الروحي من حياة الإنسان حقه ، فالتقدم المادي لا يستلزم رقياً دينياً أو روحياً , بل ربما كان عائقاً أمام انتشار القيم والمثل التي يحافظ عليها قلة في المجتمع ، وهذا ما كان عليه حال المجتمع الذي سبق بعثة الرسول .

فمن العادات الاجتماعية التي كانت سائدة في ذلك العصر التمييز ضد المرأة المتمثل في مختلف الجوانب المتعلقة بها من طرق النكاح والطلاق إلى الإرث والوأد ، وإن كانت هناك شريحة من النساء في نفس المجتمع تأخذ دوراً اجتماعياً متميزاً ينافس الرجل كالتجارة , والمشاركة في الدفاع عن المجتمع وقيمه ، وقد حكى القرآن مناهضة نماذج من نساء ذلك العصر الدعوةَ الجديدة وإيذائهن الرسول (46).

وهذا التفاوت في دور المرأة المتراوح بين كونها سبَّة وعاراً ومتاعاً , وبين ممارستها لدور قيادي في المجتمع يحمل إحدى دلالتين : إما تنوع الموقف من المرأة واختلافه بين الحضر والبدو , أو بين القبائل , أو بين المناطق , أو بين أصناف من النساء في المجتمع الواحد , وقد حكى القرآن جميع الصور التي كانت موجودة بإجمال دون تفصيل , مع تقويمها وتصحيحها , ودعم ما هو صواب وإيجابي منها .

والدلالة الثانية المحتملة أن المرأة كانت تتعامل مع تلك القيم التي تضطهدها على أنها أمر واقع وقانون اجتماعي ينبغي الرضا به وقبوله دون أن يمنعها من ممارسة دور ما يسمح به المجتمع ، وهذه العادات المتعلقة بالأحوال الشخصية والعلاقة مع المرأة إنما هي عادات اجتماعية لا ترتبط بالدين الجاهلي إلا في بعض الجوانب منها , سنشير إليها لاحقاً .

الجانب الآخر الذي كان سائداً من العادات , والذي كان يحمل أكثر من وجه من الناحية القيمية هو ظاهرة الولاء والعصبية بين أفراد القبيلة ومن يدخل في حلفهم ، وكان هذا الجانب يمثل رابطة العقد السياسي الذي ينظم المجتمع , ويقوده ويضمن فيه الأمن والحفاظ على الحوزة ووحدة القبيلة ، وقد أورثت هذه العادة بعض الجوانب الإيجابية التي استثمرها الإسلام ورعاها مثل : التآلف والتآزر ومساعدة الضعيف والجوار ..

لكن الجانب الخطير لهذه العادات هو ما تورثه العصبية العمياء من ظلم واعتداء وسفك للدماء , وذلك بالثأر ومناصرة القبيلة , سواء كانت على حق أو باطل ، فجاء الإسلام يصحح هذه المظاهر ويقومها (47).

إضافة إلى هذه العادات كانت ظاهرة الطبقية والرق منتشرة عندهم ، لكن العتق كان مكرمة يمتدح بها ممارسوها , وقد حارب الإسلام هذه الظاهرة , وشجع على مكرمة العتق التي كانت منتشرة كفضيلة بين الناس(48).

هذه هي أهم العادات التي كانت سائدة , أوردنا مجملها من غير تفصيل ؛ لأن تفاصيلها كثيرة وما أحلنا عليه من مراجع يغني عن التكرار , إنما أردنا الإشارة إلى الطابع المزدوج من الناحية القيمية لهذه العادات ، وكيف تعامل القرآن معها مستثمراً الإيجابي منها , ومصححاً للجانب المظلم منها ، وهذا المسلك القرآني مع العادات سيتكرر مع الجانب الديني الذي سنتناوله في الفقرة التالية .

2 - الفكر الديني قبل البعثة :

تطالعنا آيات القرآن بأسماء أديان كانت معروفة ومتداولة لها معتنقوها في ذلك العصر وهم : اليهود والنصارى والصابئون والمجوس والمشركون (49)، وقد كان لهذه الأديان حضور وتواصل بين أتباعها ، مما يجعل من الطبيعي أن يكون بينهم حوار وتأثر متبادل ، وسنعرِّف بكل فريق منهم في إطاره الزماني والمكاني .

اليهود والنصارى :

أشرنا قبل قليل إلى وجود جالية من اليهود والنصارى في مكة ، وكان لهم حضور أكبر في المدينة ، وقد اعتنق بعض العرب النصرانية ، وكان لبعضهم مكانة متميزة في المجتمع ، وكانت تجري بينهم وبين المشركين حوارات وجدل في قضايا مختلفة ، وقد تأثر بهم العرب , وتعلموا منهم بعض الفنون والقصص وأخبار الأنبياء والأمم الغابرة , فكان لعلمهم بالكتاب تميز على العرب الذين كانوا ينتظرون نبياً يبعث فيهم , بينما كان أهل الكتاب يدَّعون أن النبي سيبعث منهم (50).

وكان لهم تأثير في أفكار العرب الدينية لكن دون أن يتمكنوا من اكتساح الوثنية الجاهلية ؛ ففضلاً عن كون اليهودية ديانة قومية لا تسعى لإدخال الناس فيها فإن أفكارها لا تناسب بيئة العربي الذي يسعى للحصول على الغنائم من الحروب بينما تحرم اليهودية الانتفاع بها ، وكذلك المسيحية لم تكن لتقنع العربي الذي يحب الثأر أن يدير خده الأيسر لمن ضربه على خده الأيمن كما تدعو المسيحية (51).

لكن ذلك لم يمنع من انتشار النصرانية بين بعض القبائل العربية (52)، وقد كان لأفكار اليهود والنصارى أثر في تطور الفكر الديني العربي الذي تقدم عليهم أحياناً كما سيتم الإشارة إليه ، هذا ويتميز النصارى على اليهود بحسن علاقتهم مع المسلمين وتعاملهم السلمي مع الدعوة الجديدة , بخلاف اليهود الذين قاوموا الدعوة ومارسوا مختلف ألوان المكر والدس في محاربة الرسول والدعوة (53).

ورغم ذلك كان هناك فريق من اليهود والنصارى آمنوا واتبعوا الرسول (54)، ويحفل القرآن بما جرى من جدل بين الرسول واليهود والنصارى , وذلك في إطار أداء الرسول مهمته في التصديق والهيمنة لما بين يديه من الكتاب (55).

المجوس :

يقصد الأخباريون بالمجوس القائلين بالأصلين النور والظلمة ، وقد وردت لفظة المجوس في القرآن علَماً لدين (56)، فدل على وقوف أهل الحجاز على خبرهم ومعرفتهم بهم ، ولا يستبعد وجود نفر منهم في مكة والمدينة والطائف وغيرها ، ربما وجدوا عن طريق التجارة أو الرقيق ، ولم يرد دخول قبائل عربية في المجوسية , ولهذا كان معظم مجوس جزيرة العرب من الفرس المقيمين في البحرين واليمن وعمان (57)، ويروى أن المجوسية كانت في تميم (58)، وأياً يكن الأمر ففي ذكرهم دلالة على صلة العرب بالأديان الشرقية مما سيكون له أثر في أفكارهم وعقائدهم .

الصابئون :

ذُكِر الصابئون في القرآن ثلاث مرات ، وقد اتجه معظم المفسرين إلى جعل المقصود بهم ديانة الصابئة المختلف في عقائد أصحابها بين قائل إنهم من المجوس أو إنهم عُبَّاد الملائكة أو الكواكب أو الشمس ، أو إنهم فريق جمع بين مختلف الأديان ، ومن هذه العقائد ما طرأ بعد الإسلام (59).

وكل هذه التفسيرات مستبعدة نظراً لذكرهم مع المجوس , وتصنيفهم مع اليهود والنصارى ذوي الأصل التوحيدي , مما يرجح كونهم أقرب إلى التوحيد ، إضافة إلى أن الكلمة متداولة بين العرب بكثرة ، وتدل لغوياً على الميل والانحراف (60)، وقد استعملها العرب لمن انحرف عن دين القوم وعقائدهم ، وبهذا المعنى أطلقوها على من أسلم واتبع الدين الجديد ، وكانت تطلق على من ترك عبادة الأصنام ، كما كانت تستعمل في مقام الحنفاء .

وقد أطلقت على الرسول وأصحابه ، مما يرجح إطلاقها في عرفهم على الموحدين الذين نبذوا الأصنام قبل البعثة وانحرفوا عن دين قومهم ، وهم في التعبير القرآني غير المسلمين وغير اليهود والنصارى وغير المجوس , كما إنهم معهودون بين العرب ، وقد سُلِك العرب المسلمون في زمرتهم - رغم اعتراض المسلمين على التسمية - لاشتراكهم في الاعتراض على دين قومهم وانحرافهم عن تقاليده وقولهم بالتوحيد ، ولعلهم هم نفس الحنفاء الذين كانوا في الجاهلية (61).

ولا يزال مفهوم الصابئين من المفاهيم الشائكة التي حيرت المفسرين والباحثين قديماً وحديثاً (62)، وأرى أن هذه التسمية القرآنية ربما لتميز الحنفاء الذين أسلموا من الذين استمروا منهم على ما هم عليه ولم يدخلوا في الإسلام , إذ وصف الحنفاء التحم بوصف الإسلام , بينما الصابئون سلكوا في صنف الأديان ذات الأصل التوحيدي دون أن يعتنقوا الإسلام ، فهم الحنفاء قبل الإسلام ولم يتحولوا إليه ، وهذا يحيلنا على الحنفاء قبل الإسلام .

الحنفاء :

عرف الحنفاء بين المسلمين بأنهم من كانوا على دين إبراهيم من الجاهليين ، فلم يشركوا بربهم أحداً , ولم يدخلوا في يهودية ولا نصرانية ، ولم يقبلوا بعبادة الأصنام ديناً , بل سفهوا تلك العبادة والقائلين بها ، وكانت لهم عادات خاصة تميزوا بها ، وعلى العموم فإن المصادر لا تساعد على رسم صورة واضحة للحنفاء ، فما ورد في القرآن يؤكد أنهم أولئك الذين رفضوا عبادة الأصنام ، فلم يكونوا من المشركين ، بل كانوا يدينون بالتوحيد الخالص ، وهو فوق توحيد اليهود والنصارى ، فلم يكونوا يهوداً ولا نصارى ، وكان قدوتهم إبراهيم .

أما المصادر التاريخية فإن معظم ما ورد فيها عنهم يخص الناحية الأخلاقية أكثر مما يخص الناحية الدينية ، وما يمكن ملاحظته أن الحنفاء كانوا على رأي واحد لا كطائفة واحدة ، فقد كانوا نفراً من قبائل متفرقة لم تجمع بينهم رابطة ، إنما اتفقت فكرتهم في رفض عبادة الأصنام وفي الدعوة إلى الإصلاح (63).

ويرى البعض أن التيار الحنيفي كان يحمل مشروعاً دينياً سياسياً على مستوى الجزيرة العربية لكن الإسلام قام بالطموحين فانتفى الشرط التاريخي لظاهرة الحنفاء (64).

خلصنا مما سبق إلى أن ما يجمع الصابئة والأحناف هو الأصل التوحيدي ونبذ عبادة الأصنام واتباع إبراهيم ، واستمرار الحنفاء عبر الإسلام , وانفراد الصابئين ببقائهم على عاداتهم , وما كونوه من تيار دون الدخول في الإسلام ، وما يشير إليه ذلك التيار هو تطور الذهنية الدينية عند بعض العرب قبل الإسلام , وشعور شريحة منهم بضرورة البحث عن الدين الحق الذي يتلاءم مع العقل والفطرة ، ولم تفلح العقائد السائدة في إقناعهم فطوروا عقيدة خاصة بهم تنسجم مع فطرتهم ، هذا الطابع الذي كان سائداً يحمل الطابع الإبراهيمي , وهو لا يمت بصلة إلى التفكير اليهودي المسيحي الذي نشأ مع الحركة النبوية الإسرائيلية ، ومجرد انتشار الفكر الكتابي بين بعض العرب لا يدل على صبغة يهودية أو مسيحية للحنفاء وإلا لكانوا تهودوا أو تنصروا بل كانوا على مسافة من الكتابيين ومن الدين الجاهلي الذي كان سائداً قبل البعثة إلى أن جاء الإسلام منسجماً مع تطلعاتهم (65).

الدين الجاهلي :

من يتتبع ما ورد عن عقائد الجاهليين في القرآن يجد أنها من التنوع والكثرة والاختلاف ما لا يحيط به اسم دين أو عقيدة ، وهي عقائد متشابهة في بعض الأشياء والرموز , ومختلفة في البعض الآخر ، لكن القرآن يورد مسمى واحداً يتكرر مع ذكر مختلف هذه العقائد , هو مفردة الشرك ومشتقاتها ، بحيث يمكن اعتبار هذه التسمية تعبيراً عن العقيدة العامة التي كانت تسود في بيئة عصر البعثة ، وأنها لا تعني نوعاً محدداً من العقائد ، وأنها كانت عامة يمكن أن ينطوي فيها عقائد متنوعة ، وقد تكون أحياناً مختلطة ومتداخلاً بعضها مع بعض ، يجمع بينها ضابط عام هو إشراك ما دون الله مع الله أياً كان هذا الدون (66).

ولئن كان تعبير الشرك علَماً على الدين الجاهلي العام والمتنوع , فإن الطاغوت كما تشير السياقات هو علم على الآلهة المزيفة لعقيدة الشرك (67)، ونظراً لهذا التنوع في العقائد والعادات والشعائر والطقوس التي تندرج تحت وصف الشرك , والتي أشير إليها في القرآن سنتناولها ضمن تصنيف جملي نستكشف من خلاله التصورات والعقائد التي تشمل: الإله ، الغيب ، الطقوس والشعائر ، المحرمات .

- تصور الإله عند الجاهليين : يحفل القرآن بذكر عدد من أسماء الآلهة الجاهلية التي كانت منتشرة في مكة أو خارجها والتي كان يعبدها العرب ، كما ورد ذكر الأصنام والأوثان والأنصاب والأزلام وغيرها مما كان يعبده الجاهليون ، ولم يقتصر أمر الشرك على المصنوعات المادية فقد ذكر عبادتهم للملائكة والجن والشمس والكواكب والدهر وغير ذلك (68).

ولم تحدد جغرافية هذه الآلهة وأماكن انتشارها وتاريخها إلا أنها تدل فيما تدل عليه من ورودها مجملة على التنوع الذي كان سائداً ، وربما يكون مرده حصول تطور في الفكر الديني العربي أدى إلى الانتقال في تصور الإله من معبودات مادية إلى رؤية تجريدية ، وذلك بفضل الاحتكاك والتعرف على عقائد أهل الكتاب والبيئات المحيطة بهم .

إذ يلاحظ من خلال المصادر التاريخية أن العربي توهم الحياة في كل شيء فكان يرى في الجماد والحيوان شخصية خاصة بها ، ورغم قلة المعلومات فإن هناك إشارات عديدة تذكر عبادة عديد العرب للحيوانات وكذلك الجماد والأحجار والأشجار .. وتحت تأثيرات داخلية وخارجية اتخذ التصور الديني العربي صيغة أكثر تجريداً فبرزت عبادة الكواكب والأجرام السماوية (69), وفي خطوة متقدمة نجد عبادة الملائكة والجن كمخلوقات غيبية غير مدرَكة .

وأياً تكن صورة الشريك فإن الآيات القرآنية (70) تشير إلى قدم إيمان العرب بالله , وأنهم كانوا يعتقدون أنه خالق السماوات والأرض , ومدبر الكون , وأنه الملجأ , وأنه يكشف الضر , وأنه الذي يرسل الأنبياء , وينزل الملائكة , ويوحي بالكتب ، لكنهم رغم تطور هذا الفكر التجريدي لديهم عن الله لم يكونوا قد وصلوا إلى استساغة الاكتفاء بالإيمان بالله إيماناً غيبياً من غير رمز مادي ، لذلك كانوا يعتقدون أنه هو الذي أمرهم بعبادته , والتقرب إليه عن طريق الشركاء أو الشفعاء أو الأولياء أو الشهداء حسب طريقة تصورهم للشريك , ودوره في العلاقة مع الله , وهذه التنويعات في التسميات والأدوار تشير إلى اختلاف وتطور في درجات التفكير الديني بينهم (71)، هذا التنوع يقودنا إلى أرقى ما تطور إليه الفكر الديني العربي وهو الإيمان بالغيب .

- الغيب عند العرب :

كان للفكر الكتابي دور في إدخال أفكار عن عالم الغيب في بيئة كانت تعير المحسوسات أهمية في تفكيرها ، لكن التطور الذي وصل إليه أصحاب هذه البيئة لم يكن ليسمح بتبني تلك الأفكار كما هي , لا سيما ما يخص منها تصور الله ، ولعل المقارنة بين تصور النصارى لبنوة الإنسان لله وما تبناه المشركون العرب من فكرة البنوة لله يشير إلى التأثر من جهة والمحاكمة من جهة أخرى ، فإذ أدرك الجاهليون وجود كائنات غيبية كالجن والملائكة , وهي في تصورهم أقرب إلى الله من حيث طبيعة تصورها التجريدي ، وكان الأنسب في ذهنيتهم أن يكون اتخاذ الله للولد من الملائكة (72).

إذاً كان العرب يؤمنون بوجود الملائكة , ولهم تصور خاص عنهم وعن صلتهم بالله , وأن الله كان ينزلهم أو يرسلهم إلى من يشاء من عباده (73)، وكانوا يتصورونهم بنات , وأن الله اتخذ منهم ولداً - كما أشرنا - وقد عبد بعض العرب الملائكة , وقد ورثوا هذه العقيدة عن الآباء (74)، وربما تطورت لتصبح الملائكة مجرد شفعاء ، وباعتبار الملائكة غير ماديين , ربما اتخذوا من الأصنام رموزاً , وهياكل للملائكة الذين هم في السماء (75).

ولعل ما ورد في القرآن من أوصاف للملائكة وعلاقتهم بالبشر , وبصيغ تقريرية يدل على تبني العرب لهذه التصورات عنهم , فكان السياق القرآني تأكيداً لتصورهم سموَّ الملائكة وغيبية عالمها .

ولا يختلف الأمر كثيراً بشأن تصور العرب للجن إذ جعلوا بينهم وبين الله نسباً (76)، وجعلوا منهم شركاء لله (77)، وكانت عقيدتهم بالجن واسعة النطاق ، كما كانوا يؤمنون بصلات بينهم وبين الإنس ، وعبادتهم للجن كانت بدافع الخوف منهم , إذ يرون فيهم عناصر شر وفزع , بخلاف الملائكة الذين كانوا يرون فيهم عناصر خير وبر يستشفعون بهم (78).

وقد كان للجن في أذهان العرب حيز كبير من حيث قوتهم وقدرتهم على الخوارق , حتى ذكروا في معرض تحدي القرآن وتقرير عجز الإنس ولو استعانوا بالجن (79).

وليس هناك ما يشير إلى تصورهم لماهية الجن , لكن ما ورد في القرآن من وصف المشركين الرسول بأنه مجنون ربما يعني قصدهم كون ما يرد إليه إنما هو من الجن , إذ لا يمكن أن يكون منطقياً في تصورهم وصف الرسول بأنه مجنون بمعنى فقدان العقل , إذ عرف بينهم بالاتزان والحكمة ، فيكون قصدهم أن ما يدعيه من الوحي ليس من الملائكة الخيرين الذين طلبوا منه إثبات إنزالهم عليه ، وما يؤيد هذا المعنى للجنون إجابة القرآن على تهمة الرسول بالجنون بأن القرآن تنزيل من الله بواسطة الملك (80)، لا سيما وأن العرب كانوا يتصورون اتصال الجن مع الإنس , لا سيما الشعراء والكهان والسحرة (81)، هذا ومعظم ما ورد في القرآن عن الجن وإبليس والشيطان لا سيما ما ورد بأسلوب تقريري في سياق العبرة والعظة والتذكير يشير إلى كونه مما هو معلوم عند العرب (82).

هذا ولعالم الجن دور هام في حياة العرب إذ كانوا في تصورهم هم مصدر التنبؤ والكهانة والسحر والشعر ، ونظراً لما يحتله من يمارس هذه الأشياء من مكانة فقد كانت مصدر تنافس بين القبائل مما ساعد على انتشار هذه الظاهرة (83)، وهذا الجانب من الحياة العربية كان كأي جانب آخر عرضة للتطور والتغير ، وما كان عليه الحال قبل البعثة هو نتيجة لتطور مستمر دام آلاف السنين , قام به رجال من أهل الجاهلية , إما بشعور ذاتي أو بتأثر خارجي من خلال الاتصال متعدد الأشكال مع العالم الخارجي .

وهذه المقاربة العربية للغيب ومحاولات المتنبئين تذكرنا بتاريخ النبوة عند العرب وما ذكرهم به القرآن من نبوة هود وصالح باعتبارهم معروفين من قبلهم (84).

هذا وما يحمله العرب من تصور للنبوة والنبي , وما ينبغي أن يكون عليه من تأييد وقدرات خارقة كان مما دعاهم لرفض نبوة محمد التي لم تأت بالخوارق التي سمعوا عنها مما جاء به الأنبياء من قبل (85).

هذه التصورات للآلهة وللغيب على ما ينطوي عليه من تنوع أورثت عندهم تطلعاً لإرضائها والتقرب إليها خوفاً أو رغبة ، فكانت لديهم بعض الطقوس والعادات والمحرمات .

- الطقوس والمحرمات : كل عقيدة تفرض على معتنقيها طقوساً وتعاليم تميزها عن غيرها يفرضها مصدر الدين أو يتم تشكلها عبر الزمن , وقد تتأثر بالعقائد الأخرى أو الموروث الاجتماعي كما يمكن أن تتطور العادات والمواسم لتصبح طقساً دينياً .

تشير الآيات القرآنية (86) إلى وجود طقس الصلاة بين الجاهلين لكن ليس هناك ما يدل على طريقة هذه الصلاة (87)، وتشير أية فرض الصوم إلى قدم هذه الفريضة على من سبق من أهل الكتاب , ولا يستبعد بعض المؤرخين وجودها بين العرب أو كونها من بقايا شريعة إبراهيم (88)، وكذلك الاعتكاف كعبادة دينية ورياضة روحية كان ممارساً قبل البعثة وقد أشار القرآن إلى الاعتكاف في البيت الحرام (89).

واسم يوم الجمعة يدل على اجتماعهم فيه , وربما اعتباره مشتملاً على خصوصية دينية (90)، أما عبادة الحج فلا توجد أخبار مدونة عن مناسكه وشعائره عند الجاهلين (91) لكن الآيات القرآنية (92) صريحة في كونها من العبادات التي كانت سائدة قبل البعثة ومنذ عهد إبراهيم (93).

بل إن مكة ارتبطت بفريضة الحج التي أصبحت مقوماً من مقومات مكانة مكة ، أما عن كيفية الحج عندهم فقد أشارت الآيات إلى وجود أشهر خاصة بالحج , وكانوا يتلاعبون بها ، ولعل يوم الحج الأكبر الذي وردت فيه البراءة من المشركين هو يوم عرفة , إذ التسمية معروفة عندهم , وقد جاءت البراءة في نفس اليوم ، وكذلك شبه القرآن بعث الجاهلين بعد الموت بالتزامهم النصب مما يشير إلى كونهم يلتزمونها أثناء طوافهم (94).

كما أمروا بترك ما كان في الجاهلية والإفاضة من حيث أفاض الناس ، وكذلك السعي والهدي والقلائد وحرمة الصيد مما كان سائداً في مراسم الحج في الجاهلية ، وبهذه الصورة يكون الإسلام قد صحح الحج الذي كان وخلصه من شوائب الشرك والوثنية وما لا يتلاءم مع قيم الإسلام (95)، هذا ومن الشعائر التي كانت سائدة في الجاهلية كما هو الشأن في سائر الأديان تقليد القربان سواء ما كان متصلاً بهدي الحج أو مستقلاً عنه (96).

وقد وصل ببعضهم تقديم القربان البشري وهو أحد أسباب وأد البنات عندهم وتشير بعض الآيات إلى اقتران ذلك بالشرك (97)، وبذلك تكون هذه الشعيرة من بقايا الشعائر الدينية التي كانت سائدة في القديم (98).

هذا وبالإضافة للشعائر كانت لدى الجاهلين بعض المحرمات , منها ما هو مرتبط بالحج كما أشرنا فيما يخص الأشهر الحرم , ومنها ما هو مرتبط بالقربان أو أنواع الحيوان , وما يؤكل منها وما لا يؤكل , وقد أشار القرآن إلى ما ابتدعوه من هذه المحرمات (99) وما أطلقوه عليها من أسماء كالسائبة والحام والوصيلة والبحيرة (100).

وقد اختلف كثيراً في تفسير هذه الأسماء , ولا يمكن الجزم بمعناها لكن الأهم هو ما تشير إليه من أن الجاهليين كانوا يراعون هذه الأمور مراعاة شديدة , ولهم فيها قواعد وأحكام ترجع إلى تقاليد قديمة حافظوا عليها إلى أن منعها الإسلام (101).

إن ما أوردناه من كيفية إشارة القرآن لما كان سائداً من أفكار وعقائد وأعراف وعادات , وتصحيحه لها وإقرار ما كان صحيحاً منها ، بل واستعماله لمصطلحات كانت سائدة وتطويرها ، حتى إن أهم مصطلحات الدين الحلال والحرام كانت سائدة قبل الإسلام ، يدل على وجود فكر ديني وقانوني كان يحكم مسيرة العرب قبل الإسلام (102)، وعلى الصعيد الأخلاقي فقد كانت المروءة عند الجاهليين كالدين عند المسلمين فهي أقصى ما يكون من أخلاق في الرجل , فكان لها دور في تكريس الشجاعة والمساواة والأريحية والكرم وغيرها من القيم الأخلاقية التي أقرها الإسلام (103).

خاتمة :

هذه التفاصيل القرآنية التي أوردناها حول المجتمع العربي قبل الإسلام لاسيما فيما يخص الجانب الديني تدل على أن العرب لم يكونوا متفقين على عبادة موحدة , ولم يكونوا يعبدون إلهاً واحداً أو أصناماً معينة , كما لم يكونوا جميعاً على سوية واحدة في التفكير الديني ، فلم يكن الانحطاط الديني عاماً للجميع (104)، فقد كانت الجزيرة العربية تمثل اختزالاً لما كان يسود الكون من أفكار وأديان في العالم آنذاك , وذلك ما أهَّلها لتكون مهداً لرسالة عالمية تخاطب العالم , وتخرج من وسط تجمُّع له صلة بما يسود الفكر الديني في عصرها .

هذه المقاربة إن بدت موغلة في التاريخ فإن جوهرها وما طرحته من رؤية حول تلك الفترة له صلة بحاضر العالم اليوم، فلئن ساد في الفكر الإحيائي في القرن الماضي وصف العالم بالجاهلية ، وبدا ذلك متناقضاً من ناحيتين : المفارقة في المقارنة بين زمنين مختلفين ومفارقة مضمون المفهوم ، فإن ما تفيده مقاربتنا أن الإنسان أحوج ما يكون للدين عندما يكون متقدماً وعالماً ومتطوراً ، والأنبياء إنما كانوا يبعثون في بيئة حضرية متقدمة ، والقيم الأخلاقية يحتاجها الغني أكثر من الفقير , والقوي أكثر من الضعيف .

لذلك فإن عالم اليوم المتقدم والدول المتعملقة على أكتاف الضعفاء إنما تحتاج إلى بعث جديد يحيي فيها قيم الإنسانية التي جاء بها الأنبياء , ويفتح أفق الإنسان لتصحيح التاريخ وتوجيهه نحو التي هي أقوم , كما وجهته الرسالة الخاتمة عندما بعث محمد صلى الله عليه وسلم في أم القرى ، فتحول الكون إلى قرية اليوم يشبه أحوال مكة أم القرى عند البعثة , حيث امتزاج الأفكار والأديان والأعراق ومحوريتها بين القرى .

ويبقى التاريخ مصدراً حضارياً وملهماً أساسياً لمن يبتغي رؤية المستقبل رؤية بعيدة ، فحاضر اليوم " وَلَنْ تَجِد لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً " ليس إلا نتيجة ما فعل بالأمس , والغد ليس إلا نتيجة ما نفعله اليوم . منقول وأنتم سالمون وغانمون والسلام .


رد مع اقتباس
 
 
غير متصل
 رقم المشاركة : ( 7 )
جعد الوبر
وسام التميز
رقم العضوية : 15612
تاريخ التسجيل : 06 - 09 - 2007
الدولة : ذكر
العمر :
الجنس :
مكان الإقامة : المملكة العربية السعودية
عدد المشاركات : 3,068 [+]
آخر تواجد : [+]
عدد النقاط : 25
قوة الترشيح : جعد الوبر is on a distinguished road
الأوسمـة
بيانات الإتصال
آخر المواضيع

التوقيت
رد : النظام القبلي عند العرب في الجاهلية

كُتب : [ 14 - 09 - 2008 ]

جزاك الله خيرا

سبيع ضد (ن) للحريب المعادي = أهل الرماح المرهفات الحدادي
مروين حد مصقلات الهنادي = سقم الحريب وقربهم عز للجار
]مدلهة الغريب - موردة الشريب - مكرمة الضيوف - مروية السيوف
رد مع اقتباس
 
 
غير متصل
 رقم المشاركة : ( 8 )
خيَّال الغلباء
وسام التميز
رقم العضوية : 12388
تاريخ التسجيل : 01 - 03 - 2007
الدولة : ذكر
العمر :
الجنس :
مكان الإقامة : نجد العذية
عدد المشاركات : 20,738 [+]
آخر تواجد : [+]
عدد النقاط : 49
قوة الترشيح : خيَّال الغلباء is on a distinguished road
الأوسمـة
بيانات الإتصال
آخر المواضيع

التوقيت
رد : النظام القبلي عند العرب في الجاهلية

كُتب : [ 15 - 09 - 2008 ]

أخي الكريم / جعد الوبر السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد : شكرا جزيلا لك على مرورك الكريم بالنظام القبلي عند العرب في الجاهلية وجعل الله مرورك في ميزان حسناتك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ومبارك عليكم شهر رمضان الذي أنزل فيه القراّن شهر الخير والبركة والرحمة والعتق من النار الذي أظلنا وانتصف اللهم اجعلنا وإخواننا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من صوامه وقوامه وعتقائه من النار وكل عام وأنتم بخير وصحة وسلامة والله يعافيك ويبارك فيك ويجزاك خيرا ويبيض وجهك يوم تبيض وجوه وتسود وجوه هذا وتقبل فائق الشكر والإمتنان مقرونا بجزيل المحبة والاحترام مع خالص التحية وأطيب الأمنيات واسلم وسلم والسلام .



رد مع اقتباس
 
 
غير متصل
 رقم المشاركة : ( 9 )
ال دهيمان سبيع
عضو نشط
رقم العضوية : 31200
تاريخ التسجيل : 09 - 09 - 2008
الدولة : ذكر
العمر :
الجنس :
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 62 [+]
آخر تواجد : [+]
عدد النقاط : 10
قوة الترشيح : ال دهيمان سبيع is on a distinguished road
الأوسمـة
بيانات الإتصال
آخر المواضيع

التوقيت
رد : النظام القبلي عند العرب في الجاهلية

كُتب : [ 22 - 09 - 2008 ]

جـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــزاك الـــــــــــــــــــــــلـــــــــــــــــــه خــــــــــــــــيـــــــــــــر عــــــــلــــى الـــــــــمــــــعـــــلــــو مــــه

حناا سبيع اذا زعلناا سكرناا ماا نسكر خمر نسكر شجاعه
رد مع اقتباس
 
 
غير متصل
 رقم المشاركة : ( 10 )
خيَّال الغلباء
وسام التميز
رقم العضوية : 12388
تاريخ التسجيل : 01 - 03 - 2007
الدولة : ذكر
العمر :
الجنس :
مكان الإقامة : نجد العذية
عدد المشاركات : 20,738 [+]
آخر تواجد : [+]
عدد النقاط : 49
قوة الترشيح : خيَّال الغلباء is on a distinguished road
الأوسمـة
بيانات الإتصال
آخر المواضيع

التوقيت
رد : النظام القبلي عند العرب في الجاهلية

كُتب : [ 22 - 09 - 2008 ]

أخي الكريم / ابن دهيمان السبيعي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد : شكرا جزيلا لك على مرورك الكريم بالنظام القبلي عند العرب في الجاهلية وجعل الله مرورك في ميزان حسناتك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ومبارك عليكم شهر رمضان الذي أنزل فيه القراّن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان شهر الخير والبركة والرحمة والعتق من النار الذي أظلنا وذهب أكثر من ثلثيه اللهم اجعلنا وإخواننا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من صوامه وقوامه وعتقائه من النار وكل عام وأنتم بخير وصحة وسلامة والله يعافيك ويبارك فيك ويجزاك خيرا ويبيض وجهك يوم تبيض وجوه وتسود وجوه هذا وتقبل فائق الشكر والإمتنان مقرونا بجزيل المحبة والاحترام مع خالص التحية وأطيب الأمنيات واسلم وسلم والسلام .



رد مع اقتباس
 
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
من أيام هوازن وسليم وبني عامر في الجاهلية والإسلام خيَّال الغلباء تاريخ القبائل العربية 49 09 - 11 - 2009 23:54
من أيام العرب ونيرانهم وأسواقهم في الجاهلية خيَّال الغلباء تاريخ القبائل العربية 44 05 - 10 - 2009 12:50
من حكماء قبيلة بني عامر بن صعصعة في الجاهلية والإسلام أبوهمام الأثبجي منتديات الـمـشـاهـيـر والقصص البطولية 32 25 - 07 - 2009 23:50
من قبائل العرب في الجاهلية وبقاياها في الجزيرة العربية فتى الغلباء تاريخ القبائل العربية 19 01 - 04 - 2009 02:25
التعصب القبلي أبو حمود المنبر الحر 17 26 - 01 - 2009 01:43


الساعة الآن 18:25.


Powered by vBulletin® Version 3.8.11, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. www.sobe3.com
جميع المشاركات تعبر عن وجهة كاتبها ،، ولا تتحمل ادارة شبكة سبيع الغلباء أدنى مسئولية تجاهها