الحمدلله رب العالمين .. والعاقبة للمتقين .. والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته الى يوم الدين .. اما بعد ..
فان نعم الله جل وعلا على عباده كثيرة لا تحصى .. واعظم نعمه أنعم الله بها على الثقلين الجن والأنس .. أن بعث فيهم عبده ورسوله وخليله وحبيبه وخيرته من خلقه محمدا" صلى الله عليه عليه وسلم .. ليخرجهم من الظلمات الى النور .. ويرشدهم الى سبيل النجاة والسعادة .. ويحذرهم من سبل الهلاك والشقاوة .. وقد نوه الله بهذه النعمة العظيمة والمنة الجسيمة في كتابه العزيز فقال :{لقد من الله على المؤمنين اذ بعث فيهم رسولا" من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين}
ولقد قام عليه افضل الصلاة والسلام بابلاغ الرسالة وأداء الأمانة .. والنصح للأمة على التمام والكمال .. فبشر وأنذر .. ودل على كل خير وأنذر من كل شر .. ولقد كان صلى الله عليه وسلم حريصا" على سعادة الأمة غاية الحرص .. يقول الله عز وجل : {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ماعنتم حريص بالمؤمنين رؤوف رحيم} وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (انما أنا رحمة مهداة) <رواه الحاكم وصححه العلامة الألباني> .
ولقد بين الله جل وعلا أن السعادة والفلاح والهداية والصلاح .. في طاعته صلى الله عليه وسلم فقال : {وأن تطيعوه تهتدوا} وقال سبحانه : {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} ولقد كان صلوات ربي وسلامه عليه يقول لأصحابه : (انما أنا لكم بمنزلة الوالد)<رواه أبوداوود وهو في صحيح الجامع> .. فياعليه الصلاة والسلام .. ماترك خيرا" الا ودل أمته عليه .. وماترك شرا" الا وحذرها منه .. قال تعالى : {وما أرسلناك الا رحمة للعالمين} .
أيها الأحبة .. هذه وقفة مع قول من أقوال الرسول المصطفى والنبي المجتبى محمد صلى الله عليه وسلم .. نبي الرحمة والهدى .. الذي لا ينطق عن الهوى .. ان هو الا وحي يوحى .. في نصيحة نبوية .. وتذكرة ربانية .. لعل الله ان يحي بها القلوب .. ففي الحديث الذي رواه الحاكم وصححه العلامة الألباني .. عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال :
(اغتنم خمسا" قبل خمس .. شبابك قبل هرمك .. وصحتك قبل سقمك .. وغناك قبل فقرك .. وفراغك قبل شغلك .. وحياتك قبل موتك) الله أكبر .. انظروا كيف سماها النبي صلى الله عليه وسلم غنائم !! وكأن العبد في حرب مع الزمن ..لأن العلاقة بين هذه الأمور المذكورة في الحديث هي عامل الزمن .. فما بين الشباب الى الهرم زمن .. وما بين الصحة الى السقم زمن .. وما بين الغنى الى الفقر زمن .. وما بين الفراغ الى الشغل زمن .. وما بين الحياة الى الموت زمن .. ومجموع ذلك كله هو العمر .. فاما أن يغنمه العبد واما أن يحرمه .. فالشباب غنيمة ويفسده الهرم .. والصحة غنيمة ويفسدها السقم .. والغنى غنيمة ويفسده الفقر .. والفراغ غنيمة ويفسده الشغل بما لا ينفع .. والحياة غنيمة ويفسدها الموت ..فما أكثر الغنائم .. ولكن !! أين المغتنمون ؟!
فقوله صلى الله عليه وسلم :
(شبابك قبل هرمك) فكم من شاب انفتل في ريعان شبابه .. وأصابته مقاتل اعجابه .. يرى الأيام تمضي .. والعمر ينقضي .. ومع ذلك فهو في اللهو واللعب .. ممتطيا" كل ذلولا" وصعب .. يمني نفسه بالتوبة والانابة من قابل .. والعمر مضا وهو لا يزال غافل .. فتنصرم الأعوام .. وتندرس الأيام .. فما يدرك نفسه الا وهو في غياهب الكهولة .. تهب عليه عواصف الهرم .. فحينئذ لا ينفع الندم .. فيا أيها الشاب الموفق .. عليك بهذه الوصية النبوية .. واغتنم شبابك وثمرة عمرك .. قبل أن تنحدر بك السنون الى أرذل العمر .. فيرق عظمك .. ويبح صوتك .. وينحني ظهرك .. ويتغير لونك .. فتثقل عليك الطاعات .. وتتوالى عليك الحسرات .. وتبكي على ما قد مضا وفات .. فلا تستطيع ما كنت تستطيعه ايام شبابك .. الذي أذهبت قوته في غير مرضات ربك .. فالبدار البدار قبل مضي الأعمار .. وانظر الى من حولك من كبار السن واسألهم كيف مرت عليهم أعمارهم ؟؟ فوالله لكأني بهم يقولون لك : كحلم ليل قصير نذكر بعضه ولا نذكر بعضه !! الله أكبر .. أليس لك فيهم عظة" ومعتبر ؟؟ وآية" ومزدجر ؟؟ يقول أحدهم متحسرا" على شبابه :
بكيت على الشباب بدمع عيني=فلم يغني البكاء ولا النحيب
ألا ليت الشباب يعود يوما"=فأخبره بما فعل المشيب
واحتضر احدهم وكان معرضا" عن طاعة الله مقبلا" على الدنيا وعلى المعاصي .. فقال له ابنه الشاب : ياأبتاه أمن شيء توصيني به ؟. فقال له : نعم يابني .. أحذر ان تضحك بك الدنيا كما ضحكت بأبيك .. شبابك شبابك !! ثم مات .. يقول الامام أحمد رحمه الله : مامثلت الشباب الا بشيء كان في يدي .. ثم سقط منها !! يعني من سرعة مروره وفواته .. الله أكبر .. ما أسرع فوات العمر وما أكبر الحسرة على فواته .. قدم على معاوية رضي الله عنه رجل من نجران .. قد بلغ من العمر عتيا" .. فسأله معاوية عن الدنيا .. فقال : يا أمير المؤمنين .. سنوات بلاء وسنوات رخاء .. يوم فيوم .. وليلة فليلة .. يولد ولد .. ويهلك هالك .. فلولا المولود لباد الخلق .. ولولا الهالك لضاقت الدنيا بمن فيها .. فقال معاوية : سل ما شئت ؟ قال الرجل : عمر مضا فترده يا أمير المؤمنين .. أو أجل حضر فتدفعه !! قال معاوية : ليس ذلك الي ! فقال الرجل : لا حاجة لي بك اذا" .. ثم أنصرف .. يقول الله جل وعلا : {هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا" ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا" ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا" مسمى" ولعلكم تعقلون} .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم :
(وصحتك قبل سقمك) فكم من صحيح معافى .. داهمه السقم قبل أن يتحصن منه .. فهو اما أن يكون ممن أصابته أمراض البدن .. فلم يعد قادرا" على أداء المأمور به من العبادت .. وقد كان معافى" فلم يبادر اليها .. فتمنى ألا يكون قد فرط أيام عافيته .. فيبقى أسيرا" بين المرض والحسرة ..واما أن يكون ممن أصابه داء الغفلة فمرض قلبه حتى تراكمت عليه الذنوب فصارت رانا" لا يمكنه التخلص منه {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} فأنى لمثل هذا أن يتدارك نفسه (الا أن يشاء الله) وقد أضاع عمره بين سيئات الأماني .. ورديء المعاني .. فما أدرك نفسه الا وهو صريع الفراش .. قد باع نفسه من الشيطان ببلاش .. قال الله جل وعلا : {أن تقول نفس ياحسرتى على ما فرطت في جنب الله وان كنت لمن الساخرين * أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين * أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة" فأكون من المحسنين} .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم :
(وغناك قبل فقرك) فكم من موسر غزته جيوش الفقر والفاقة قبل أن يملأ خزائن آخرته .. لم يبال من أي مصدر جمع أمواله .. وما ترك مصرفا" من مصارف لذائذه وشهواته الا وأنفق فيه .. الا مصارف البر والاحسان لم يكن لها نصيب من نفقاته .. وقد قال المعصوم صلوات ربي وسلامه عليه : (لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع) وذكرها ومنها : (وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه)<رواه الترمذي وصححه العلامة الألباني> فلم يشعر ذلك الغني الا وهو بين براثن الفقر .. يقلب كفيه وهي خاوية .. وحاله كحال أصحاب الجنة {انا بلوناهم كما بلونآ أصحاب الجنة اذ أقسموا ليصرمنها مصبحين} الى أن قال سبحانه وتعالى : {كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم :
(وفراغك قبل شغلك) فكم من متفرغ من الأعباء والمسؤليات .. أوقاته واسعة .. والنعم بين يديه راتعة .. فلم يقدر لذلك قدرا" .. ولم يعرف للنعمة عليه حقا" .. بل أضاع أوقاته ما بين اللعب والطرب والسهر .. والسفر على مصالح الدنيا دون الآخرة .. فنشغل بما لا يصلح شغلا" في الحقيقة .. قتلته سهام الأماني ورماح التسويف .. وليت هذا وأمثاله يستشعر قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس .. الصحة والفراغ)<رواه البخاري> .. مر أحد السلف على قوم يتسامرون في مجلس قد علا ضحكهم وكثر لغطهم .. فتأوه وقال : ليت أن الأوقات تباع وتشترى .. لا شتريت من هؤلاء أوقاتهم !! فمن حاله كذلك ولم يبادر الى التوبة النصوح .. لن يستفيق الا حين ينادى عليه : {كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما" أو بعض يوم فسئل العادين * قال ان لبثتم الا قليلا" لو أنكم كنتم تعلمون * أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا" وأنكم الينا لا ترجعون} .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم :
(وحياتك قبل موتك) فكم من حي غزاه الموت قبل أن يغزو اليه .. أشتغل بدنياه وغرته الأماني .. فلم يفق الا وهو في عسكر الموتى .. مرهون بعمله .. ولسان حاله يقول : {رب أرجعون * لعلي أعمل صالحا" فيما تركت} وما أكثر هؤلاء في هذا الزمان .. أقوام هم في عداد الأحياء .. وهم في الحقيقة أموات .. يرى أحدهم في غفلته منكبا" على الدنيا .. ناسيا" أو متناسيا" أن الموت يقطع كل لذة ويفسد كل متعة .. وأن المنايا تخبط في الناس خبط عشواء .. فلا يشعر بنفسه الا والروح في الحلقوم تغرغر .. والى من حوله ينظر .. هل من راق يرقيه .. أو شاف فيشفيه ؟.. يقول الحسن البصري رحمه الله : فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لب فرحا" .. فيا أيها العبد المسكين .. عجبا" لك !! تعرف أن الموت حق وتفرح ؟! وتعلم أن النار حق وتضحك ؟! ترى تقلب الدنيا بأهلها وتطمئن اليها ؟! فأنتبه .. قبل أن يقال : فلان عليل .. فهل الى الدواء من دليل ؟؟ أو هل الى الطبيب من سبيل ؟؟ فتدعى لك الأطباء .. ولا يرجى لك الشفاء .. ثم يقال : فلان أوصى .. ولماله أحصى .. وقد ثقل لسانه .. فلا يكلم اخوانه .. ولا يعرف جيرانه .. وعرق عند ذلك جبينك .. وتتابع أنينك .. وثبت يقينك .. وطفحت جفونك .. وصدقت ظنونك .. وتلجلج لسانك .. وبكا اخوانك .. وقيل : هذا ابنك فلان .. وهذا أخوك فلان .. ومنعت من الكلام فلا تنطق .. وختم على لسانك فلا ينطلق .. ثم حل بك القضاء .. ونتزعت نفسك من الأعضاء .. ثم عرج بك الى السماء .. فجتمع عند ذلك اخوانك .. وأحضرت أكفانك .. فغسلوك وكفنوك ودفنوك ..فنقطع عوادك .. واستراح حسادك .. وانصرف أهلك الى مالك .. وبقيت مرتهنا" بأعمالك .. فمن لك حينها ؟! {من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا} .. يقول يونس بن عبيد رحمه الله : ماشبهت نفسي في الدنيا الا كرجل نام .. فرأى في منامه مما يحب ومما يكره .. اذ انتبه !! فكذلك الناس نيام .. فاذا ماتوا أنتبهوا .. فاذا ليس في أيديهم شيء مما ركنوا اليه وفرحوا به !.
فيا شابا" غره شبابه وأهلكه اعجابه .. اعلم أن الشباب عاقبته هرم .. والمنايا تتخطف الأصاغر والأكابر .. والأباعد والأقارب .. فما يدريك لعل الساعة الآتية ساعتك .. والمنية منيتك .. فيا ليت شعري ما الذي تتمناه حينها ؟! وأنت في السكرات .. قد غشيتك العبرات .. أأغنية تريد سماعها ؟! أم خمرة تدير كأسها ؟! أم بغية تريد أن تفجر بها ؟! أم قناة ماجنة تشاهدها ؟! أم نظرة محرمة تسترقها ؟! أم أنك تريد ما قال ربك على لسان أؤلئك : {رب أرجعون * لعلي أعمل صالحا" فيما تركت} .. وهيهات ان يستجاب لك .
فيامن تعلق قلبه بالمعاصي .. يا من صرف عن طاعة الله بما عنده من أغاني ومزامير .. ومجلات وقنوات .. يا من تهاون في عماد الدين (الصلاة) يا من يؤذي اخوانه المسلمين بالغيبة والبهتان .. يا من اصبح مفتاح شر مغلاق خير .. يامن تبرجت ولم تصن حجابها ولباسها الشرعي .. يا من اعتاد الكذب والقول الفاحش .. أما تخشون جميعكم ؟؟ أما تخشون الله حين يراكم .. أما تخافون أن تقبض أرواحكم وأنتم على تلكم المعاصي ؟؟ مصرين عليها ؟؟ فيختم لكم بسوء .. فاياكم أياكم .. ان تفوت عليكم تلك الغنائم التي ترفلون فيها الآن .. والتي قد حرم منها كثير من الناس .. فاغتنموها قبل ان تسلب منكم .. وتذكروا الموت وسكرته .. والوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى .. يقول احد السلف : أعمال البر يستطيعها البار والفاجر .. وأما المعاصي فلا يتركها الا صديق !! قال الله عز وجل : {ومن يعمل مثقال ذرة خيرا" يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا" يره} .
يا راقد الليل مسرورا" بأوله=ان الحوادث يطرقن أسحارا
يامن يعانق دنيا لا بقاء لها=يمسي ويصبح في دنياه سفارا
هل تركت من الدنيا معانقة=حتى تعانق في الفردوس أبكارا
ان كنت تبغي جنان الخلد تسكنها=فينبغي أن لا تأمن النارا
أسأل الله ان يهدي الجميع لما يحبه ويرضاه .. وان ينفع بما قدمناه وقلناه .. انه سميع مجيب .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
والسلام .
غير متصل
