(مرض التعصب مابين الشعوب والقبائل،وفقهاء المذاهب،والفرق،والتيارات المعاصرة)
إعداد وتنظيم
أبوهمام عبدالهادي بن أحمد بن عبدالهادي الدريدي الأثبجي الهلالي
بسم لله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بقلمه خلق وقدر،وأنزل قضاءه على عباده ليعلموا أي النجدين أهدى وأجدر،والصلاة والسلام على خاتم المرسلين المنذر،وعلى آله وصحبه والتابعين لسنته على يوم الجمع الأكبر.
أما بعد: فهذا بحث يشمل مجموعة مقالات علمية شرعية تربوية ذات منهج واضح،وهي تبين وتشخص مرض الأمة المحمدية ألا وهو مرض التعصب العضال بمختلف جوانب حياتها،وتحيل الأمة إلى العلاج الناجع،والرؤيا لقضاياها الكبرى على ضوء الكتاب والسنة،والسلف الصالح،وشهادة التاريخ،وعلى أرض فقه الواقع.
وقد قسمته على فصول،وكل فصل له علاقة بسابقه ولاحقه،وإليكم عرض المادة:
وآفة العقل الهوى فمن علا**على هواه عقله فقد نجا
الفصل الأول: منهج أهل السنة والجماعة التسليم لله-عزوجل- ولرسوله-صلى الله عليه وسلم-،وأنهم على رابطة الإسلام والسنة.
من قواعد وأصول الفرقة المنصورة أهل السنة والجماعة في منهج التلقي والإستدلال قال فضيلة الشيخ ناصر بن عبدالكريم العقل-حفظه الله تعالى- : (( التسليم لله،ولرسوله-صلى الله عليه وسلم-ظاهراً،وباطناً،فلا يُعارض شيئ من الكتاب،أو السنة الصحيحة بقياس،ولا ذوق،ولا كشف ولا قول شيخ،ولا إمام،ونحو ذلك )).
ونحو ذلك-يقصد مثلاً تقديم العادات،والأخلاق الجاهلية التي يتعصب لها أبناء الشعوب والقبائل المسلمة اليوم على حساب شرع الكتاب العزيز والسنة النبوية الشريفة.
((الرابطة الحقيقية))
قال العلامة الإمام الكبير المفسر المحدث الفقيه الأصولي اللغوي النحوي محمد الأمين الجكني الشنقيطي-رضي الله عنه وأرضاه-في [أضواء البيان-(3/ صـ441-445].
((ومن الآيات الدالة على أن الرابطة الحقيقية هي الدين،وأن تلك الرابطة تتلاشى معها جميع الروابط النسبية والعصبية : قوله تعالى: ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) [المجادلة:22]. إذ لا رابطة نسبية أقرب من رابطة الآباء والأبناء والإخوان والعشائر.وقوله: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) [التوبة:71] الآية،وقوله: ( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ) [الحجرات:10]. وقوله: (فأصبحتم بنعمته إخواناً ) [آل عمران:103]. الآية،إلى غير ذلك من الآيات فهذه الآيات وأمثالها تدل على أن النداء برابطة أخرى غير الإسلام كالعصبية المعروفة بالقومية-لايجوز،ولا شك أنه ممنوع بإجماع المسلمين.ومن أصرح الأدلة في ذلك مارواه البخاري في صحيحه قال : باب قوله تعالى : (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ) [المنافقون:8]. حدثنا الحميدي،حدثنا سفيان قال : حفظناه من عمرو بن دينار،قال: سمعت جابر بن عبدالله-رضي الله عنهما- يقول كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار؛فقال الأنصاري: ياللأنصار!! وقال المهاجري: ياللمهاجرين!!،فقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: ((دعوها فإنها منتنة…)) الحديث.
فقول هذا الأنصاري: ياللأنصار،وهذا المهاجري: ياللمهاجرين-هو النداء بالقومية العصبية بعينه،وقول النبي-صلى الله عليه وسلم-(( دعوها فإنها منتنة)) يقتضي وجوب ترك النداء بها؛لأن قوله: (( دعوها)) أمر صريح بتركها،والأمر المطلق يقتضي الوجوب على التحقيق كما تقر في الأصول.
قال: فدل هذا الحديث الصحيح على أن النداء برابطة القومية مخالف لما أمر به النبي-صلى الله عليه وسلم-،وأن فاعله يتعاطى المنت،ولا شك أن المنتن خبيث،والله تعالى يقول: (الخبيثات للخبيثين) [النور:26] الآية،ويقول: ( ويحرم عليهم الخبائث ) [الأعراف:157].
وقال: واعلم أن رؤساء الدعاة إلى نحو هذه القومية العربية: أبوجهل،وأبولهب،والوليد بن المغيرة،ونظراؤهم من رؤساء الكفرة.وقد بين تعالى تعصبهم لقوميتهم في آيات كثيرة؛كقوله: (قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا)[المائدة:170] الآية،وأمثال ذلك من الآيات.
واعلم أنه لا خلاف بين بين العلماء-كما ذكرنا آنفاً-في منع النداء برابطة غير الإسلام؛كالقوميات والعصبيات النسبية،ولا سيما إذا كان النداء بالقومية يقصد من ورائه القضاء على رابطة الإسلام وإزالتها بالكلية؛فإن النداء بها حينئذ معناه الحقيقي: أنه نداء إلى التخلي عن دين الإسلام،ورفض الرابطة السماوية رفضاص باتاً،على الله يعتاض من ذلك روابط عصبية قومية،مدارها على أن هذا من العرب،وهذا منهم أيضاً مثلاً؛فالعروبة لا يمكن أن تكون خلفاً من الإسلام،واستبدالها به صفقة خاسرة)).
انتهى.
الفصل الثاني: المسلمون مابين مرض التعصب،ووحدة توحيد القلوب،والحدود،وأعمالها الإسلامية.
التعصّب (1)
قال فضيلة الداعية الموجه.أ د.عبد الكريم بكار 5/5/1427
01/06/2006
في الساحة الإسلامية العامة دعوة عريضة لتوحيد الأمة في كيان سياسي واحد، وفي ساحة الصحوة والدعوة هناك دعوة مماثلة لتوحيد العمل الإسلامي، أو على الأقل العمل على تقريب توجهاته ومناهجه، ولكن الواقع يشهد أن الاستجابة لكلتا الدعوتين تقترب من العدم، مع أن ولاء المسلمين قاطبة كان على مدار التاريخ للأمة، وليس للدولة القطرية، ومع أن لدى الإسلاميين الكثير من النصوص والمقولات التي تؤكد على وحدة الكلمة ونبذ الخلاف والفرقة، فلماذا لم تتحقق هذه التطلّعات؟
في البداية لا بد من القول: إنني لا أحكم هنا على مدى واقعية الدعوة إلى توحيد الأمة تحت لواء سياسي واحد، ولا توحيد الجماعات الإسلامية في أي بلد من البلدان الإسلامية تحت إمرة قيادة واحدة، فهذه مسألة تحتاج إلى نقاش معمَّق، لكن أود هنا أن أشير إلى مرض اجتماعي واسع الانتشار على صعيد الأمة بشكل عام، وعلى صعيد الجماعات الإسلامية على نحو خاص.
وهذا المرض والذي هو (التعصب) يشكّل عائقاً أساسياً أمام كل أشكال التقارب بين الأفراد والجماعات والشعوب والمؤسسات.. وذلك لأنه يكرِّس أسباب الفرقة، ويهدم ما هو موجود من أركان اللقاء والوحدة والتعاون. وهذه بعض الملاحظات الجوهرية في هذا الشأن:
للتعصّب علاقة لغوية بـ (العصبيّة)، ومعناها أن يدعو الرجل إلى نصرة (عُصبته) –أي قرابته من جهة أبيه الذين يتعصّبون له وينصرونه- والتألّب معهم على من يناوئهم ظالمين كانوا أو مظلومين.
إن المتعصّب لشيء أو ضده يتسم بالعاطفة الشديدة والميل القوي، فهو في حالة التعصب لقومه أو جماعته أو وطنه أو أفكاره.. لا يرى فيما يتعصّب له إلا الإيجابيات والمحاسن، وفي حالة التعصّب ضد شيء مما ذكرناه، فإنه لا يرى المعايب والسلبيات، وهذا يعني أن المتعصّب مصاب بـ (عمى الألوان). والمتعصّب إنسان غارق في أهوائه وعواطفه، على مقدار ضعفه في استخدام عقله، ولا يعني ذلك أنه لا يفكر، إنه يفكر، ولكن الأفكار التي تتمحض تتمخض عن تشغيل عقله، يتم إنتاجها في إطار العواطف الجامحة التي لديه، وتكون مهمتها الأساسية ليس ترسيخ الاعتدال والإنصاف، وإنما التسويغ للميول والعواطف العمياء التي تغلي في صدر الإنسان المتعصّب!
لا يحبّ المتعصّب المناظرة؛ لأن التعصّب الذي لديه يوحي إليه بأنه على الحق الواضح الذي لا يقبل النقاش، لكن المتعصّب يحب الجدال بالباطل الذي يقوم على أسس غير موضوعية وغير عقلانية. والإنسان المتعصّب بعد هذا وذاك إنسان عجول، يُصدر الأحكام على الناس من غير فحص للأدلة والبراهين والأسس التي تقوم عليها تلك الأحكام، إنه مع قومه فيما يحبون ويكرهون، ومع جماعته فيما تقدم عليه، وفيما تحجم عنه، وهم في كل ذلك على صواب، ولا يحتاج ذلك إلى أدلة، على حد قول الشاعر:
لا يسألون أخاهم حين يندبُهم
في النائبات على ما قال برهانا
ومن لوازم التعصّب ومكوناته –بالإضافة إلى ما أشرنا إليه- الآتي:
الجمود؛ إذ إن المتعصّب يلازم الأفكار الموروثة حول ما يتعصّب له، فإذا كان يتعصّب لبلده، فإنه يحفظ كل ما قيل في فضائله بقطع النظر عن صحته، ولا يفتح عقله للتعامل مع المقولات الجديدة حول ذلك البلد؛ فهو بلد الصدق والأمانة والشهامة والكرم.. وإن كان الناس من حوله يلاحظون أن وجود هذه الفضائل نسبي، وأن بين أبناء بلده من ليس صادقاً ولا أميناً ولا كريماً...
من مكونات التعصّب ولوازمه التفكير غير المنطقي؛ إذ تنطمس الأسباب عند الحديث عن المشكلات، ويختل الربط بين المقدمات والنتائج، فإذا حدثت محنة عظيمة لجماعة المتعصّب فإن تلك المحنة ليست بسبب سوء تقديرها للأمور، أو بسبب أخطاء تربوية أو تنظيمية أو بسبب أخطاء إستراتيجية.
إن كل هذه الأخطاء لا يستطيع المتعصّب رؤيتها، ولهذا فالمحنة التي وقعت هي بسبب مؤامرة كبرى تعرّضت لها الجماعة أو بسبب وشاية من جماعة منافسة، أو بسبب عدم التزام بعض أبنائها بالتعليمات.. وحين يُنبَّه المتعصّب إلى أن السلوك الفلاني سيؤدي إلى كذا وكذا، فإن المتعصّب يفسر ذلك بالحسد والحقد والجهل؛ وذلك لأن في سلسلة المعقولات لديه حلقات مفقودة، لهذا فإنه لا يستطيع رؤية التداعيات المنطقية بين الأشياء.
التعميم المفرط داء وبيل يُبتلى به المتعصبون عادة، ونحن نقول دائماً: إن التعميم المفرط من أكثر أخطاء التفكير شيوعاً، وذلك بسبب عجز معظم الناس عن إصدار أحكام مبنية على رؤية تفصيلية منصفة، إن أي فضيلة تثبت لواحد من أفراد قبيلة المتعصّب، يعمّمها على باقي أبناء القبيلة، وإن أي رذيلة تثبت عن قبيلة منافسة يقوم بتعميمها على جميع أبناء كل تلك القبيلة، وفي هذا من الظلم ما لا يخفى. وهكذا فالمحاباة والتحامل صفتان أساسيتان لدى الإنسان المتعصّب، وهاتان الصفتان توجدان خللاً كبيراً في الشخصية، ولهذا فإن المتعصّب يكون في الغالب محروماً من التوازن العقلي والانفعالي الذي يتمتع به الأسوياء.
للحديث صلة.
التعصّب (2)
د.عبد الكريم بكار 19/5/1427
15/06/2006
نتابع في هذا المقال الحديث عن التعصّب الذي بدأناه في المقال السابق.
2- التعصّب حين يطول أمده، فإنه يؤثر في الشخصية تأثيرًا بالغًا، إنه يصبح عبارة عن مصنع للنظارات التي يرى المتعصّب الأشياء من خلالها، فهو في كل موقف يتعلق بمن يوجه التعصّب ضدهم، يفكر، ويفهم، ويدرك، ويعي، ويشعر، ويسلك ويتصرف ويحكم وفقًا للصورة الذهنية التي شكّلها عنهم؛ وعلى سبيل المثال فإن المتعصّب حين يعتقد أن القبيلة الفلانية قبيلة منحطّة في نسبها أو سجلها التاريخي أو مكانتها الاجتماعية الحاضرة، فإن نظرته إلى تصرفات أفرادها وأحكامه عليهم ومشاعره نحوهم، تتجسد في الآتي:
o إذا رأى واحدًا من أفراد القبيلة، فإنه ينظر إليه نظرة دونية، فهو غير جدير بالتفوق الظاهر، وإذا احتل منصبًا كبيرًا نظر إليه على أنه أصغر من أن يحتل ذلك المنصب، وإذا طالب بحق ثابت له، رأى أنه يبالغ في طلب ذلك الحق.
o إذا حدثت سرقة أو جناية، أو وقعت فعلة شنيعة، ولم يُعرف مرتكبها فإن المتعصّب يتهم واحدًا من أبناء تلك القبيلة -لا على التعيين- بفعل ذلك، ويبعد التهمة عن أبناء القبائل الشريفة والرفيعة.
o حين يقع ظلم على رجل ينتمي إلى قبيلة وضيعة فإن المتعصّب لا يجد في نفسه الحماسة للدفاع عنه ومناصرته، ربما لأنه يعتقد أنه لا يُعقل أن يكون مظلومًا، أو يعتقد أن من المؤكد أنه هو الذي تسبّب في إيقاع الظلم على نفسه.
o يحاول المتعصّب الابتعاد في معاملاته وعلاقاته الاجتماعية عن أفراد القبيلة المنحطة وذلك خوفًا من العار أو الأذى أو الخيانة.
o ينظر إلى ابن القبيلة المنحطة على أنه غير موثوق في كلامه، ويفسر الغامض منه تفسيرًا سيئًا.
إن كل ما ذكرناه يتم من خلال الرؤية الاجمالية، ومن غير أدلة وبراهين يمكن الاعتماد عليها. وأنت ترى أنما أشرنا إليه يشكل في الحقيقة نوعًا من التمييز الشبيه بالتمييز العنصري الذي مارسه البيض في جنوب إفريقية، ويمارسه اليهود اليوم في فلسطين السليبة. إن التعصّب والذي يعزز التمييز بالصورة التي رأيناها يقسِّم أبناء الملة الواحدة إلى طبقتين متمايزتين: طبقة القبائل النبيلة ذات الحسب والنسب والتفوق والشرف وطبقة القبائل الدنيئة الوضيعة التي لا تمت إلى المكرمات بأي صلة!
وفي هذا من الحيف والظلم والنجس الذي تمقته الشريعة الغرّاء، حيث يقول الله -تعالى-: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) [الأعراف: 85]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن أعظم الناس جرمًا إنسان يهجو القبيلة من أسرها، ورجل تنفَّى من أبيه" (رواه ابن ماجة). وقال: "لا يُؤخذ الرجل بجريرة أبيه، ولا بجريرة أخيه" (رواه النسائي).
3 – من الواضح من خلال ما ذكرناه عن التعصّب ضد (القبيلة المنحطة) أن المتعصّب يقوم بعملية (تنميط) لجميع أفراد القبيلة؛ فهم جميعًا لديه يتخلقون بأخلاق واحدة، ويفكرون بطريقة واحدة، ولهم تطلعات واحدة... وهذه العملية (التنميط) هي النتيجة الحتمية لعجزنا عن العيش في عالم واسع الأرجاء كثير التعقيدات، فنحن غير مهيئين للتعامل مع كل الأحداث الموجودة بشكل مباشر، ولهذا فإننا نعيد بناءها في نماذج بسيطة كي تصبح سهلة الإدراك. ومن المشاهَد أن (التنميط) يقوم على الاختصار والتعميم، فالجماعات الإسلامية –مثلاً- حين تحاول ملامح بعضها بعضًا، تعمد إلى (الاختصار): هذه الجماعة تشتغل بالدعوة، واهتمامها بالعلم الشرعي محدود، المثقفون فيها قليلون، وهي لا تشتغل بالسياسة، ولا تهتم بالجهاد (قتال الأعداء) ولديها بدع كثيرة. هذه السمات هي ما توصف به إحدى الجماعات الإسلامية العاملة على الساحة والمنتشرة في شبه القارة الهندية على نطاق واسع. الصفات المذكورة هي كل ما تتصف به في نظر الجماعات المتعصّبة ضدها والمناوئة لها. ولا يُذكر في العادة ما لديها من أعمال عظيمة في الدعوة، ولا يذكر ذاك العدد الضخم من الناس الذين تغيّرت أحوالهم إيجابًا بسبب دعوتها لهم.
بعد الاختصار يأتي التعميم، فكل من ينتمي إلى تلك الجماعة وسواء أكان من أعمدتها وأركانها، أو كان يتحرك في هامشها –كل أولئك يتسمون بالسمات العامة لتلك الجماعة، وعند معاملته ومناظرته وتقويمه... يُعامل وكأنه فعلاً متمثل لكل صفات جماعته، ومتشرب على نحو كامل لكل مبادئها و أخلاقها، ويحمل كل عيوبها ونقائصها... وإذا نظرنا إلى الواقع وجدنا أن في أفراد تلك الجماعة، من يمضي معها، وهو لا يعرف إلاّ القليل عن إيجابياتها وسلبياتها، ومنهم من يمضي معها، وهو يناقشها في بعض ما يُؤخذ عليها، وهذا موجود في الحقيقة لدى كل التجمعات والجماعات والأحزاب، بل هو موجود بين أفراد الأسرة الواحدة، حيث يظهر أبناء الأسرة أمام الناس، وكأنهم شيء واحد، مع أن بينهم الكثير من التباين والاختلاف. التعصّب يقوم على الاختصار المخلّ والتعميم المحجف، أي هو مولود لأبوين غير شرعيين، ولذا فإنه مذموم بمعايير الشرع والمنطق والإنسانية.
للحديث بقية.
التعصّب (3)
د. عبد الكريم بكار 3/6/1427
29/06/2006
في هذا المقال من حديثنا عن التعصب سنتحدث بحول الله -تعالى- عن الأسباب التي تدفع الأشخاص والجماعات في اتجاه (التعصّب) على أمل تكوين ثقافة واضحة حول هذه العلة الأخلاقية والاجتماعية المنتشرة على نطاق واسع؛ ولعل من أهم تلك الأسباب الآتي:
1- الجهل سبب رئيس بين أسباب التعصب؛ إذ إن الشخص أو الجماعة أو القبيلة أو الحزب حين يجهل حقيقة ما عليه الآخرون فإنه يقع بسهولة فريسة لأحاديث المجالس غير الموثوقة والمتحاملة، كما يقع فريسة للدعاية المضادة، وتدل بعض الدراسات على أن الناس كلّما عرفوا أكثر وأكثر عن بعضهم خفّت حدة التعصب لديهم، وذلك لأن تلك المعرفة تظهر لهم زيف الشائعات المغرضة التي يتداولونها عن بعضهم من غير أي تثبّت؛ وفي هذا الإطار نفهم حكمة العديد من التشريعات والعبادات الإسلامية ذات الصبغة الاجتماعية، مثل: الحج وصلاة العيدين والجمعة والجماعة، ومثل الحثّ على التزاور وعيادة المريض، وصلة الأرحام، والتعاون على البر والتقوى.... والله –تعالى- يحثنا بطريقة واضحة على التعارف والتواصل حين يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). [الحجرات:13]. إن انتشار الذرية وتنوع الانتماء القبلي من الأمور التي تبعث على الفرقة والتناحر والتعصب، لكن القرآن الكريم يذكّرنا بثلاثة أمور أساسية:
أ – الناس مهما اختلفوا وتباعدوا، فإن عليهم أن يتذكّروا أنهم جميعًا من أب واحد وأم واحدة، فهناك دائمًا شيء مشترك.
ب- هذا التنوع قد يُستغلّ للعداء والتجافي، لكن الله –تعالى- يريد من عباده أن يتخذوا منه أداة للتواصل والتآلف والتعارف على قاعدة "نختلف لنأتلف".
جـ- لا ينبغي لهذا التنوع أن يُتّخذ طريقًا للكبر وهضم الحقوق والشقاق، فالإنسان يكون أفضل من غيره بشيء من واحد، هو (التقوى). ومن التقوى رحمةُ العباد والرفق بهم وجلب النفع لهم.
2- يجد العنصريون والأنانيون ومحدودو الأفق في التباين الفكري والثقافي والعرقي... مرتعًا خصبًا لإنعاش التعصب وزيادة حدة الاختلاف. إن هؤلاء يجعلون من أنفسهم ومن مجموعاتهم محورًا أوحد، فكل ما لديهم هو الأصل، وكل ما لدى الآخرين ينبغي أن يكون صورة، وإلاّ تعرضوا للنبذ والعدوان والاضطهاد، مع أن الواقع يشهد أنه ليس هناك قبيلة ذهبت بكل المكرمات، ولا جماعة ذهبت بكل النجاح، كما أنه ليس هناك تيار أو مذهب ذهب بكل الصواب، ونحن نعرف أن أحد فقهائنا القدامى أطلق قاعدة ذهبية في هذا الشأن حين قال: "مذهبنا صواب، يحتمل الخطأ، ومذهب غيرنا خطأ، يحتمل الصواب" لكن الذي كان يجري – ومازال في معظم الأحيان – هو أن مدرسي كل مذهب كانوا مشغولين باستمرار ببيان فضائل مذهبهم والدفاع عن أصوله وفروعه دون ممارسة شيء ذي قيمة من النقد والمراجعة والتمحيص. ووقع في مثل هذا الجماعات وأحزاب وتيارات عديدة. إن النقد الذاتي يخفف من حدة التعصب، ويقلل من إمكانية استغلال العواطف المتاجرة بها، لكنّ هذا يحتاج إلى قدر كبير من الإخلاص والشجاعة الأدبية والرؤية الموضوعية.
3- تشتد حدة التعصب في المجتمعات التي فيها قوانين غير منصفة، وذلك كأن تنال طبقة أو فئة أو مجموعة امتيازات خاصة، دون بقية الناس؛ هذه القوانين تعمل على توليد ثقافة التعصب من أجل إيجاد منطلق لإقناع المحظوظين باستحقاقهم للامتياز، وإقناع المظلومين بأن ما يجري لهم هو شيء طبيعي، ومن هنا فإن الشريعة شدّدت كثيرًا على مسألة العدل ومقاومة الظلم. والحقيقة أن الفئة التي تنال ما ليس لها تُصاب بنوع من التشوّه في أرواحها وعقولها وأخلاقها، وهذا من عدل الله –تعالى- بين عبادة!
4- المنافسة على طلب الرزق تذكي نار التعصب، فحين يجد السكان الأصليون أن الوافدين إلى بلادهم صاروا يزاحمونهم على الأعمال والوظائف، فإنهم يسعون إلى إيجاد آلية لكسر حدة منافستهم، ويجدون في التعصب وسيلة جيدة لذلك، والمفروض لحل مثل هذه المشكلات النظر بعين الإنصاف للإيجابيات والسلبيات التي تترتب على وجود أولئك المنافسين، والسعي إلى إيجاد نظم وقوانين عادلة ومريحة تحكم وتنظم العلاقات بين الجميع، ولاسيما أننا نعيش في عصر العولمة حيث كل شيء يتداخل ويتواصل بوتيرة متصاعدة.
5- أحيانًا تتعصب جماعة أو قبيلة ضد جماعة أو قبيلة أخرى من أجل تقوية نسيجها وتقوية صفوفها، وهذا ما يفعله اليهود في فلسطين المحتلة، فهم يحتقرون العرب والفلسطينين خاصة، ويشنون الحروب المتتابعة من أجل تقوية الروابط الاجتماعية والأيدلوجية القائمة بين اليهود، ولاشك أن اللجوء إلى التعصب بوصفة مورد تضامن ينطوي على انحطاط أخلاقي، ويدلّ على فساد الأسس التي قام عليها الكيان أو التجمّع.
وللحديث صلة.
التّعصُّب (4)
د. عبد الكريم بكار 17/6/1427
13/07/2006
بعد أن تحدثنا عن ظاهرة التعصّب وعن أسبابه، آن لنا أن نتحدث عن سبل مقاومة هذه الظاهرة السيئة والمنحطة، وذلك عبر المفردات الآتية:
(1) التعصّب ليس شيئاً وراثياً، لكنه يُكتسب، ويُتعلم من البيئة المحيطة، وهذا يعني أن الإنسان كما يتعلم التعصّب، يمكنه أن يتعلم التساهل والتسامح. وقد دلت الكثير من البحوث والدراسات على أن الشعوب والجماعات تتغير اتجاهاتها عبر الأجيال، كما تتغير أنماط التفكير لديها، فالإنسان كائن يتعلم باستمرار، لكن الخلاص من العيوب لا يتم عن طريق المصادفة، وإنما عن طريق القصد والتخطيط والمجاهدة.
(2) للتخلص من أي ظاهرة نحتاج إلى تركيز الضوء عليها، بل نحتاج في الحقيقة إلى تشريحها. وظاهرة التعصّب من الظواهر الشديدة التعقيد؛ لأنها تقوم على عقائد وأفكار ومفاهيم راسخة ومترابطة، وذات مسحة منطقية أو نصف منطقية. ومن الواضح أن التعصّب يشكل نوعاً من حب الذات، ويشتمل على درجة كبيرة من الأنانية والتمحور حول النفس، وذلك لأن المرء يحب الذين يشبهونه، وينفر من الذين يتبين له أنهم مغايرون له، وهذا ينم عن غفلة شديدة أو وعي زائف، أو نفس مريضة!
(3) انتهت نظريات التفوّق العرقي والتي سادت فترة طويلة من الزمان، وعادت الأمم المتحضرة إلى المعيار الإسلامي في التفاضل، وهو الاستقامة والنفع العام والتفوّق في الأداء، وصار من الواجب علينا نشر هذا المعنى على أوسع نطاق.
(4) كثيراً ما يقوم التعصّب على التعميم الخاطئ، فنحن حين نحكم على شعب بأنه أحمق أو كسول أو غدّار أو غبيّ.. نقوم بتعميم ملاحظة أو معلومة جزئية عن أفراد قليلين لنجعلها شاملة لأعداد كبيرة قد تبلغ مئات الملايين من البشر، وفي هذا من الظلم والتجني ما لا يرضى الله تعالى به، وما لا يليق بالإنسان العاقل والموضوعي الحريص على وضع الأمور في نصابها، ولهذا فإن مقاومة التعصّب تحتاج إلى تقوية الوازع الديني، والذي يدعو إلى التوقي من ظلم الناس، وإلى تدعيم التفكير الموضوعي والمحاكمة العقلية العادلة لدى الناشئة، وهذا من مسؤوليات الأسر في البيوت، ومن مسؤوليات المدارس ووسائل الإعلام.
(5) يدفع التعصّب في اتجاه العداوة والعزلة، ولهذا فإن كثيراً من التعصّب سببه الجهل وضعف الاتصال، ومن هنا فإن علينا التفكير في الوسائل التي تساعد على الاتصال الفعال، والوسائل في الحقيقة كثيرة منها:
أ - الحوار وتبادل الأفكار، ومناقشة القضايا والمشكلات التي تثير التعصّب، وتلك القضايا كثيرة، فقد تكون المعتقدات والمفاهيم الخاطئة عن أولئك الذين يجري التعصّب ضدهم، وقد يكون التنافس على طلب الرزق، وقد يكون سيطرة فئة على بعض القطاعات أو بعض الموارد.. إن الحوار يكون أشبه بفتح جرح التأم على فساد، فتح الجرح مؤلم، ولكن حتى نطهّره لا بد من تحمل الألم.
ب - فِرَق اللعب تساعد في تعريف الشباب على بعضهم، وهذا واضح جداً في الألعاب ذات الصبغة العالمية؛ إذ يتم اختيار الأكفأ لتمثيل البلاد بقطع النظر عن لونه ودينه وعرقه، وكم رأينا من مشاعر الجماهير الإيجابية والحميمة تجاه لاعبين ينتمون إلى فئات لها مشكلة مع تلك الجماهير!!
ج - للتعليم دور أساسي في التخفيف من مشاعر التعصّب عن طريق الاتصال الفعّال، وقد قامت بعض الدول التي تعاني من العنصرية باتباع سياسات تعليمية بنّاءة في هذا المجال، وعلى سبيل المثال فقد كُلّف الطلاب بإجراء بحوث متنوعة على أن يقوم بعض الطلاب السود بكتابة جزء من البحث، ويقوم الطلاب البيض بإكماله أي لا يكتمل البحث إلاّ من خلال تبادل المعلومات والتحدث حول منهج البحث بين الطرفين.
د - الاتصال الفعّال المؤثر، هو اتصال عفوي حر بعيد عن الرسميات، وهذا يتحقق خلال اللعب والبحث والتسوّق والاختلاط بين الجوار.. لكن لا بد مع هذا من شيء مهم جداً هو عدالة القوانين؛ إذ إنّ كثيراً من الفوقية والنرجسيّة والتميّز الأجوف يأتي من وراء القوانين الظالمة التي تمنح فئة أو فئات من الشعب امتيازات لا تستحقها، وقد ثبت أن للقوانين قدرة فائقة على توليد الثقافة التي تمنحها الشرعية، وتضفي عليها المنطقية والانسجام. العدل يدفع في اتجاه الإخاء، والظلم يدفع في اتجاه التعصّب والتنابذ والعدوان. هذه حقيقة راسخة، يجب أخذها بعين الاعتبار.
(6) تسليط وعي الناس على التناقضات الأخلاقية التي سبّبها لهم التعصّب؛ إذ إن كثيراً من الذين يتعصّبون ضد غيرهم يؤمنون بالعدل والمساواة وكرامة الإنسان، ويحفظون الآيات والأحاديث والأقوال التي تدل على ذلك، لكنهم لا يستفيدون منها شيئاً، وهم من وجه آخر، يحبون من غيرهم أن يعاملهم على أنهم بشر أسوياء محترمون، لكنهم لا يفعلون ذلك مع الآخرين. إن توعية الناس بهذه المعاني على نحو مستمر، قد تساعد فعلاً في تخفيف غلواء التعصّب.
(7) نشر الروح الإيجابية والتفكير الإيجابي مهم أيضاً على هذا الصعيد؛ إذ إن على المسلم أن يركز على رؤية الإيجابيات، وعلى ما لدى الناس من فضل وخير، ويتعلم غضّ الطرف عن النقائص والهفوات، فذلك أسلم لقلبه وأفضل لدينه، وأعون له على مواجهة مشاق الحياة.
إن التعصّب مرض عُضال مزمن، عانت منه البشرية على امتداد تاريخها الطويل، وما زالت تعاني، وستظل تعاني، ولهذا فإن المطلوب ليس استئصال شأفة التعصّب وإنما التخفيف من لأوائه، وهذا يحتاج إلى علاجات مركبة وعلى النفس الطويل.
والله الموفق.
انتهى مقال فضيلة الداعية.أ.د.عبدالكريم بكار-حفظه الله تعالى-
(المصدر موقع الإسلام اليوم).
الفصل الثالث: موقف الإسلام من العصبية القبلية:
موقف الإسلام من العصبية القبلية
الأخبار - آل البيت و الحياة
الكاتب: محمد الناصر | 21/02/2006
كيف عالج الإسلام العصبية القبلية ؛ كيف عمل على تذويبها ؟ سؤال مهم يطرح نفسه ، إذ كيف كان الفرد مشلول الإرادة ، مسلوب القوة أمام عبوديته لطغيان القبيلة ؟
صحيح أن المرء ما كان يجد الأمن والاستقرار إلا في رحاب القبيلة ، فهي البنية الاجتماعية المعتبرة ، في صحراء ينعدم فيها النظام والعدل ، والسلطة التي تحفظ الأمن . إلا أن هذا لا يعتبر مبرراً كافياً ، ليلغي الفرد عقله ويسير حسب هوى القبيلة ، وجبروتها .. وقد مر معنا سابقاً قول دريد بن الصمة :
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
وعندما تحدثنا عن الشعر الجاهلي ، تبين لنا مدى قوة سيطرة روح القبيلة ، فهي المعبود المطاع ..
وفي صدر الإسلام كان لروح القبيلة ، ومجد الآباء والأجداد تأثير عجيب مما جعل قبيلة قريش وقبائل العرب تقف متجبرة متغطرسة أمام الحق الأبلج .
أ- قوة العصبية وسيطرتها على مجتمع الجاهلية :
« ذكر الزهري : أن أبا جهل وجماعة معه وفيهم الأخنس بن شريق ، وأبو سفيان ، استمعوا قراءة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الليل ، فقال الأخنس لأبي جهل : يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال : تنتازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا (أو تحاذينا) على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذا ؟ والله لا نؤمن به أبداً و لا نصدقه [1] . يستمع هؤلاء النفر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلال ثلاث ليال - والرسول لا يعلم بهم- ثم يلتقون ويتعاهدون على عدم العودة والاستماع ، فالقرآن يستهوي نفوسهم لكن العصبية حملت هؤلاء وأبا جهل خاصة على هذا الموقف المعاند الظالم .
أبو جهل هذا يقتل في بدر ، ويصعد فوقه عبد الله بن مسعود -رضى الله عنه- ، ويسأله : هل أخزاك الله يا عدو الله ؟ قال : وهل فوق رجل قتله قومه ؟ ( أي ليس عليه عار ) . لأن قومه قتلوه ! [2] عصبية حتى عند الموت ! . وإسلام حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- في السنة السادسة للبعثة كان بسبب نصرة ابن الأخ أولاً ، لأن أبا جهل اعتدى عليه . قال ابن إسحاق [3] : « مر أبو جهل برسول الله -صلى الله عليه وسلم-
عند الصفا ، فآذاه ونال منه (ورسول الله ساكت) فقام رسول الله ودخل المسجد وكانت مولاة لعبد الله بن جدعان في مسكن لها على الصفا تسمع ما يقول أبو جهل.. فأخبرت حمزة ما سمعت من أبي جهل ، فغضب ودخل المسجد ، وأبو جهل جالس في نادي قومه فقال لهم (الحمزة) : أتشتم ابن أخي وأنا على دينه ؛ ثم ضربه بالقوس فشجه شجة منكرة ، فثار رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل فقال أبو جهل : دعوا أبا عُمارة ، فإني والله قد سببت ابن أخيه سباً قبيحاً ، فعلمت قريش أن رسول الله قد عز وامتنع .. فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه » . إن قوة تأثير القرابة ، وعصبية الدم كانت سبباً في إسلام حمزة -رضي الله
عنه- .. وإن حماية أبي طالب لرسول الله ، ودعوته بني هاشم وبني المطلب لنصرته -عليه الصلاة والسلام- كانت من هذا القبيل وحصار بني هاشم مؤمنهم وكافرهم في الشعب « وأن لا يقبلوا من بني هاشم صلحاً أبداً ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموهم للقتل » . وقد لبثوا في شعب أبي طالب ثلاث سنين [4] كان مقاطعة ، لأعراف القبائل فيها تأثير كبير . إن الإسلام استفاد من رابطة القبيلة في نشر الدعوة ، ولا مانع من استخدامها مظلة واقية ضد نيران مجتمع متعصب له تقاليده . وشعر أبي طالب في قصيدته اللامية [5] يبين مدى حمايته لرسول الله ، ومدى قوة رابطة العصبية رغم الخلاف
في المعتقد :
ونُسلمه حتى نصرع حوله نُذهل عن أبنائنا والحلائل
وأبيضَ يُستسقى الغمامُ بوجهه ربيعُ اليتامى عصمةٌ للأرامل
فوالله لولا أن أجيء بسبة [6] تُجرُّ على أشياخنا في المحافل
لكنا اتبعناه على كل حالة من الدهر جداً غير قول التهازل
كان من العار عندهم ألا ينصر القريب قريبه ، ولو خالفه في المعتقد ، ومن هنا وقف أبو طالب من ابن أخيه -عليه أفضل الصلاة والسلام- هذا الموقف المشرف ، فقد كان « لزاماً على العربي أن يقوم بنصرة الأخ وابن العم أخطأوا أم أصابوا ، عدلوا أم ظلموا ، بمعنى أن الرجل كان يلحقه العار ، إذا قعد عن نصرة أخيه أو ابن عمه ... ولذلك قالوا (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) . وهذا من حكمة الجاهلية .. فالنصرة عندهم هي الإعانة على الغير أما في الإسلام فقد اعتبر من ضمن النصرة نصيحة الظالم لرده عن ظلمه... [ [7] . إن الإسلام حرم نصرة الظالم ففي الحديث الشريف : « انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً . قيل : يا رسول الله .. فكيف أنصره ظالماً ؟ قال عليه الصلاة والسلام : تمنعه من الظلم فذاك نصرك إياه » [8] . لقد نفّر الدين الحنيف من إعانة العشيرة على الباطل ، وصور ذلك الفعل القبيح تصويراً مؤثراً ، يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم- : « مثل الذي يعين عشيرته على غير الحق مثل البعير ردي في بئر فهو يُنْزع بذنبه » [9] .
ب- كيف عمل الإسلام على تذويب العصبية :
عرفنا في الفقرة السابقة قوة العصبية في المجتمع الجاهلي وسنرى الآن كيف غير الإسلام هذه الروح ، إذ بدأ بغرس ربطة الدين ، ووشيجة العقيدة ، وهى أساس كل تغيير . « إن الوشيجة التي يتجمع عليها الناس في هذا الدين ، ليست وشيجة الدم والنسب ، وليست وشيجة الأرض والوطن ، وليست وشيجة القوم و العشيرة ،
وليست وشيجة اللون واللغة ولا الجنس والعنصر ، ولا الحرفة والطبقة إنها وشيجة العقيدة » .« أما الوشائج الأخرى » فقد توجد ثم تنقطع العلاقة (بين الفرد والفرد ... ) . يبين الله لنوح -عليه السلام- لماذا لا يكون ابنه من أهله ] إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ[ فوشيجة الإيمان قد انقطعت بينكما ] فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [ إنه ليس من أهلك ولو كان هو ابنك من صلبك » [10] . « وامرأة فرعون التي طلبت من ربها أن ينجيها من فرعون وعمله وأن ينجيها من القوم الظالمين إنها امرأة واحدة في مملكة عريضة قوية وقفت وحدها في وسط ضغط المجتمع وضغط القصر وضغط الملك وضغط الحاشية ورفعت رأسها للسماء ! إنه التجرد الكامل من كل هذه المؤثرات والأواصر » [11] . وفي الحديث الشريف : « من قاتل تحت راية عُمِّيَّة يغضب لعصَبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقُتل فقِتْلةٌ جاهليةٌ » [12] ، والعمية هي الأمر الأعمى لايستبين وجهه . وقال تعالى : ] لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [ [المجادلة : 22] . قال أهل العلم في سبب نزول هذه الآية : إنها نزلت في أبي عبيدة حين قتل أباه يوم أحد ، وفي أبي بكر حين دعا ابنه للمبارزة يوم بدر ، وفي عمر حيث قتل
خاله العاص بن هشام يوم بدر ، وفي علي وحمزة حين قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر » [13] . لقد جمعت هذه العقيدة صهيباً الرومي وبلالاً الحبشي وسلمان الفارسي وأبا بكر العربي القرشي تحت راية واحدة ، راية الإسلام ، وتوارت العصبية، عصبية القبيلة والجنس والقوم والأرض وهاهو مربي هذه الأمة وقائدها -عليه الصلاة والسلام- يعلم ويربى إذ يقول لخير القرون كلها مهاجرين وأنصار : « دعوها فإنها منتنة » .. وما هي ؟ صيحة نادى بها أنصاري : ياللأنصار ، وردَّ مهاجري ياللمهاجرين فسمع ذلك رسول الله وقال : « ما بالُ دعوى جاهلية ؟ » قالوا : يا رسول الله كسَعَ رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار ، فقال : « دعوها فإنها منتنة » [14] . حقاً إنها منتنة ... وقال صلى الله عليه وسلم : « ليس منا من دعا إلى عصبية ، وليس منا من قاتل على عصبية ، وليس منا من مات على عصبية » [15] .
فانتهى أمر هذا النتن ، وماتت نعرة الجنس واختفت لوثة القوم .. ومنذ ذلك اليوم لم يعد وطن المسلم هو الأرض ، وإنما وطنه هو دار الإسلام تلك الدار التي تسيطر عليها عقيدته وتحكم فيها شريعة الله وحدها [16] . روى ابن هشام [17] : « أن عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه - قال لسعيد ابن العاص (ومر به) : إني أراك كأن في نفسك شيئاً أراك تظن أني قتلت أباك ! إني لو قتلته لم أعتذر إليك من قتله ، .. ولكنى قتلت خالي العاص بن هشام بن