المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أسماء بعض المدن العربية وأسباب تسميتها لعلامة الجزيرة رحمه الله


خيَّال الغلباء
13 - 08 - 2009, 18:30
بسم الله الرحمن الرحيم

أسماء بعض المدن العربية وأسباب تسميتها لعلامة الحزيرة الشيخ / حمد الجاسر رحمه الله وأسكنه فسيح جناته :-

كانت ( سياحةً ) ممتعةً ذِهْناً وثقافةً، في كتاب حافل بالمفيد الطَّريف من جوانب المعرفة العامة، فلقد حرص / ياقوت بن عبدالله الحموي المتوفي سنة 626هـ ( 1228م ) أن يودع كتابه ( معجم البلدان) خلاصة ما اطلع عليه في مؤلفات من سبقه من العلماء، مما يتعلق بالبلدان والجبال والأودية والقرى والمحال والبحار والأنهار والأصنام وغيرها، فجمع من تلك المؤلفات ما كان مشتتاً، وأضاف إليها ما كان مهملاً، حتى أصبح هذا الكتاب ( أَوْحَدَ في بابه ) – كما وصفه مؤلفه [1].

وحلَّتِ ( الدورة الرابعة والخمسون ) من دورات المؤتمر السنوي لمجمع اللغة العربية، فكانت مناسبةً طيبةً أتاحتْ لي معاودة تتبع عدد من أسماء المواضع التي ورد ذكرها فيما سيعرض في تلك الدورة من مواد ( المعجم الكبير )، وهو معجم شرع المجمع بتأليفه منذ أكثر من نصف قرن، وأصدر عنه مجلدين ضخمين، بلغ فيهما إلى حرف الحاء، وهيأ للعرض في جلسة يوم الأحد السابع عشر من شهر رجب 1408هـ ( 6 آذار سنة 1988م ) من مواد ذلك الحرف من ( ح.د.ب ) إلى آخر مادة ( ح.ذ.ن ) في نحو عشرين ومئة صفحة، ومن بينها أعلام من أسماء القبائل والأشخاص والمواضع مِمَّا جُلُّهُ – إن لم يكن كله – ذو ارتباطٍ وثيق بهذه البلاد الكريمة التي منها انبثق نور الهداية، فأضاء أقطار العالم، حتى انتشر فيها العلم والعدل والهدى .

كان من بين أسماء المواضع التي وردتْ في تلك المواد : ( حَدَد ) الاسم القديم للجبل المطل على بلدة تيماء من الجنوب الغربي، المعروف الآن باسم ( غُنيم ) وكان مما قرأتُ عنه في أحد المؤلفات أنه مذكور في ( التوراة ) مقروناً بتيماء، باعتبارهما من أبناء إسماعيل [2] فحفزني هذا لمحاولة معرفة الطريقة التي سار عليها العلماء في تعليل أسماء المواضع القديمة التي سبقتْ تدوينَ اللغة العربية – في القرن الثالث الهجري فيما بعده – وهي التي يُعَبَّرُ عنها بأنها جامدة، أو مرتجلة – أي غير مشتقة، ولا شك أن ( معجم البلدان ) من أحفل المؤلفات وأشملها في هذا الباب، وقد جعل مؤلفه هذا الأمر نُصب عينيه منذ أن شرع في تأليف كتابه، فنص في مقدمته أنه ذكر اشتقاق الاسم إن كان عربياً، ومعناه – إن أحاط به – إن كان أعجمياً – فكان أن أمضيتها سويعاتٍ مفرقةً، في تصفح الصفحات الكثيرة في أجزائه الأربعة، حتى انتهتْ بي سياحتي إلى قناعةٍ بأن هذا الجانب من جوانب الدراسات الجغرافية المتعلق بتعليل أسماء المواضع القديمة لا يصحُّ الوقوف فيه عند ما خلفه لنا سلفنا الصالح من متقدمي العلماء، بل لا يزال في حاجة إلى دراساتٍ أكثر عمقاً، وأوسع أفقاً، فمجالات المعرفة قد اتسعت، وآفاق العلوم أصبحت غير محدودة بزمان أو مكان، فهي تزداد وتتجدد في كل لحظة . وأولئك العلماء – أسبغ الله على أجداثهم شآبيب العفو والرضوان – قد قدموا لنا ما استطاعوا تقديمه، من ضروب المعرفة التي أدركوها، فاستحقوا من الله عظيم الأجر، ومنا الاعتراف بفضل السبق مع إزجاء وافر الشكر .

ولقد اتضح لي أن مؤلف ( المعجم) – مع كثرة مصادره وتنوعها، مما سرد أسماء أكثرها في مقدمته، وذكر غيرها عند الرجوع إليه – قد بلغتْ به الثقة بابن الكلبي درجةً حملته على اعتماد آرائه أساساً في تعليل إطلاق الأسماء القديمة على مواضعها المعروفة، مع علمه بمنزلته عند علماء الحديث وغيرهم من مشاهير علماء عصره، ويبدو هذا جلياً في الدفاع عنه – ما وجد إلى ذلك سبيلاً – كقوله بعد إيراد كلام له [3] : ولله دَرُّهُ ما تنازع العلماء في شيء من أمور العرب إلا وكان قولُه أقوى حجةً، وهو مع ذلك مظلوم، وبالقوارص مكلوم . وقوله [4] : قال ابن الكلبي : إنما سمي دَيْرُ الجماجم لأن بني تميم وذبيان لما واقعت بني عامر، وانتصرت بنو عامر، وكثر القتلى في بني تميم، بنوا بجماجمهم هذا الدير، شكراً على ظفرهم – وهذا عندي بعيد من الصواب – وهو مَقُولٌ على ابن الكلبي، وليس يصح عنه، فإنه كان أهدى إلى الصواب من غيره في هذا الباب، لأن وقعة بني عامر وبني تميم وذبيان كانت بشعب جبلة، وهو بأرض نجدٍ وليس بالكوفة . انتهى .

وياقوت أجلُّ من أن يجهل أن ابن الكلبي كغيره من العلماء ليس معصوماً من الخطإ، وقد نقل عنه من ذلك أشياء كثيرة، كَعَدِّهِ رُهَاطَ – الوادي القريب من مكة – في بطن ينبع، وزعمه أنَّ الحمى مضافٌ إلى جُرَشَ الذي في الشام، لا جَرَش [5]، وغير ذلك مما ليس هذا موضع بسطه، ومع هذا فلا شك أن هشام ابن محمد بن السائب الكلبي ( 000/204 ) من أوسع متقدمي العلماء معرفةً في كل ما يتعلق بأحوال العرب قبل الإسلام، وله في ذلك مؤلفات تُعَدُّ أَهَمَّ ما ألف في موضوعها، ولولاها لفقد الباحثون أسساً لدراسات كثيرة من تلك الأحوال ككتاب ( الأصنام) وكتاب ( الخيل ) وغيرهما مما يقارب مئة وخمسين مؤلفاً، وهو – بدون شك – إمام علم النسب بلا منازع، وعلى مؤلفاته المعوَّلُ في هذا العلم، ومن أهمها كتابا ( جمهرة النسب) و ( افتراق العرب ) [6].

أما ما يتعلق بالبلدان فقد اطلع ياقوت على كتابين له عنها هما : ( اشتقاق البلدان ) عَدَّهُ من مصادره في مقدمة كتابه – و ( أنساب البلدان ) نقل كثيراً عن نسخة منه بخط أحد مشاهير العلماء [7]، وإن لم يصرح بمواضع النقل، وهو فيما نقل من الكتابين لا يميز بينهما إلا قليلاً .

ومعلومات ابن الكلبي مستمدة من روافد متعددة، ما يتعلق بأنساب العرب يظهر أنه اعتمد على مؤلفات أبيه محمد بن السائب المتوفي سنة 146، مع ما أضاف إليها مما وجد مسجلاً، أو تلقَّاه بالسماع عمن عاصرهم، وما يتعلق بالبلدان يعول كثيراً على الشرقي بن القُطَامِيَّ ( الوليد بن الحصين، المتوفي في منتصف القرن الثاني ) وهذا الرجل كانت له حظوة لدى الخليفة المنصور، بحيث كان يبعثه إلى بعض ملوك [8]، وقد أسند إليه تعليم ابنه المهدي الأدب، وهو من قبيلة كلب .

وقد أكثر ابن الكلبي النقل عن الشرقي مصرحاً باسمه [9]، كما نقل عن أبيه محمد بن السائب نصاً يظهر أنه من ( التوراة ) قائلاً : أخبرني أبي قال [10] : رومي وصقلب وأرميني وافرنجي إخوة، وهم بنو لنطي ... بن يونان بن يافث، سكن كل واحد منهم بقعة من الأرض فسميت به . من هذا النص وأمثاله مما ورد في ( التوراة ) كما في الكلام على أبناء اسماعيل بعد ذكرهم قال : ( هذه أسماؤهم بديارهم وحصونهم ) – وَجَدَ ابنُ الكلبي المجالَ أمامه واسعاً لنسبة كثير من أسماء المواضع إلى شخص ورد له ذكر في الأخبار القديمة المدونة – كالتوراة وغيرها – أو المتداولة بين الأخباريين عن الأمم التي لا تاريخ لها . وابن الكلبي على درجة من الذكاء، ومن سعة الاطلاع، مكَّنَاهُ أن يضع – غالباً – كل اسم فيما يناسب له من المواضع، وأن يحاول ربطَ تلك الأسماء ربطاً يتفق مع تقاربها في مواضعها، ووفق ورودها في النصوص أو الأخبار التي اعتمد عليها .

ويظهر من النصوص التي نقلها ياقوت عن كتابيه في البلدان أن يسير في تأويل أسمائها في اتجاهات خمسة :-

1– اعتماده على نصوص قديمة – كالتوراة – وهو حينما يسلك هذا الاتجاه يسير سيراً متماسكاً، وإنْ لم يكن مستقيماً دائماً، ويتضح هذا في نظرته إلى أسماء المواضع الأعجمية الواقعة في شرق المعمور من العالم، فهو يراها منقولة عن أسماء أشخاص يرجعون إلى أصل واحد، ممن عاش في تلك المواضع، بل قد يحاول الربط بين اسمي موضعين متباعدين، زاعماً أنهما سُمِّيَا بشخصين أخوين، وأكتفي بسرد أسماء أورد ياقوت كلامه عنها في ( المعجم ) وترتيبه يغني عن الإحالة إلى مواضعها : أرَّان – في أرمينية – وأصبهان، وجرزان، وجيلان، والرِّيّ، والسُّوس في خوزستان – والصين، وفارس، وكرمان، وموقان، وهمذان – هاؤلاء كلهم يجمعهم نسب واحد، ويرجعون إلى أصل واحد هو يافث بن نوح، ومعروف ما ورد في ( التوراة ) عن انحصار سكان العالم بأبناء نوح الثلاثة : سَامٍ وحامٍ ويافثٍ .

وهناك أسماء مواضع واقعة في أطراف الجزيرة ونواحي العراق والشام، ومنها ما له ذكر في ( التوراة ) أو في شروحها، مثل آمد وأيلة والبلقاء، ودَومة الجندل، وعَدَن، وعُمَان – بضم العين وتخفيف الميم – وهِيْت، وتلك البلاد انتشر فيها أبناء إبراهيم الخليل، وإذن فتلك أسماء أشخاص منهم، سميت بها تلك المواضع، ودمشق سميت بدمشق بن قالي المتصل النسب بسام بن نوح الجد الأعلى لإبراهيم، وهذا لا ينفي وجود من لا ينتمي إلى إبراهيم قد عاش في هذه البلاد، كصيدون وهو من أبناء كنعان بن حام، وبه سميت صيداء، أما غزة التي سميت بها المدينة المعروفة فهي امرأة صور، الذي بنى مدينة صور، ولكن الذي لم يتضح ملمح ابن الكلبي فيه هو قوله عن ( فلسطين ) : سميت بفليشين .. من بني يافث بن نوح، ثم عُرِّبَتْ، فلماذا نسب هذا الموضع إلى أحد بني يافث .

هذا وأمثاله – مما لا يتسع المجال لذكره – مما تأثر به ابن الكلبي بما عَرَفَ أو نقل له عن ( التوراة)

2– أما ما له صلة بأخبار القصَّاصين من أسماء المواضع مما يتعلق بتاريخ الأمم التي عاشت في الجزيرة ثم بادَتْ كالآراميين ( بني إرم ) والعمالقة وغيرهم ممن لم تُدَوَّنْ سيرهم وأخبارهم فلابن الكلبي – فيما يرويه عن أبيه أو غيره من شيوخ – طريقة تدلُّ على خصب قريحة، لا تقف عن حدِّ نسبة الاسم إلى شخص ينتمي إلى إحدى تلك الأمم، بل تحاول إيجاد تقارب بين الأشخاص يتفق مع تقارب المواضع المسميات، كما في هذا الخبر الطريف الذي أورده صاحب كتاب ( المناسك ) [11] : هشام بن محمد عن أبيه قال : سُمِّيَ جَبَلاَ طَيِّءٍ أن سَلْمَى بنت حام بن حي، من بني عمليق عَلِقَها أجأْ بنُ عبدالحي من بني عمليق، وكان الرسول بينهما حاضنةً لها تدعى العوجاء، فهرب بها وبحاضنتها إلى موضع جبلي طيءٍ، وبالجبلين قوم من عاد، وكان لسلمى إخوة هم الغميم والمُضِلُّ وفَدَكُ وفائد، والحدثانُ، فخرجوا في طلبهم، فأخذوا سلمى فوضعوها على الجبل، وكُتِّفَ أَجَأ على الجبل الآخر، وقُطِعَتْ يدَا العوجاء ورجلاها فوضعت على جبل آخر، ثم قال الإخوة : والله لا نرجع إلى قومنا أبداً، فمضى الغَميم إلى ناحية الحجاز، وأقبل المضل إلى موضع القاع، واستنبط به بئراً وأقام حتى مات، ولحق فدك بموضع فدك فسمي به، ولحق فائد بالجبل الذي سمي فائد بطريق مكة [12]، ولحق الحدثان بحرَّة الحدثان فسميت هذه المواضع بهم، وهي منازل طيء بين الجبلين .

وكما نقل ياقوت [13] عنه عن الشرقي : الرَّبَذَةُ، وزَرُود والشُّقْرَةُ بنات يثرب بن قانية بن مهلائل بن إرم، ونقل عنه : سميت زبالة بزبالة بنت مسعر، امرأة من العمالقة نزلتها، وسميت طَمِيَّةُ بنت جام من بني عمليق، وأرض صُبْحٍ بناحية اليمامة سميت برجل من العماليق يقال له صبح .

3– ولملوك حِمْيَرَ قُبَيْلَ ظهور الإسلام من السيطرة والنفوذ بين سكان الجزيرة مَا دفع القصاصين ورواة الأخبار إلى التزيُّدِ فيما يروون عنهم، والاعتماد في كثير منه على الخيال، مما يجد الباحث نماذج منه في كثير من المؤلفات القديمة ككتاب ( أخبار عُبَيْدِ بن شَرْيَةَ الجرهمي ) وكتاب ( التيجان في ملوك حمير ) لابن هشام و ( شرح القصيدة الحميرية ) لَنَشْوان وغيرها، ولهذا فقد وجد ابن الكلبي مرتعاً خصباً في تلك الأخبار، ولكونه يَمُتُّ بنسبه إلى أصحابها إذْ هو كلبي قُضَاعيٌّ حميري، قحطاني، وله في الأخبار والحكايات صولات وجولات – فقد صادفت هوى في نفسه .

فسلطان أولئك امتدَّ – على ما يرى ابن الكلبي ومن شايعه من مؤرخي اليمن – إلى جميع أرجاء العالم، إذ إفريقس بن صيفي [14] – أحدهم – غَزَا المغرب فلما بلغ ( إفريقية ) تلك البلاد الواسعة أمر أن تُبْنَى هناك مدينة اشتق اسمها من اسمه، ثم نقل إليها الناس، فنسبت تلك الولاية الواسعة بأسرها إلى هذه المدينة، ولا ينسى الراوي أن يوشِّحَ هذا الخبر بما يُحَلِّيْهِ من الشعر، وأغرب من هذا أنه – عفا الله عنه – لم يَعْدِمْ من مشاهير اللغويين والعلماء من يقفو أثره في تهويل أمر أولئك الملوك، ويرى أن نفوذهم بلغ أقصى المعمورة شرقاً بحيث ذكر عن أحدهم وهو شَمِر بن إفريقس أنه بلغ بلاد الصين في غزواته فَنُسِبَتْ إليه مدينة ( سَمَرْقَنْدَ ) [15]، ولا ينسى ابن الكلبي قُوَّادَ أولئك الملوك من نسبة بعض المواضع إليهم فالسَّلْمَان الموضع المعروف في شرق الجزيرة في حدود العراق سُمِّيَ باسم سَلْمَانَ الحميري مَرَّ بهذا الموضع حين بُعِثَ في جيش كثير يريد شَمِر يرعش بن ناشر النعم ... الذي سمي به ( سمرقند ) لأنه كسر حائطها .

وقد يَعْمَدُ للإِغرابِ – حين يَتَصَدَّى لبيان معاني أسماءِ بعض المواضع التي لا يستعصي إدراكُ اشتقاقها على من لديه أدنى إلمام بالاشتقاق اللغوي، فيحاول إيجاد صلة بين تلك المواضع وبين ذوي المجد التليد من أولئك الملوك الصناديد .

إن قصة الملك الحميري الذي غزا المدينة، وعلم من أخبارها قرب بعث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فسار إلى مكة حاجًّا، قصة لها شهرتها عند عامة المؤرخين، وابن الكلبي شيخ الأخباريين، وهاهو يدلي بدلوه في تعليل أسماء مناهل الطريق ومنازله التي مرَّ بها التُّبَّعُ الحميري، ولا تزال معروفة فيما بين المدينتين الكريمتين، مما نقله ياقوت عن ( اشتقاق البلدان ) فيما يظهر :-

مَلَلُ : لما صدر تبع عن المدينة بعد قتال أهلها يريد مكة، نزل ملل، وقد أَعْيَا، فسماها مَلَل .

السيالة : مَرَّ بها تُبَّع – بعد رجوعه من قتال أهل المدينة – وواديها يسيل فسماها السيَالة .

الروحاء : نزل تُبَّعُ الرَّوْحَاءَ – بعد رجوعه من قتال أهل المدينة – فأقام بها وأراح، فسماها الروحاء .

الرُّوَيْثَةُ : نزل تُبَّع الرويثة، وقد أبطأ في مسيره، فسماها الرويثة، من راثَ يريث إذا أبطأ .

السقيا : لما رجع تبع .. فنزل السُّقْيَا يريد مكة، وقد عطش، فأصابه بها مطر، فسماها السقيا .

الْعَرْجُ : لما رجع تبع يريد مكة رأى دوابًّا تعرج، فسماها العرج .

قُدَيْدُ : نزل تُبع قديداً فهبَّتْ ريح قدَّتْ خيم أصحابه، فسمي قديداً .

إلى ما لا داعي للإطالة بذكره، وقد يحاول السير على هذه الطريقة حتى في الأسماء الأعجمية كأن يقول في اشتقاق اسم ( قِنَّسْرِيْنَ ) البلد الشامي –: مَرَّ ميسرة بن مسروق العبسي على هذه البلدة فقال ما هذه ؟ فسميت له بالرومية، فقال : والله لكأنها قِنُّ نَسْرٍ، فسميت قنسرين . واعْجَبْ للزمخشري – العالم اللغوي – حين يوجه كلام ابن الكلبي أو يحذُوْ حذوه، فيقول : نقل من القنسر بمعنى القنسري وهو الشيخ المسن وجمع، وأمثاله كثيرة !!

ألا يستظرف – بالظاء المعجمة – القارئ، وقد استطرف – بالطاء المهملة – تلك التأويلات الساذجة لأسماء المواضع – ما رُوي عن الشاعر المشهور كُثَيِّر بن عبدالرحمن الخزاعي ( كثير عزة ) ولعله أراد مجاراة ابن الكلبي في تعليل تلك الأسماء وأمثالها، قال [16] : سمي ( ملل ) لتململ الناس به، و ( الروحاء ) لكثرة أرواحها، و ( العرج ) لتعرُّجه، و ( السقيا ) لما سقوا من الماء العذب، و ( الجحفة ) لأن السيول قد جحفتها، ( وقديد ) لتقدد السيول بها، و ( مر ) لمرارة مائها .

4– أما نسبة المواضع لأناس ينتمون إلى القبائل التي عرفت بعد بدء تدوين التاريخ العربي من القحطانيين أو العدنانيين، فهي فيما نقل عن ابن الكلبي قليلة، لأنه يدرك الفوارق الزمنية بين معرفة تلك المواضع والزمن الذي عاش فيه أولئك الأشخاص، وقد لا يلحظ في كثير من الأحيان ما ذكره هو وغيره فيما يتعلق بمواقع سكنى القبائل في الجزيرة، كأن ينسب الرُّها – في الجزيرة الفراتية – لرجل يدعى الرُّها، يوصل نسبه بخمسة آباء إلى لَخْمٍ القبيلة القحطانية التي عُرِفَ انتشارُها فيما بين أطراف الشام الغربية إلى مصر [17]، وينسب صَنْدُودَاء في شرق الشام لامرأة تدعى بهذا الاسم هي ابنة لخم، فكأنَّ لَخْماً الذي تنسب إليه القبيلة استقر أول ما أستقر في هذه الجهة ولما تنتقل القبيلة من الجنوب كأخواتها من القبائل اليمنية القحطانية، وينسبُ جَبَلَ البِشْرِ إلى رجل عاش في القرن الأول الهجري كان خفيراً لفارس، فقتله خالد بن الوليد، وليس مُبَرَّأً من تأثير العاطفة القبلية، ولهذا فنسبته خناصرة – من أعمال حلب – لخناصرة بن عمرو الكلبي الذي وصفه بأنه ملك الشام، تدعو للتأمل .

إن ( الثَّعلبية ) الماء الذي كان معروفاً في شرقي الدهناء في طريق الحج في رأي هشام بن محمد منسوبٌ لرجل من بني دُوْدَان بن أسد يقال له ثعلبة استنبط ماءها – في قصة طريفة [18].

وجبل ( ثور ) في أسفل مكة المكرمة منسوب إلى ثور بن عبد مناة بن أُدِّ بن طابخة بن الياس بن مضر .

و ( هَجَرُ ) – الاسم الذي لا يزال يطلق على الأحساء – سميت عينُها بهجر بنت المكفف، من العرب المتعرية، وكان زوجها مُحَلَّمَ بنَ عبدالله، صاحب النهر الذي بالبحرين، يقال له نهر محلّم، وعين محلم [19].

و ( ضَرِيَّةُ ) الماء الذي أصبح قرية، في عالية نجد، سُمَّىَ بضرية بنت نزار، وهي أم عمران بن الحاف بن قضاعة، – والقاريء يدرك أن قبيلة كلب من قضاعة – أما الذي قد لا يدركه كل قاريء فهي المزية الخاصة بهذا الموضع عند الأخباريين، فقد رووا أن الله خلق جُؤَجُؤَ آدم من كثيب ضرية – ولعل هذا والله أعلم لنقاء تربة هذا الكثيب وصفائها من الشوائب !!

ويقرب من هذا قول صاحب ( معجم البلدان ) عن دَحْنا – أو دَجْنا الموضع المعروف بين مكة والطائف: دَحْنا أَرْضُ خلق الله منها آدم. ولعله تأثر بالحديث المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إن الله استخرج ذريَّة آدم من ظهره بِدَحنا – أو بنعمان الوادي القريب من دَحْنا – على ما ذكر الطبري في تفسير الآية الـ (172) من سورة الأعراف في تفسيره، وفي ذكر خلق آدم من تاريخه . ويبقى البحث عن وجه تخصيص هذا الموضوع بهذه المزِيَّة !!

5– ويُجُرُّ ذكر آدم للإشارة إلى رفع نسبة كثير من المواضع التي ينظر إليها نظرة احترام أو تقديس إلى أبي البشر، فجبل ( أبي قُبيس ) المطل على الكعبة المشرفة، كنَّاه آدم عليه السلام بهذه الكنية – فيما ذكر هشام – حين اقتبس منه هذه النار التي بأيدي الناس اليوم، من مرختين نزلتا من السماء على أبي قُبَيس، فاحتكَّتَا فَأَوْرَتَا ناراً، فاقتبس منها آدم .

ولا داعي للإطالة بذكر أمثلة من هذا القبيل، تتعلق بتعليل أسماء مِنَى، وجَمْعٍ ( مزدلفة ) وعرفة [20]، وأمثالها من الأمكنة التي لها منزلة في النفوس، مما كان مروياً عن هشام أو عن علماء ساروا على نهجه .

كما لا داعي للاسترسال في ذكر أقوال كثير من العلماء يظهر أنهم تأثروا بابن الكلبي أو من سار على نهجه أو أنهم اقتبسوا من مصادر ذات صلة بالكتب القديمة المحرفة كـ ( العهد القديم ) وغيره .

ومجمل القول أن المتتبع لأقوال الذين تصدَّوْا لتعليل أسماء الأماكن العربية من الأخباريين ومن سار على نهجهم من المؤرخين يجد ذلك من شاكلة ما سلف إيراده .

أراني قد أَطلتُ السياحة في هذا الكتاب القيم، فأبعدتُّ النَّجْعَةَ عما أردتُّ قصده، ولكن لا يفوتني أن أقرر بأن كلَّ ما ذكرته عن ابن الكلبي أو غيره من العلماء الذين ساروا على نهجه – وما أكثرهم !! على تلك الطريقة من تعليل أسماء الأمكنة القديمة، لم أَرِدْ منه إلا تنبيه الأذهان إلى ضرورة التعمق بدراسة معاني أسماء المدن والمواضع القديمة في هذا العصر، الذي توافرت فيه وسائل المعروفة، وتنوعت، وأصبح لعلم الآثار منزلته في الدراسات الجغرافية والتاريخية مما لم يتهيأ لأولئك العلماء .

وليس من شك بارتباط أسماء المواضع بساكنيها الأقدمين، ارتباطاً ذا أثر لاحظه المتقدمون، ولكنهم توسعوا فيه وبنوا كثيراً منه على استنتاجات قد لا نجد لها أساساً تاريخياً، ولا ينفي هذا أن جل أسماء الأعلام في اللغة العربية سواءاً كانت أسماء مواضع أو أسماء أشخاص ذات اشتقاق لغوي من مصادر عربية، لوحظ في وضعها اتصاف الشخص أو الموضع بصفة مشتقة من مصدر اسمه، وهذا من الأمور البدهية، كما أن كثيراً من المواضع سميت بأسماءِ سكانها سواءاً كانت قديمة أو حديثة، إلا أن أسماء المواضع القديمة حين يتجه لدراستها ذوو الاختصاص من علماء الآثار والتاريخ القديم واللغويين، لا شك أنهم سيضيفون إلى ما أُثِرَ عن متقدمي العلماء في هذا الجانب المهم ما يمد ثقافتنا بروافد جديدة تقوم على أسس صحيحة من المعرفة .

ولقد تمنيت قبل خمسة وثلاثين عاماً حين رأيت الأستاذ الشيخ عبدالله العلايلي في كتابه ( المعجم ) يتعرض لبعض تعليل أسماء المواضع بطريقة فيها من الجدة والطرافة ما ينأى بها عما عُرِفَ عن متقدمي العلماء تمنيت أن يتسع هذا الاتجاه فيقوم على أسس من الدراسات العميقة الشاملة التي لا ترتكز على الخيال فحسب، ومن أمثلة محاولة الشيخ العلايلي تعليل الأسماء قوله [21] : " واصل الْجَذْر ( ابَنَ ) تُرَّهِيٌّ ( ميثولوجي ) ومن البقايا الأثرية الدالة ( الأبانان ) وهما جبلان مُحَدَّدَا الرأس كالسِّنان، أحدهما أسود، والآخر أبيض، يمرُّ بينهما وادي الرُّمَةِ، وهو قاع عظيم، تنصب فيه جماعة أودية، وللعرب – كغيرهم كما هو معروف – بإجراء حكايات حول الأماكن والبقاع ذوات الصفة الفريدة، فيغلب في تقديري – من وراء هذه التسميات وتحليلها – أنَّ الجبلين يرمزان في الخيال العربي الأُسْطوري إلى الليل بالجبل الأسود، وإلى النهار بالجبل الأبيض، ومن بينهما وادي الرُّمَةِ الذي يرمز إلى مسرح الحياة، الماثل وشيكاً إلى مسرح صِنْوِهِ، تمشي الرمم فيه مَشْيَ السَّيْلِ، وكأن ( لَمرِّ الغداةِ وكَرِّ العشيِّ ) في تصور العربي شكلَ الطاحونة الرهيبة الدائرة بالموت على الحياة في غير انقطاع أو توقف . وهذا التصور نجدُ له نظيراً عند الإغريق في حكاية ربة الليل ". انتهى .

أنا حقًّا لا أرتاح إلى التوغل في الخيال بتلك الصورة التي عبر عنها الشيخ العلايلي، بل لا أرى للخيال مدخلاً للدراسات التاريخية والجغرافية، ولكنني أُعْجبت بهذا الاتجاه الجديد، لأنه يعبر عن شدة الحاجة إلى تغيير ما رسخ في الأذهان من معلومات تلقيناها عن اطمئنان وثقة، وحسن ظن بسلفنا الصالح دون الاتجاه للبحث عن حقائقها اتجاهاً لا يقصد منه هضم حق أولئك السلف ولا انتقاصهم .

وإنما يراد منها سلوك النهج العلمي الذي يفضي بالباحث إلى إدراك الحقائق الثابتة بيقينٍ واطمئنان، وإن كان أكثر ما توارثناه من معلومات عن ماضينا البعيد قد تراكم عليه غبار الزمن بصورة حجبت حقيقته .

وأَجتزيء القول بعرض عشرة أسماء من مئات أسماء المدن والمواضع القديمة التي استعصى عليَّ فَهْمُ معانيها واستغلق إدراك الأصول اللغوية التي اشْتُقَّتْ منها .

وما أسعدني حين أرى اتجاه طلاب المعرفة من أبنائنا إلى التعمق في دراسة ما يتصل ببلادنا وبحياتنا .

1– أبها ( قاعدة بلاد عسير ) :-

لم يرد اسم هذه البلدة فيما اطلعت عليه من المؤلفات المشهورة، التي تعرضت للحديث عن عمران المدن، وتحديد مواقع المواضع، باعتبارها من المدن القديمة، وعدم ورود اسمها لا ينفي قِدَمَها . ولعلَّ أقدم نصٍّ ورد فيه ذكرها – على ما أعلم – هو ما جاء في كتاب ( صفة جزيرة العرب ) [22] للحسن بن أحمد الهمداني – الذي عاش عشرين عاماً من آخر القرن الثالث الهجري وبقية حياته في القرن الرابع – وهو نصٌّ يدل على قدم تلك البلدة – ففي الحديث عن ( جُرَش وأحوازها ) قال [23] : ويصالي قَصَبة جُرَش أوطانُ حَزِيمة من عَنْز، ثم يواطن حزيمة من شاميها عسير، قبائل من عنز، وعسير يمانية تَنَزَّرَتْ، ودخلتْ في عنز، فأوطان عسير إلى رأس تَيَّة، وهي عقبة من أشراف تهامة، وهي أبها، وبها قبر ذِي القرنين – فيما يقال – عُثِر عليه على رأس ثلاث مئة من الهجرة .

وأعاد ذكرها بقوله [24] : والدَّارة وأبها، والحللة والفتيحا، فَحَمَرة وطَبَب، فأتانة والمغْوَث فجرشة، فالأيداع، أوطان عسير من عنز، وتسمى هذه أرض طود . انتهى .

ولو عرف ياقوت الحموي – صاحب ( معجم البلدان ) اسم ( أبها ) – لما أعياه تعليله، فمادة ( بهو ) في الفصحى ذات مدلولات واسعة، واستعمالات كثيرة، ويبقى الاطمئنان بذلك التعليل .

وقد لفت نظري الأستاذ / محمد بن عبدالله بن حُمَيّد رئيس النادي الأدبي في أبها إذ نشر في ( المجلة العربية ) [25] كلمة استوضح فيها عما ورد في كتاب ( كنوز مدينة بقليس ) [26] تأليف وندل قيلبس منسوباً إلى سفر ( أشعيا ) من كتاب ( العهد القديم ) من ( أن الهجن من مدينة إيفا ( أبها ) ستأتي جميعها من سبإ، وستجلب الذهب والبخور ) إلى آخر ما ذكر، ويستوضح الأستاذ محمد : هل حقًّا كانت أبها تعرف باسم ( إيفا ) في الزمن القديم ؟ وهل كانت مَعْبراً للرحلات التجارية وقت ازدهار حضارة سبإ ومعين وما تلاها من عصور جاهلية قبل الإسلام ؟

ومع أنني ليس لي من الاطلاع على الكتاب الذي نقل عنه وندل فيلبس النصَّ ما يمكنني من أن تكون إجابتي مبنية على أسس قوية من المعرفة إلا أن تلك العبارة – كما يظهر قد تصرف المعرب فيها تصرفاً زاد اضطرابها – ونصها – كما في ( سفر اشعيا ) – 60/6 – : تغطيك كثرة الجمال – بكران – مديان وعيفة، كلها تأتي من شبا تحمل ذهباً ولباناً . ومع غموض العبارة إلا أن الاسم اتضح مغايراً لما في تعريب كلام وندل فيلبس، فهو في مصدره ( عيفة ) لا ( إيفا ) ثم قرأت في ( سفر التكوين ) نصًّا صريحاً هو كما في ( الاصحاح ) – 25/4 – حيث ذكر أبناء مديان وأنهم : عيفة وعفر وحنوك وأبيداع والدعة . وهذا النص يبطل ما توهمه ( فيلبس ) من أن ( عيفة ) هي أبها، وبصرف النظر عن التحريف الواقع في أسفار التوراة جميعها إلا أن ( أبها ) لا تقع في أحد الطرق الموصلة إلى شمال الجزيرة من بلاد سبإ، لارتفاعها عن الطريق العام المار بِجُرَش، وعن الطريق التهامي – وقد فصلت هذا في كلمة نشرت في إحدى الصحف، [ وانظر ( العرب ) 525 ] وما أريد الوصول إليه هو أن اسم ( أبها ) من الأسماء التي لم يتضح لي معناها .

2– تُنْغَةُ ( في منطقة حائل ) :-

يصف متقدمو العلماء هذه المنطقة في العهود السابقة لتدوين التاريخ على ما وصل إليهم من الأخبار المتناقلة بأنها بلاد واسعة، كثيرة المياه والشجر والنخيل والريف، تسكنها بقايا من أمم بائدة كصحار وجديس [27]، فانتقلت إليها قبيلة طيء اليمنية القحطانية من وادي طرِيب – في منطقة عسير – فاستوطنتها قبل ظهور الإسلام .

وقد بقيت تلك القبيلة في هذه البلاد، حتى العصر الحاضر، حيث عرفت قديماً باسم جبلي طيء، وحديثاً بـ ( جبل شَمَّر ) وشمر اسم فرع صغير من فروع القبيلة طغى على أكثر الفروع .

ومن أبرز مواطن الاستقرار المعروفة قديماً في هذه المنطقة ( تُنْغَة ) – بعد التاء المثناة الفوقية المضمومة نون ساكنة فغين معجمة مفتوحة فهاء تنطق تاء في حالة الوصل –. وقد عرفت تنغة بأن حاتماً الطائي قُبر فيها، وكانت تقع في موضع حصين من جبل أجإ، فقد أراد المحرق أحد ملوك الشام من آل جفنة أن يدين له حاتم فامتنع، فأقسم الملك: لَيَقْدِمَنَّ عليه قريته، ثم ليجللن مواسلاً – الرِّبَطَ [28] مصبوغات بالزيت، ثم ليشعلنَّها بالنار، ولكنه حُذِّر من ذلك وقيل له : إنْ تقدم القريةَ تهلِكْ، فانصرف [29] وقد عرفت باسم القُرَيَّة فقال / امرؤ القيس :-

تَبِيتُ لبونِي بالْقُرَيَّةِ أُمَّناً
= وأَسْرَحُهَا غِبًّا بِأَكْنَافِ حَائِلِ

وكذا في صدر الإسلام، فقد اعترض أهلها للحسين بن علي أثناء توجهه إلى العراق [30]، فعرضوا عليه أن يقيم عندهم، وقال له الطَّرِمَّاحُ بن عَدِي الطائي : إنْ أردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به فَسِرْ حتى أُنْزِلَكَ مَنَاعِ جَبَلَنا الذي يُدْعى أَجَإ امتنعنا به والله من ملوك غسان وحمير، ومن النعمان بن المنذر، ومن الأسود والأحمر، والله إن دخل علينا ذلٌّ قط، فأسير معك حتى أنزلك القُرَيَّة، ثم أَقِمْ فينا ما بدا لك، فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائيٍّ يضربون بين يديك بأسيافهم، والله لا يوصل إليك .

ويظهر أن ( القرية ) أصبح علماً بدل ( تنغة ) لغرابة هذا الاسم، وصعوبة نطقه، كما في شعر امريء القيس، ولقربه من الوادي الذي كان معروفاً باسم حائل كان يضاف إليه، لتمييزه عن قريات أخرى متعددة، ويبقى البحث في أصل الاسم القديم وهذا ما لم يتعرض له من عرفتُ من المتقدمين كنصر بن عبدالرحمن الاسكندري – مصدر ياقوت ومن جاء بعده كصاحب ( تاج العروس ) بل وقع من بعضهم اختلافٌ في ضبطه، هل هو بالغين المعجمة أم بالعين المهملة، وصحح صاحب ( التاج ) الأول، وخطأ صاحب ( القاموس ) واطلاق الاسم على موضع في حضرموت، ثم نسبة ذلك الموضع إلى شخص ذي عقب معروف النسبة [31] يوحي بأنه قد يكون ذَا صلة بلغةِ اليمنيين القدماء الذين ترجع إليهم قبيلة طيء في عصورها القديمة، وهناك أسماء مواضع في هذه المنطقة لا يرتاح الباحث لما يورده اللغويون عن اشتقاقها مثل : مَوْقَق، وغَضْوَر، ورَمَّان، وأجأ، وغيرها .

3– تيماء :-

ويحاول اللغويون إيجادَ صلة بين اسم تيماء البلدة هذه وبين مادة ( ت.ى.م ) في اللغة العربية الفصيحة، فيقول الأزهري : المتيَّمُ المضلل، ومنه قيل للفلاة تيماء لأنها يُضَلُّ فيها، وقال الأصمعي : التيماء الأرض التي لا ماء فيها، وقد يكون لهذا أصل من الناحية اللغوية، ولكن البلدة كانت معروفة قبل بَدْءِ تدوين اللغة العربية بأحقاب طويلة، فقد ذكرت في ( التوراة ) [32] وفي أخبار حروب موسى – عليه السلام – للعمالقة [33] ولكن الذي لا شك فيه أن نصوص التوراة التي وصلت إلينا محرقة، ولا يمكن الاطمئنان إلا إلى ما ثبتت لدينا صحته من قبل علماء ذوي اختصاص بالدراسات الأثرية واللغوية .

4– جُرَشُ ( قاعدة بلاد الأزد في صدر الإسلام ) :-

وفي منطقة عسير عرفت هذه المدينة في العهد الجاهلي ثم في صدر الإسلام، وصفها متقدمو المؤرخين بأنها مدينة عظيمة حصينة وولاية واسعة [34] ذات صناعة وزراعة، فقد أرسل أهل الطائف إليها من يتعلم صناعة المجانيق حين علموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم عزم على غزوهم، وعُرِف بها نوع من أجود أنواع العنب يدعى ( الجُرشي ) وبجودة أُدُمِها .

وقد فتحت مدينة جرش في العهد النبويِّ صُلْحاً، وقدم وفد من أهلها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا فقال لهم – فيما يرويه ابن سعد وغيره من أصحاب السير – : ( مرحباً بكم أحسن الناس وجوهاً، وأصدقه لقاء، وأطيبه كلاماً، وأعظمه أمانة، أنتم مني وأنا منكم ) وجعل شعارهم ( مبروراً ) وحمى لهم حول قريتهم . وبقيت معروفة في صدر الإسلام، حيث نسب إليها – في من نسب – السيدة الخيزران، زوجة الخليفة المهدي وأم ولده وصاحبة الآثار العمرانية في طريق الحج العراقي، وفي مكة حيث عمرت دار الأرقم التي كان يجتمع فيها المسلمون بالرسول صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام، فعرفت الدار بها، وتوفيت سنة 173هـ [35]

وبقيت المدينة معروفة حتى القرن الرابع الهجري حيث وصفها الهمداني [36] بأنها كورة نجد العليا، واعتبرها قاعدة لما حولها من الأودية والقرى، يضيفها في التحديد إليها، ولكنها اختفت من الوجود في عصر متأخر مجهول، وانتقل سكانها المعروفون باسم ( العواسج ) إلى ثِنْيٍ من أثناء وادِي بيشة عرف باسم ( وادي ابن هشبل )

ويرى أحد المتأخرين من الباحثين [37] أن زوال تلك المدينة بسبب ثورة بركان كان بقربها يعرب باسم ( حَمُومة ) حيث تبدو صخور تلك الأكمة سوداء، كأنها مصهورة، ومن ذلك اشتق اسم ( حمومة ) فهو كما قال الهمداني [38] : وجُرَشُ في قاع ولها أشرافٌ غربية منها تنحدر مياهها في مسيل يمر في شرقيها، وبينها وبين حَمومة ناصية تسمى الأكمة السوداء – حمومة وحمة وكولة –.

ولا تزال آثار جرش معروفة جنوب شرق مدينة خميس مشيط بنحو خمسة عشر كيلاً [39]، أما اسم جُرَش الذي عُرِفتْ به المدينةُ فليس من المستبعد أن يكون اسم أول من سكنها، ككثير من المدن والأودية الواقعة في جنوب الجزيرة .

ولكن الطريف في ذلك ما جاء في كتاب ( أنساب البلدان ) لهشام بن الكلبي – كما نقل ياقوت [40] : جرش قبائل من أفناء الناس تَجَرَّشُوا، وكان الذي جرَّشَهُمْ رجل من حِمْيَرَ يقال له زيد بن أسلم، خرج بثور له عليه حمل شعير، في يوم شديد الحر، فشرد الثور، فطلبه فاشتد تعبه، فحلف لئن ظفر به ليذبحه، ثم ليجرشَنَّ الشعيرَ ولَيَدْعُوَنَّ على لحمه، فأدركه بذات القصص عند قلعة جراش، وكل من أجابه وأكل معه يومئذ كان جرشياً !! ومع سذاجة هذا التعليل فإنه لا ينطبق على الواقع من حيث موقع جُرَش، فذات القصص – وهي جبال لا تزال معروفة تبعد عن جُرش جنوباً شرقياً بما يزيد على مئة كيل، وهي في أعالي وادي طريب [41]، ولكن أبا المنذر – والله يعفو عنه – يأتي بالعجائب الغرائب – ولعل منها ما ذكر في تعليل جَرَش – بفتح الجيم – الموضع الأثري القديم في الشام ( الأردن ) فقد نسبه لرجل يدعى جرش بن عبدالله، وصل نسبه بقبيلته كلب .

5– حَجْرُ ( قاعدة بلاد اليمامة ) :-

المدينة التي قامت الرياض على انقاضها [42]، لقد كانت من أقدم المدن في قلب الجزيرة، وكانت تعرف باسم الخضراء خضراء حَجْرٍ، وهي حاضرة قبيلة طَسْمٍ، والخِضْرِمَةُ في الْخَرْجِ حاضرة جَدِيْسَ [43]، والقبيلتان من الأمم البائدة .

وبعد أن خلفتهما قبيلة بني حنيفة بقيت حَجْرُ قصبةَ اليمامة، ثم أصبحت في صدر الإسلام سُرَّة اليمامة، ومنزل السلطان والجماعة، ومنبرها أحد المنابر الأولية : مكة والمدينة واليمن ودمشق واليمامة والبحرين والكوفة، وجلُّ أهلها بنو عبيد من بني حنيفة، وبها من كل القبائل [44].

ويعلل متقدمو العلماء اسم حَجْرٍ بأن عُبَيْدَ بن ثعلبة سيدَ بني حنيفة عثر على القصور والحصون، وحدائق الأشجار والنخيل، خالية بعد فناء طَسْم وجَدِيْسَ، فاحتجر ثلاثين قصراً، وثلاثين حديقة، وسماها حَجْراً ومنع النزول فيها إلا لمن كان من ولده لصلبه – في قصة طويلة معروفة [45] – إلا أن هذا التعليل أقرب إلى الخرافة منه إلى الواقع، فاسم ( حجر ) كان معروفاً في عهد طسم قبل سكنى بني حنيفة لهذه البلاد، الذي لا يسبق زمن ظهور الإسلام بأكثر من قرنين – في القرن الخامس الميلادي [46]، وكلمة ( هجر ) على ما ذكر بعض العلماء يقصد بها البلدة بلغة العرب العاربة فمنها هجر البحرين وهجر نجران، وهجر جازان [47]، وكل بلد تمتاره البادية فهو هجرهم [48]، والهاء والحاء حرفان حَلْقِيَّان يتعاقبان في كثير من الكلمات، وقد يقال : بأن المتكلم يؤثر التسهيل عند الإبدال وحرف الهاء في النطق أسهل من حرف الحاء، وهذا صحيح ولكن ليس قاعدة مطردة .

6– خيبر :-

اسم الواحة المعروفة الواقعة في الحرة المعروفة بها في الشمال الشرقي من المدينة المنورة، وقد اختلف المتقدمون في تعليل هذا الاسم فمنهم من يرى اشتقاقه من قولهم أرض خبرة أي طيبة الطين سهلة [49]، ومنهم من زعم أنه اسم رجل من العماليق هو أول من نزل هذه البلاد، وهو خيبر بن قانية بن عبيل بن مهلائل بن ارم [50]، وهناك من يرى أن الكلمة عبرية تعني الحصن، ولاشتمال هذه البلاد على حصون سموها ( خيابر ) واحدها خيبر، ويؤيد هذا بعض الباحثين في عصرنا .

وأرى أن اسم ( خيبر ) من الأسماء الموغلة في القدم، ولما جهل اللغويون معناه تكلفوا لتأويله مختلفَ الأقاويل كعادتهم في أسماء المواضع القديمة، أما القول بأنه مأخوذ من لسان اليهود، وأن الخيابر فيه هي الحصون، فمن المعروف أن بلاد خيبر كانت معروفة قبل سكنى اليهود، ويمكن القول بأن كلمة ( خيبر ) مما وافقت فيه اللغة العبرية اللغة العربية، أو أن لهذه الكلمة من المعاني ما لم يدون في الكتب اللغوية التي وصلت إلينا كأسماء مواضع أخرى في هذه المنطقة، منها ما حاول المتقدمون تعليله، ومنها ما اعتبروه جامِداً مثل : ( فدك ) الواحة الواقعة شرق خيبر في حرَّتها، والمعروفة الآن باسم ( الحائط ) و ( يَدِيع ) الواحة الواقعة جنوب ( فدك ) والتي تعرف باسم ( الحُوَيِّط ) و ( ضَرْغد ) البلد الواقع شرق ( فدك ) وأكثر أسماء حصون خيبر القديمة .

7– دَوْمة الجندل ( قاعدة بلاد الجوف قديماً ) :-

اسم قاعدة إقليم الجوف حتى عام 1370هـ – وينطق بضم الدال وفتحها، وقد يقال دوماء الجندل [51]، وأصل هذا ما ورد عن ابن الكلبي : لما كثر ولد إسماعيل – عليه السلام – بتهامة خرج دَوماءُ بن إسماعيل حتى نزل موضع دومة، وبنى فيه حصناً، فقيل: دوماء، ونسب الحصن إليه مع الإختلاف في اسم ابن إسماعيل هذا هل هو دوماء أو دوم، أو دماً . ولكن الحمويَّ وقد ذكر كلام ابن الكلبي يورد خبراً يدل على تأخر حدوث التسمية عن عصر إسماعيل فيذكر أنه الأكيدر الملك الكندي كان منزله أولاً بالحيرة – في العراق – وكان يزور أخواله من قبيلة كلب، ويخرج معهم إلى الصيد، فعثروا على مدينة متهدمة لم يبق إلاَّ حيطانها، وهي مبنية بالجندل – الحجر – فأعادُوا بناءها، وغرسوا بها الزيتون وغيره، وسموها دومة الجندل، تفريقاً بينها وبين دومة الحيرة، والأكيدر أدرك ظهور الإسلام، وأجلاه عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – إلى الحيرة، وياقوت نفسه فاته أنه ذكر أنَّ إنشاء دومة الحيرة كان بعد إجلاء الأكيدر من دومة الجندل، إذ قال : دوماً بالكوفة، والنجف محلها، ويقال : اسمها دومة لأن عمر لما أجلى أكيدر دومة – صاحب دومة الجندل – قدم الحيرة فبنى بها حصناً، وسماه دومة أيضاً . ثم ذكر دومةَ من قرى غُوطة دمشق، المعروفة الآن والتي ينطق اسمها ( دوماً ) [52].

والواقع أن دومة الجندل من أقدم المدن عهداً، فقد ورد اسمها في ( التوراة ) [53] وذكرت في الكتابات الأشورية باسم ( ادومانو ) وأن الملك الأشوري سَنْحَرِيب استولى عليها، وأسر ملكتها سنة 688 [54] قبل الميلاد، ولقدم هذه المدينة تخبط المتقدمون في تعليل اسمها كأمثالها . وبقربها مواضع لا يجد الباحث لأسمائها في المؤلفات اللغوية ما يطمئن إليه في فهمها، وهي بدون شك مقتبسة من جذور لغوية لا تزال مجهولة .

ومنها سكاكة – اسم المدينة الثانية التي أصبحت قاعدة المنطقة منذ عام 1370هـ .

وقارا – التي تنطق الآن القارة – ويطلق الاسم على بلدة في سورية .

وزعبل : اسم تل عظيم على مقربة من مدينة سكاكا – كان حصيناً، أو معبداً [55].

8– مكة المكرمة :-

البلدة التي قدسها الله بأن وضع فيها البيت العتيق، الذي جعل حجه أحدَ الأركان التي يقوم عليها الدين الإسلامي { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } [56] وشرفها بأن ذكرها في كتابه الكريم بأسماء متعددة، فلا غرو أن يحاول علماء اللغة – ما استطاعوا – في اختيار المعاني الملائمة لتلك الأسماء، بتأثير عواطف دينية سامية كقولهم :-

1 - سميت مكة : من المُكَاكَةِ وهي اللُّبُّ والمخ الذي وسط العظم، سميت لأنها وسط الدنيا، ولُبُّها، وخالصها .

2 - سميت مكة : لأنها تنقص الذنوب وتنفيها .

3 - سميت مكة : لأنها تهلك من ظلم فيها .

4 - سميت مكة : لأنهم يمتكُّون الماء فيها – أي يستخرجونه –.

5 - سميت مكة : لأنها تجذب الناس إليها، والملك الجذب .

6 - سميت مكة : لأنها تمكُّ الجبارين – أي تُذْهِبُ نخوتهم –.

7 - سميت مكة : لاِزْدحام الناس بها، من قولهم : امتكَّ الفصيلُ ضَرْعَ أُمِّهِ إذا مَصَّهُ مَصًّا شديداً .

8 - سميت مكة : لأن العرب تَمُكُّ عند الكعبة – أي تُصْفِرُ صَفِير المُكَّاءِ الطائر المعروف – مع تصفيق بالأيدي في الطواف .

9 - سميت مكة : لأنها بين جبلين مرتفعين عليها، وهي في هَبْطَةٍ شبه المَكُّوكِ – وهو إناء معروف –.

10 - سميت مكة : لأنه لا يفجر فيها أَحَدٌ إلاَّ بُكَّتْ عنقه، فكان يصبح وقد التوت . إلى أقوال أخرى لا تخرج عن هذه المعاني .

وللمعاصرين من الباحثين من المستشرقين وغيرهم حول هذا الاسم من الأقوال ماهو أقرب إلى الخيال، ولعل من أطرفها رأيٌ لكاتب عراقي في بحث له عن مكة بعنوان ( مكة وحمورابى ) [57] حيث حاول إيجاد صلة بين ( بكا BAGA ) إله بابلي كان معروفاً في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، ومنه أُخِذَ اسم الإله الكنعاني ( بَعْلَبَكَّ ) ثم يخلص إلى القول بأنه يخمن أن ( بك ) أطلق أولاً على مكان المعبود في مكة، ولما كانت أسماء المواضع تؤنث أضيفت إليه علامة التأنيث، فصار ( بكة )، ثم عرفت باسم مكة .

وكذلك اختلفوا في معنى اسم ( بكة ) من أسماء هذه المدينة الكريمة، ورد في القرآن الكريم { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ } [58] فبينما يرى بعض اللغويين أن الميم أبدلت باء، يرى آخرون تغايراً في المعنى بين الاسمين، ومن أمثلة الاختلاف :-

1 - سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة .

2 - بكة اسم لبطن مكة لأنهم يتباكَّوْنَ فيه – أي يزدحمون –.

3 - بكة موضع القرية، ومكة موضع البيت .

4 - بكة الكعبة والمسجد، ومكة ذُو طوَى، وهو بطن مكة المذكور في الآية الكريمة من سورة الفتح . ولعل أعدل الأقوال في هذا ما روي عن عالم مكة الإمام التابعي الجليل / مجاهد ابن جبر من أن الميم يتعاقبان، وبه قال الإمام اللغوي / ابن قتيبة [59] وغيره .

9– وَجُّ ( الطائف ) :-

هناك ترادف بين كلمتي ( وج ) و ( الطائف ) في نصوص المتقدمين، بينما المعروف الآن إطلاق اسم ( وج ) على الوادي الذي يخترق مدينة الطائف، منحدراً من المرتفعات الواقعة جنوب غرب المدينة حول قرية ( الوهط ) متجهاً صوب الشمال الشرقي حيث يُدْعَى أسفله ( العَرْج )، ثم يفيض في الأرض البراح . ومن ذلك الترادف قول ياقوت في ( معجم البلدان ) : الطائف هو وادي وَج، وهو بلاد ثقيف [60] وقوله – في موضع آخر –: في تفسير الخبر المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم [61] –: آخر وطأة لله يوم وج، وهو الطائف، وغزوة الطائف آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ولصاحب ( القاموس المحيط ) [62] حول هذا القول اعتراض ليس هذا محل ذكره .

ويتضح مما أورده متقدمو العلماء من أخبار عمران الطائف قدم تسمية الموضع باسم وج، لنسبة هذا الإسم إلى العمالقة – إحدى الأمم المجهول عصرها – بخلاف اسم الطائف المنسوب حدوثه لمن عاش قبيل الإسلام بزمن يسير[63].

فما أصل تسمية ذلك البلد ؟ يلجأ المتقدمون لبيان مثل هذا إلى ما يتناقله القصاصون من أخبار الأمم التي عاشت في الجزيرة في عصورها الأولى – ولا ملجأ لهم غير ذلك – فيجدون من الأسماء الشائعة بين تلك الأمم ما يتفق مع أسماء المواضع التي هم بحاجة إلى معرفة أصولها، فيرجعونها إليها، وليروح القاريء عن نفسه، هاهو أشهر أقوال رواة الأخبار منهم :-

سُمِّيَ وَجُّ ( الطائف ) بِوجِّ بن عبدالحق من العمالقة ( العماليق ) وهو أخو ( أجإ ) الذي سمي به جبل طيء، وهو من الأمم البائدة [64].

ولهذه الصلة بين اسم هذا الوادي الواقع في غرب الجزيرة وبين اسم ذلك الجبل المعروف الواقع في شمالها ما يربط الاسمين بأسماء مواضع أخرى هناك، لا يتورع ياقوت – أمطر الله على قبره شآبيب الرحمة والغفران – من نسبته إلى ( العلماء بأخبار العرب ) بدون تسمية أحد منهم، وهو لا يخرج عما هو معروف عن أبي المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي في أحد كتابيه ( اشتقاق البلدان ) أو ( أنساب البلدان ) : ذكر العلماء بأخبار العرب [65] أن أجأ سمي باسم رجل وسمي سملى باسم امرأة، وكان من خبرهما أن رجلاً من العماليق يقال له أجأ بن عبدالحي عشق امرأة من قومه يقال لها سلمى، فكانا يجتمعان في منزل العوجاء حاضنة سَلْمَى، حتى علم بها اخوة سلمى وهم الغميم والمضل وفدك وفائد والحدثان، فخافت سَلْمَى وهربت هي وأجا والعوجاء، وتبعهم اخوتها فلحقوا سلمى على الجبل المسمى سلمى فقتلوها هناك فسمي الجبل باسمها، ولحقوا العوجاء على هضبة بين الجبلين فقتلوها هناك فسمي المكان بها ولحقوا أجأ بالجبل المسمى بأجإ فقتلوه فيه فسمي به، وأنفوا أن يرجعوا إلى قومهم فسار كل واحد إلى مكان فأقام به فسمي ذلك المكان باسمه [66] – وتقدم الخبر –.

10– يَثْرب ( المدينة المنورة ) :-

من أسماء المدينة الشريفة طيبة الطيبة، الكثيرة الأسماء، مما يدل على شرف المسمى، وقد ورد في القرآن الكريم حكاية عن المنافقين في غزوة الأحزاب في التحريض على الانصراف عن القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين : { وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا } [67] ووردت آثار في النهي عن تسميتها بهذا الاسم [68].

ويختلف المتقدمون من اللغويين وغيرهم في معنى هذا الاسم وأن يتفقوا على قدمه، ونسبته إلى إحدى الأمم البائدة، ويحاول بعضهم اعتباره مشتقاً من مصدر ( ثرب ) أو ذا صلة به، فيورد ابن الأثير في ( النهاية ) : يثرب اسم مدينة النبي صلى الله عليه وسلم قديمة، فغيرها وسماها طيبة وطابة، كراهية التثريب، وهو اللوم والتعبير – انتهى . ويلمح ياقوت تكلف اللغويين وتمحُّلَهُمْ في محاولة تعليل الأسماء ومحاولة اشتقاقها من مصادر فيقول : ولو تكلف متكلف أن يقول في ( يثرب ) أنه ( يفعل ) من قولهم لا تثريب عليكم أي لا تعيير ولا عيب، ويقال أصل التثريب الافساد – إلى آخر ما ذكر – [69].

ولا شك بأن اسم ( يثرب ) من الأسماء الموغلة في القدم حتى جهل أصلها فعمد أولئك العلماء إلى القول بأن أول من سكن يثرب رجل من العمالقة [70] ( العماليق ) وقيل من أبناء إرم – ( الآراميين ) هو يثرب بن قانية بن مهلائل بن إرم ابن سام بن نوح – وذلك بعد تفرق أبناء نوح .

ومن الطريف أن يحاول ابن الكلبي – فيما يروي عن شيخه الشرقي بن القُطَامي – إيجاد صلة قرابة بين يثرب الارمي وبين مواضع تقع في طريق الحج في نجد [71] فيقول : زرود، والشقرة والربذة بنات يثرب بن قانية بن مهلائل بن رخام بن عبيل أخي عوض بن إرم بن سام بن نوح – على تباعد تلك المواضع .

فزرود – من المناهل المعروفة وهي واقعة في الجانب الغربي من الدهناء شرق بلدة الأَجْفُرِ بمنطقة حائل [72] ( بقرب خط الطول : 18/43° وخط العرض : 50/27° )

والشقرة – وهي أيضاً معروفة كانت من المناهل فأصبحت الآن قرية تقع غرب الحناكية ( نخل قديماً ) بنحو ثلاثين كيلاً، ووادي الشقرة يجتمع بوادي الحناكية في حَضَوْضَا [73].
والرَّبَذَة : الموضع الأثري المعروف في عالية نجد [74].

ومَلْمَحُ ابن الكلبي – أو شيخه – في محاولته تلك قد يكون مبنياً على إدراك كون بني ارم ( الآراميين ) قد انتشروا في البلاد من أعلاها إلى أسفلها، قبل وجود القبائل العربية المعروفة أخيراً، مع جهل زمانهم وانفرادهم بلغة خاصة، منها أسماء هذه المواضع التي يحمل الجهل بمعانيها على اعتبارها أسماء جامدة، والملاحظ أن المواضع كثيراً ما تضاف إلى سكانها، ومن ثم تعلق بها أسماء أولئك السكان، وليس معنى هذا مطابقة قول ابن الكلبي – أو غيره من المتقدمين – في تعليل كل الأسماء القديمة للواقع، ولكنه محاولة لتوجيه آراء أولئك الأجلة من العلماء الذين لا يجد الباحث في هذه النواحي سوى تعليلاتهم، حتى يفتح العلم آفاقاً أخرى من المعرفة . منقول مع خالص التحية وأطيب الأمنيات وأنتم سالمون وغانمون والسلام .

lion1430
14 - 08 - 2009, 13:40
مشكور وما قصرت ولا هنت

خيَّال الغلباء
14 - 08 - 2009, 19:34
الأسد جزاك الله خيراً ولا هنت

جعد الوبر
14 - 08 - 2009, 22:47
مشكور وما قصرت ولا هنت

عز الهواشم
15 - 08 - 2009, 03:16
مقتطف جيد جدا

ابحرنا معه الى اماكن ومدن بعيده


جزاك الله خيرا على هذا النقل المفيد

الاضجم
15 - 08 - 2009, 13:07
بسم الله الرحمن الرحيم

أسماء بعض المدن العربية وأسباب تسميتها لعلامة الحزيرة الشيخ / حمد الجاسر رحمه الله وأسكنه فسيح جناته :-

كانت ( سياحةً ) ممتعةً ذِهْناً وثقافةً، في كتاب حافل بالمفيد الطَّريف من جوانب المعرفة العامة، فلقد حرص / ياقوت بن عبدالله الحموي المتوفي سنة 626هـ ( 1228م ) أن يودع كتابه ( معجم البلدان) خلاصة ما اطلع عليه في مؤلفات من سبقه من العلماء، مما يتعلق بالبلدان والجبال والأودية والقرى والمحال والبحار والأنهار والأصنام وغيرها، فجمع من تلك المؤلفات ما كان مشتتاً، وأضاف إليها ما كان مهملاً، حتى أصبح هذا الكتاب ( أَوْحَدَ في بابه ) – كما وصفه مؤلفه [1].

وحلَّتِ ( الدورة الرابعة والخمسون ) من دورات المؤتمر السنوي لمجمع اللغة العربية، فكانت مناسبةً طيبةً أتاحتْ لي معاودة تتبع عدد من أسماء المواضع التي ورد ذكرها فيما سيعرض في تلك الدورة من مواد ( المعجم الكبير )، وهو معجم شرع المجمع بتأليفه منذ أكثر من نصف قرن، وأصدر عنه مجلدين ضخمين، بلغ فيهما إلى حرف الحاء، وهيأ للعرض في جلسة يوم الأحد السابع عشر من شهر رجب 1408هـ ( 6 آذار سنة 1988م ) من مواد ذلك الحرف من ( ح.د.ب ) إلى آخر مادة ( ح.ذ.ن ) في نحو عشرين ومئة صفحة، ومن بينها أعلام من أسماء القبائل والأشخاص والمواضع مِمَّا جُلُّهُ – إن لم يكن كله – ذو ارتباطٍ وثيق بهذه البلاد الكريمة التي منها انبثق نور الهداية، فأضاء أقطار العالم، حتى انتشر فيها العلم والعدل والهدى .

كان من بين أسماء المواضع التي وردتْ في تلك المواد : ( حَدَد ) الاسم القديم للجبل المطل على بلدة تيماء من الجنوب الغربي، المعروف الآن باسم ( غُنيم ) وكان مما قرأتُ عنه في أحد المؤلفات أنه مذكور في ( التوراة ) مقروناً بتيماء، باعتبارهما من أبناء إسماعيل [2] فحفزني هذا لمحاولة معرفة الطريقة التي سار عليها العلماء في تعليل أسماء المواضع القديمة التي سبقتْ تدوينَ اللغة العربية – في القرن الثالث الهجري فيما بعده – وهي التي يُعَبَّرُ عنها بأنها جامدة، أو مرتجلة – أي غير مشتقة، ولا شك أن ( معجم البلدان ) من أحفل المؤلفات وأشملها في هذا الباب، وقد جعل مؤلفه هذا الأمر نُصب عينيه منذ أن شرع في تأليف كتابه، فنص في مقدمته أنه ذكر اشتقاق الاسم إن كان عربياً، ومعناه – إن أحاط به – إن كان أعجمياً – فكان أن أمضيتها سويعاتٍ مفرقةً، في تصفح الصفحات الكثيرة في أجزائه الأربعة، حتى انتهتْ بي سياحتي إلى قناعةٍ بأن هذا الجانب من جوانب الدراسات الجغرافية المتعلق بتعليل أسماء المواضع القديمة لا يصحُّ الوقوف فيه عند ما خلفه لنا سلفنا الصالح من متقدمي العلماء، بل لا يزال في حاجة إلى دراساتٍ أكثر عمقاً، وأوسع أفقاً، فمجالات المعرفة قد اتسعت، وآفاق العلوم أصبحت غير محدودة بزمان أو مكان، فهي تزداد وتتجدد في كل لحظة . وأولئك العلماء – أسبغ الله على أجداثهم شآبيب العفو والرضوان – قد قدموا لنا ما استطاعوا تقديمه، من ضروب المعرفة التي أدركوها، فاستحقوا من الله عظيم الأجر، ومنا الاعتراف بفضل السبق مع إزجاء وافر الشكر .

ولقد اتضح لي أن مؤلف ( المعجم) – مع كثرة مصادره وتنوعها، مما سرد أسماء أكثرها في مقدمته، وذكر غيرها عند الرجوع إليه – قد بلغتْ به الثقة بابن الكلبي درجةً حملته على اعتماد آرائه أساساً في تعليل إطلاق الأسماء القديمة على مواضعها المعروفة، مع علمه بمنزلته عند علماء الحديث وغيرهم من مشاهير علماء عصره، ويبدو هذا جلياً في الدفاع عنه – ما وجد إلى ذلك سبيلاً – كقوله بعد إيراد كلام له [3] : ولله دَرُّهُ ما تنازع العلماء في شيء من أمور العرب إلا وكان قولُه أقوى حجةً، وهو مع ذلك مظلوم، وبالقوارص مكلوم . وقوله [4] : قال ابن الكلبي : إنما سمي دَيْرُ الجماجم لأن بني تميم وذبيان لما واقعت بني عامر، وانتصرت بنو عامر، وكثر القتلى في بني تميم، بنوا بجماجمهم هذا الدير، شكراً على ظفرهم – وهذا عندي بعيد من الصواب – وهو مَقُولٌ على ابن الكلبي، وليس يصح عنه، فإنه كان أهدى إلى الصواب من غيره في هذا الباب، لأن وقعة بني عامر وبني تميم وذبيان كانت بشعب جبلة، وهو بأرض نجدٍ وليس بالكوفة . انتهى .

وياقوت أجلُّ من أن يجهل أن ابن الكلبي كغيره من العلماء ليس معصوماً من الخطإ، وقد نقل عنه من ذلك أشياء كثيرة، كَعَدِّهِ رُهَاطَ – الوادي القريب من مكة – في بطن ينبع، وزعمه أنَّ الحمى مضافٌ إلى جُرَشَ الذي في الشام، لا جَرَش [5]، وغير ذلك مما ليس هذا موضع بسطه، ومع هذا فلا شك أن هشام ابن محمد بن السائب الكلبي ( 000/204 ) من أوسع متقدمي العلماء معرفةً في كل ما يتعلق بأحوال العرب قبل الإسلام، وله في ذلك مؤلفات تُعَدُّ أَهَمَّ ما ألف في موضوعها، ولولاها لفقد الباحثون أسساً لدراسات كثيرة من تلك الأحوال ككتاب ( الأصنام) وكتاب ( الخيل ) وغيرهما مما يقارب مئة وخمسين مؤلفاً، وهو – بدون شك – إمام علم النسب بلا منازع، وعلى مؤلفاته المعوَّلُ في هذا العلم، ومن أهمها كتابا ( جمهرة النسب) و ( افتراق العرب ) [6].

أما ما يتعلق بالبلدان فقد اطلع ياقوت على كتابين له عنها هما : ( اشتقاق البلدان ) عَدَّهُ من مصادره في مقدمة كتابه – و ( أنساب البلدان ) نقل كثيراً عن نسخة منه بخط أحد مشاهير العلماء [7]، وإن لم يصرح بمواضع النقل، وهو فيما نقل من الكتابين لا يميز بينهما إلا قليلاً .

ومعلومات ابن الكلبي مستمدة من روافد متعددة، ما يتعلق بأنساب العرب يظهر أنه اعتمد على مؤلفات أبيه محمد بن السائب المتوفي سنة 146، مع ما أضاف إليها مما وجد مسجلاً، أو تلقَّاه بالسماع عمن عاصرهم، وما يتعلق بالبلدان يعول كثيراً على الشرقي بن القُطَامِيَّ ( الوليد بن الحصين، المتوفي في منتصف القرن الثاني ) وهذا الرجل كانت له حظوة لدى الخليفة المنصور، بحيث كان يبعثه إلى بعض ملوك [8]، وقد أسند إليه تعليم ابنه المهدي الأدب، وهو من قبيلة كلب .

وقد أكثر ابن الكلبي النقل عن الشرقي مصرحاً باسمه [9]، كما نقل عن أبيه محمد بن السائب نصاً يظهر أنه من ( التوراة ) قائلاً : أخبرني أبي قال [10] : رومي وصقلب وأرميني وافرنجي إخوة، وهم بنو لنطي ... بن يونان بن يافث، سكن كل واحد منهم بقعة من الأرض فسميت به . من هذا النص وأمثاله مما ورد في ( التوراة ) كما في الكلام على أبناء اسماعيل بعد ذكرهم قال : ( هذه أسماؤهم بديارهم وحصونهم ) – وَجَدَ ابنُ الكلبي المجالَ أمامه واسعاً لنسبة كثير من أسماء المواضع إلى شخص ورد له ذكر في الأخبار القديمة المدونة – كالتوراة وغيرها – أو المتداولة بين الأخباريين عن الأمم التي لا تاريخ لها . وابن الكلبي على درجة من الذكاء، ومن سعة الاطلاع، مكَّنَاهُ أن يضع – غالباً – كل اسم فيما يناسب له من المواضع، وأن يحاول ربطَ تلك الأسماء ربطاً يتفق مع تقاربها في مواضعها، ووفق ورودها في النصوص أو الأخبار التي اعتمد عليها .

ويظهر من النصوص التي نقلها ياقوت عن كتابيه في البلدان أن يسير في تأويل أسمائها في اتجاهات خمسة :-

1– اعتماده على نصوص قديمة – كالتوراة – وهو حينما يسلك هذا الاتجاه يسير سيراً متماسكاً، وإنْ لم يكن مستقيماً دائماً، ويتضح هذا في نظرته إلى أسماء المواضع الأعجمية الواقعة في شرق المعمور من العالم، فهو يراها منقولة عن أسماء أشخاص يرجعون إلى أصل واحد، ممن عاش في تلك المواضع، بل قد يحاول الربط بين اسمي موضعين متباعدين، زاعماً أنهما سُمِّيَا بشخصين أخوين، وأكتفي بسرد أسماء أورد ياقوت كلامه عنها في ( المعجم ) وترتيبه يغني عن الإحالة إلى مواضعها : أرَّان – في أرمينية – وأصبهان، وجرزان، وجيلان، والرِّيّ، والسُّوس في خوزستان – والصين، وفارس، وكرمان، وموقان، وهمذان – هاؤلاء كلهم يجمعهم نسب واحد، ويرجعون إلى أصل واحد هو يافث بن نوح، ومعروف ما ورد في ( التوراة ) عن انحصار سكان العالم بأبناء نوح الثلاثة : سَامٍ وحامٍ ويافثٍ .

وهناك أسماء مواضع واقعة في أطراف الجزيرة ونواحي العراق والشام، ومنها ما له ذكر في ( التوراة ) أو في شروحها، مثل آمد وأيلة والبلقاء، ودَومة الجندل، وعَدَن، وعُمَان – بضم العين وتخفيف الميم – وهِيْت، وتلك البلاد انتشر فيها أبناء إبراهيم الخليل، وإذن فتلك أسماء أشخاص منهم، سميت بها تلك المواضع، ودمشق سميت بدمشق بن قالي المتصل النسب بسام بن نوح الجد الأعلى لإبراهيم، وهذا لا ينفي وجود من لا ينتمي إلى إبراهيم قد عاش في هذه البلاد، كصيدون وهو من أبناء كنعان بن حام، وبه سميت صيداء، أما غزة التي سميت بها المدينة المعروفة فهي امرأة صور، الذي بنى مدينة صور، ولكن الذي لم يتضح ملمح ابن الكلبي فيه هو قوله عن ( فلسطين ) : سميت بفليشين .. من بني يافث بن نوح، ثم عُرِّبَتْ، فلماذا نسب هذا الموضع إلى أحد بني يافث .

هذا وأمثاله – مما لا يتسع المجال لذكره – مما تأثر به ابن الكلبي بما عَرَفَ أو نقل له عن ( التوراة)

2– أما ما له صلة بأخبار القصَّاصين من أسماء المواضع مما يتعلق بتاريخ الأمم التي عاشت في الجزيرة ثم بادَتْ كالآراميين ( بني إرم ) والعمالقة وغيرهم ممن لم تُدَوَّنْ سيرهم وأخبارهم فلابن الكلبي – فيما يرويه عن أبيه أو غيره من شيوخ – طريقة تدلُّ على خصب قريحة، لا تقف عن حدِّ نسبة الاسم إلى شخص ينتمي إلى إحدى تلك الأمم، بل تحاول إيجاد تقارب بين الأشخاص يتفق مع تقارب المواضع المسميات، كما في هذا الخبر الطريف الذي أورده صاحب كتاب ( المناسك ) [11] : هشام بن محمد عن أبيه قال : سُمِّيَ جَبَلاَ طَيِّءٍ أن سَلْمَى بنت حام بن حي، من بني عمليق عَلِقَها أجأْ بنُ عبدالحي من بني عمليق، وكان الرسول بينهما حاضنةً لها تدعى العوجاء، فهرب بها وبحاضنتها إلى موضع جبلي طيءٍ، وبالجبلين قوم من عاد، وكان لسلمى إخوة هم الغميم والمُضِلُّ وفَدَكُ وفائد، والحدثانُ، فخرجوا في طلبهم، فأخذوا سلمى فوضعوها على الجبل، وكُتِّفَ أَجَأ على الجبل الآخر، وقُطِعَتْ يدَا العوجاء ورجلاها فوضعت على جبل آخر، ثم قال الإخوة : والله لا نرجع إلى قومنا أبداً، فمضى الغَميم إلى ناحية الحجاز، وأقبل المضل إلى موضع القاع، واستنبط به بئراً وأقام حتى مات، ولحق فدك بموضع فدك فسمي به، ولحق فائد بالجبل الذي سمي فائد بطريق مكة [12]، ولحق الحدثان بحرَّة الحدثان فسميت هذه المواضع بهم، وهي منازل طيء بين الجبلين .

وكما نقل ياقوت [13] عنه عن الشرقي : الرَّبَذَةُ، وزَرُود والشُّقْرَةُ بنات يثرب بن قانية بن مهلائل بن إرم، ونقل عنه : سميت زبالة بزبالة بنت مسعر، امرأة من العمالقة نزلتها، وسميت طَمِيَّةُ بنت جام من بني عمليق، وأرض صُبْحٍ بناحية اليمامة سميت برجل من العماليق يقال له صبح .

3– ولملوك حِمْيَرَ قُبَيْلَ ظهور الإسلام من السيطرة والنفوذ بين سكان الجزيرة مَا دفع القصاصين ورواة الأخبار إلى التزيُّدِ فيما يروون عنهم، والاعتماد في كثير منه على الخيال، مما يجد الباحث نماذج منه في كثير من المؤلفات القديمة ككتاب ( أخبار عُبَيْدِ بن شَرْيَةَ الجرهمي ) وكتاب ( التيجان في ملوك حمير ) لابن هشام و ( شرح القصيدة الحميرية ) لَنَشْوان وغيرها، ولهذا فقد وجد ابن الكلبي مرتعاً خصباً في تلك الأخبار، ولكونه يَمُتُّ بنسبه إلى أصحابها إذْ هو كلبي قُضَاعيٌّ حميري، قحطاني، وله في الأخبار والحكايات صولات وجولات – فقد صادفت هوى في نفسه .

فسلطان أولئك امتدَّ – على ما يرى ابن الكلبي ومن شايعه من مؤرخي اليمن – إلى جميع أرجاء العالم، إذ إفريقس بن صيفي [14] – أحدهم – غَزَا المغرب فلما بلغ ( إفريقية ) تلك البلاد الواسعة أمر أن تُبْنَى هناك مدينة اشتق اسمها من اسمه، ثم نقل إليها الناس، فنسبت تلك الولاية الواسعة بأسرها إلى هذه المدينة، ولا ينسى الراوي أن يوشِّحَ هذا الخبر بما يُحَلِّيْهِ من الشعر، وأغرب من هذا أنه – عفا الله عنه – لم يَعْدِمْ من مشاهير اللغويين والعلماء من يقفو أثره في تهويل أمر أولئك الملوك، ويرى أن نفوذهم بلغ أقصى المعمورة شرقاً بحيث ذكر عن أحدهم وهو شَمِر بن إفريقس أنه بلغ بلاد الصين في غزواته فَنُسِبَتْ إليه مدينة ( سَمَرْقَنْدَ ) [15]، ولا ينسى ابن الكلبي قُوَّادَ أولئك الملوك من نسبة بعض المواضع إليهم فالسَّلْمَان الموضع المعروف في شرق الجزيرة في حدود العراق سُمِّيَ باسم سَلْمَانَ الحميري مَرَّ بهذا الموضع حين بُعِثَ في جيش كثير يريد شَمِر يرعش بن ناشر النعم ... الذي سمي به ( سمرقند ) لأنه كسر حائطها .

وقد يَعْمَدُ للإِغرابِ – حين يَتَصَدَّى لبيان معاني أسماءِ بعض المواضع التي لا يستعصي إدراكُ اشتقاقها على من لديه أدنى إلمام بالاشتقاق اللغوي، فيحاول إيجاد صلة بين تلك المواضع وبين ذوي المجد التليد من أولئك الملوك الصناديد .

إن قصة الملك الحميري الذي غزا المدينة، وعلم من أخبارها قرب بعث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فسار إلى مكة حاجًّا، قصة لها شهرتها عند عامة المؤرخين، وابن الكلبي شيخ الأخباريين، وهاهو يدلي بدلوه في تعليل أسماء مناهل الطريق ومنازله التي مرَّ بها التُّبَّعُ الحميري، ولا تزال معروفة فيما بين المدينتين الكريمتين، مما نقله ياقوت عن ( اشتقاق البلدان ) فيما يظهر :-

مَلَلُ : لما صدر تبع عن المدينة بعد قتال أهلها يريد مكة، نزل ملل، وقد أَعْيَا، فسماها مَلَل .

السيالة : مَرَّ بها تُبَّع – بعد رجوعه من قتال أهل المدينة – وواديها يسيل فسماها السيَالة .

الروحاء : نزل تُبَّعُ الرَّوْحَاءَ – بعد رجوعه من قتال أهل المدينة – فأقام بها وأراح، فسماها الروحاء .

الرُّوَيْثَةُ : نزل تُبَّع الرويثة، وقد أبطأ في مسيره، فسماها الرويثة، من راثَ يريث إذا أبطأ .

السقيا : لما رجع تبع .. فنزل السُّقْيَا يريد مكة، وقد عطش، فأصابه بها مطر، فسماها السقيا .

الْعَرْجُ : لما رجع تبع يريد مكة رأى دوابًّا تعرج، فسماها العرج .

قُدَيْدُ : نزل تُبع قديداً فهبَّتْ ريح قدَّتْ خيم أصحابه، فسمي قديداً .

إلى ما لا داعي للإطالة بذكره، وقد يحاول السير على هذه الطريقة حتى في الأسماء الأعجمية كأن يقول في اشتقاق اسم ( قِنَّسْرِيْنَ ) البلد الشامي –: مَرَّ ميسرة بن مسروق العبسي على هذه البلدة فقال ما هذه ؟ فسميت له بالرومية، فقال : والله لكأنها قِنُّ نَسْرٍ، فسميت قنسرين . واعْجَبْ للزمخشري – العالم اللغوي – حين يوجه كلام ابن الكلبي أو يحذُوْ حذوه، فيقول : نقل من القنسر بمعنى القنسري وهو الشيخ المسن وجمع، وأمثاله كثيرة !!

ألا يستظرف – بالظاء المعجمة – القارئ، وقد استطرف – بالطاء المهملة – تلك التأويلات الساذجة لأسماء المواضع – ما رُوي عن الشاعر المشهور كُثَيِّر بن عبدالرحمن الخزاعي ( كثير عزة ) ولعله أراد مجاراة ابن الكلبي في تعليل تلك الأسماء وأمثالها، قال [16] : سمي ( ملل ) لتململ الناس به، و ( الروحاء ) لكثرة أرواحها، و ( العرج ) لتعرُّجه، و ( السقيا ) لما سقوا من الماء العذب، و ( الجحفة ) لأن السيول قد جحفتها، ( وقديد ) لتقدد السيول بها، و ( مر ) لمرارة مائها .

4– أما نسبة المواضع لأناس ينتمون إلى القبائل التي عرفت بعد بدء تدوين التاريخ العربي من القحطانيين أو العدنانيين، فهي فيما نقل عن ابن الكلبي قليلة، لأنه يدرك الفوارق الزمنية بين معرفة تلك المواضع والزمن الذي عاش فيه أولئك الأشخاص، وقد لا يلحظ في كثير من الأحيان ما ذكره هو وغيره فيما يتعلق بمواقع سكنى القبائل في الجزيرة، كأن ينسب الرُّها – في الجزيرة الفراتية – لرجل يدعى الرُّها، يوصل نسبه بخمسة آباء إلى لَخْمٍ القبيلة القحطانية التي عُرِفَ انتشارُها فيما بين أطراف الشام الغربية إلى مصر [17]، وينسب صَنْدُودَاء في شرق الشام لامرأة تدعى بهذا الاسم هي ابنة لخم، فكأنَّ لَخْماً الذي تنسب إليه القبيلة استقر أول ما أستقر في هذه الجهة ولما تنتقل القبيلة من الجنوب كأخواتها من القبائل اليمنية القحطانية، وينسبُ جَبَلَ البِشْرِ إلى رجل عاش في القرن الأول الهجري كان خفيراً لفارس، فقتله خالد بن الوليد، وليس مُبَرَّأً من تأثير العاطفة القبلية، ولهذا فنسبته خناصرة – من أعمال حلب – لخناصرة بن عمرو الكلبي الذي وصفه بأنه ملك الشام، تدعو للتأمل .

إن ( الثَّعلبية ) الماء الذي كان معروفاً في شرقي الدهناء في طريق الحج في رأي هشام بن محمد منسوبٌ لرجل من بني دُوْدَان بن أسد يقال له ثعلبة استنبط ماءها – في قصة طريفة [18].

وجبل ( ثور ) في أسفل مكة المكرمة منسوب إلى ثور بن عبد مناة بن أُدِّ بن طابخة بن الياس بن مضر .

و ( هَجَرُ ) – الاسم الذي لا يزال يطلق على الأحساء – سميت عينُها بهجر بنت المكفف، من العرب المتعرية، وكان زوجها مُحَلَّمَ بنَ عبدالله، صاحب النهر الذي بالبحرين، يقال له نهر محلّم، وعين محلم [19].

و ( ضَرِيَّةُ ) الماء الذي أصبح قرية، في عالية نجد، سُمَّىَ بضرية بنت نزار، وهي أم عمران بن الحاف بن قضاعة، – والقاريء يدرك أن قبيلة كلب من قضاعة – أما الذي قد لا يدركه كل قاريء فهي المزية الخاصة بهذا الموضع عند الأخباريين، فقد رووا أن الله خلق جُؤَجُؤَ آدم من كثيب ضرية – ولعل هذا والله أعلم لنقاء تربة هذا الكثيب وصفائها من الشوائب !!

ويقرب من هذا قول صاحب ( معجم البلدان ) عن دَحْنا – أو دَجْنا الموضع المعروف بين مكة والطائف: دَحْنا أَرْضُ خلق الله منها آدم. ولعله تأثر بالحديث المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إن الله استخرج ذريَّة آدم من ظهره بِدَحنا – أو بنعمان الوادي القريب من دَحْنا – على ما ذكر الطبري في تفسير الآية الـ (172) من سورة الأعراف في تفسيره، وفي ذكر خلق آدم من تاريخه . ويبقى البحث عن وجه تخصيص هذا الموضوع بهذه المزِيَّة !!

5– ويُجُرُّ ذكر آدم للإشارة إلى رفع نسبة كثير من المواضع التي ينظر إليها نظرة احترام أو تقديس إلى أبي البشر، فجبل ( أبي قُبيس ) المطل على الكعبة المشرفة، كنَّاه آدم عليه السلام بهذه الكنية – فيما ذكر هشام – حين اقتبس منه هذه النار التي بأيدي الناس اليوم، من مرختين نزلتا من السماء على أبي قُبَيس، فاحتكَّتَا فَأَوْرَتَا ناراً، فاقتبس منها آدم .

ولا داعي للإطالة بذكر أمثلة من هذا القبيل، تتعلق بتعليل أسماء مِنَى، وجَمْعٍ ( مزدلفة ) وعرفة [20]، وأمثالها من الأمكنة التي لها منزلة في النفوس، مما كان مروياً عن هشام أو عن علماء ساروا على نهجه .

كما لا داعي للاسترسال في ذكر أقوال كثير من العلماء يظهر أنهم تأثروا بابن الكلبي أو من سار على نهجه أو أنهم اقتبسوا من مصادر ذات صلة بالكتب القديمة المحرفة كـ ( العهد القديم ) وغيره .

ومجمل القول أن المتتبع لأقوال الذين تصدَّوْا لتعليل أسماء الأماكن العربية من الأخباريين ومن سار على نهجهم من المؤرخين يجد ذلك من شاكلة ما سلف إيراده .

أراني قد أَطلتُ السياحة في هذا الكتاب القيم، فأبعدتُّ النَّجْعَةَ عما أردتُّ قصده، ولكن لا يفوتني أن أقرر بأن كلَّ ما ذكرته عن ابن الكلبي أو غيره من العلماء الذين ساروا على نهجه – وما أكثرهم !! على تلك الطريقة من تعليل أسماء الأمكنة القديمة، لم أَرِدْ منه إلا تنبيه الأذهان إلى ضرورة التعمق بدراسة معاني أسماء المدن والمواضع القديمة في هذا العصر، الذي توافرت فيه وسائل المعروفة، وتنوعت، وأصبح لعلم الآثار منزلته في الدراسات الجغرافية والتاريخية مما لم يتهيأ لأولئك العلماء .

وليس من شك بارتباط أسماء المواضع بساكنيها الأقدمين، ارتباطاً ذا أثر لاحظه المتقدمون، ولكنهم توسعوا فيه وبنوا كثيراً منه على استنتاجات قد لا نجد لها أساساً تاريخياً، ولا ينفي هذا أن جل أسماء الأعلام في اللغة العربية سواءاً كانت أسماء مواضع أو أسماء أشخاص ذات اشتقاق لغوي من مصادر عربية، لوحظ في وضعها اتصاف الشخص أو الموضع بصفة مشتقة من مصدر اسمه، وهذا من الأمور البدهية، كما أن كثيراً من المواضع سميت بأسماءِ سكانها سواءاً كانت قديمة أو حديثة، إلا أن أسماء المواضع القديمة حين يتجه لدراستها ذوو الاختصاص من علماء الآثار والتاريخ القديم واللغويين، لا شك أنهم سيضيفون إلى ما أُثِرَ عن متقدمي العلماء في هذا الجانب المهم ما يمد ثقافتنا بروافد جديدة تقوم على أسس صحيحة من المعرفة .

ولقد تمنيت قبل خمسة وثلاثين عاماً حين رأيت الأستاذ الشيخ عبدالله العلايلي في كتابه ( المعجم ) يتعرض لبعض تعليل أسماء المواضع بطريقة فيها من الجدة والطرافة ما ينأى بها عما عُرِفَ عن متقدمي العلماء تمنيت أن يتسع هذا الاتجاه فيقوم على أسس من الدراسات العميقة الشاملة التي لا ترتكز على الخيال فحسب، ومن أمثلة محاولة الشيخ العلايلي تعليل الأسماء قوله [21] : " واصل الْجَذْر ( ابَنَ ) تُرَّهِيٌّ ( ميثولوجي ) ومن البقايا الأثرية الدالة ( الأبانان ) وهما جبلان مُحَدَّدَا الرأس كالسِّنان، أحدهما أسود، والآخر أبيض، يمرُّ بينهما وادي الرُّمَةِ، وهو قاع عظيم، تنصب فيه جماعة أودية، وللعرب – كغيرهم كما هو معروف – بإجراء حكايات حول الأماكن والبقاع ذوات الصفة الفريدة، فيغلب في تقديري – من وراء هذه التسميات وتحليلها – أنَّ الجبلين يرمزان في الخيال العربي الأُسْطوري إلى الليل بالجبل الأسود، وإلى النهار بالجبل الأبيض، ومن بينهما وادي الرُّمَةِ الذي يرمز إلى مسرح الحياة، الماثل وشيكاً إلى مسرح صِنْوِهِ، تمشي الرمم فيه مَشْيَ السَّيْلِ، وكأن ( لَمرِّ الغداةِ وكَرِّ العشيِّ ) في تصور العربي شكلَ الطاحونة الرهيبة الدائرة بالموت على الحياة في غير انقطاع أو توقف . وهذا التصور نجدُ له نظيراً عند الإغريق في حكاية ربة الليل ". انتهى .

أنا حقًّا لا أرتاح إلى التوغل في الخيال بتلك الصورة التي عبر عنها الشيخ العلايلي، بل لا أرى للخيال مدخلاً للدراسات التاريخية والجغرافية، ولكنني أُعْجبت بهذا الاتجاه الجديد، لأنه يعبر عن شدة الحاجة إلى تغيير ما رسخ في الأذهان من معلومات تلقيناها عن اطمئنان وثقة، وحسن ظن بسلفنا الصالح دون الاتجاه للبحث عن حقائقها اتجاهاً لا يقصد منه هضم حق أولئك السلف ولا انتقاصهم .

وإنما يراد منها سلوك النهج العلمي الذي يفضي بالباحث إلى إدراك الحقائق الثابتة بيقينٍ واطمئنان، وإن كان أكثر ما توارثناه من معلومات عن ماضينا البعيد قد تراكم عليه غبار الزمن بصورة حجبت حقيقته .

وأَجتزيء القول بعرض عشرة أسماء من مئات أسماء المدن والمواضع القديمة التي استعصى عليَّ فَهْمُ معانيها واستغلق إدراك الأصول اللغوية التي اشْتُقَّتْ منها .

وما أسعدني حين أرى اتجاه طلاب المعرفة من أبنائنا إلى التعمق في دراسة ما يتصل ببلادنا وبحياتنا .

1– أبها ( قاعدة بلاد عسير ) :-

لم يرد اسم هذه البلدة فيما اطلعت عليه من المؤلفات المشهورة، التي تعرضت للحديث عن عمران المدن، وتحديد مواقع المواضع، باعتبارها من المدن القديمة، وعدم ورود اسمها لا ينفي قِدَمَها . ولعلَّ أقدم نصٍّ ورد فيه ذكرها – على ما أعلم – هو ما جاء في كتاب ( صفة جزيرة العرب ) [22] للحسن بن أحمد الهمداني – الذي عاش عشرين عاماً من آخر القرن الثالث الهجري وبقية حياته في القرن الرابع – وهو نصٌّ يدل على قدم تلك البلدة – ففي الحديث عن ( جُرَش وأحوازها ) قال [23] : ويصالي قَصَبة جُرَش أوطانُ حَزِيمة من عَنْز، ثم يواطن حزيمة من شاميها عسير، قبائل من عنز، وعسير يمانية تَنَزَّرَتْ، ودخلتْ في عنز، فأوطان عسير إلى رأس تَيَّة، وهي عقبة من أشراف تهامة، وهي أبها، وبها قبر ذِي القرنين – فيما يقال – عُثِر عليه على رأس ثلاث مئة من الهجرة .

وأعاد ذكرها بقوله [24] : والدَّارة وأبها، والحللة والفتيحا، فَحَمَرة وطَبَب، فأتانة والمغْوَث فجرشة، فالأيداع، أوطان عسير من عنز، وتسمى هذه أرض طود . انتهى .

ولو عرف ياقوت الحموي – صاحب ( معجم البلدان ) اسم ( أبها ) – لما أعياه تعليله، فمادة ( بهو ) في الفصحى ذات مدلولات واسعة، واستعمالات كثيرة، ويبقى الاطمئنان بذلك التعليل .

وقد لفت نظري الأستاذ / محمد بن عبدالله بن حُمَيّد رئيس النادي الأدبي في أبها إذ نشر في ( المجلة العربية ) [25] كلمة استوضح فيها عما ورد في كتاب ( كنوز مدينة بقليس ) [26] تأليف وندل قيلبس منسوباً إلى سفر ( أشعيا ) من كتاب ( العهد القديم ) من ( أن الهجن من مدينة إيفا ( أبها ) ستأتي جميعها من سبإ، وستجلب الذهب والبخور ) إلى آخر ما ذكر، ويستوضح الأستاذ محمد : هل حقًّا كانت أبها تعرف باسم ( إيفا ) في الزمن القديم ؟ وهل كانت مَعْبراً للرحلات التجارية وقت ازدهار حضارة سبإ ومعين وما تلاها من عصور جاهلية قبل الإسلام ؟

ومع أنني ليس لي من الاطلاع على الكتاب الذي نقل عنه وندل فيلبس النصَّ ما يمكنني من أن تكون إجابتي مبنية على أسس قوية من المعرفة إلا أن تلك العبارة – كما يظهر قد تصرف المعرب فيها تصرفاً زاد اضطرابها – ونصها – كما في ( سفر اشعيا ) – 60/6 – : تغطيك كثرة الجمال – بكران – مديان وعيفة، كلها تأتي من شبا تحمل ذهباً ولباناً . ومع غموض العبارة إلا أن الاسم اتضح مغايراً لما في تعريب كلام وندل فيلبس، فهو في مصدره ( عيفة ) لا ( إيفا ) ثم قرأت في ( سفر التكوين ) نصًّا صريحاً هو كما في ( الاصحاح ) – 25/4 – حيث ذكر أبناء مديان وأنهم : عيفة وعفر وحنوك وأبيداع والدعة . وهذا النص يبطل ما توهمه ( فيلبس ) من أن ( عيفة ) هي أبها، وبصرف النظر عن التحريف الواقع في أسفار التوراة جميعها إلا أن ( أبها ) لا تقع في أحد الطرق الموصلة إلى شمال الجزيرة من بلاد سبإ، لارتفاعها عن الطريق العام المار بِجُرَش، وعن الطريق التهامي – وقد فصلت هذا في كلمة نشرت في إحدى الصحف، [ وانظر ( العرب ) 525 ] وما أريد الوصول إليه هو أن اسم ( أبها ) من الأسماء التي لم يتضح لي معناها .

2– تُنْغَةُ ( في منطقة حائل ) :-

يصف متقدمو العلماء هذه المنطقة في العهود السابقة لتدوين التاريخ على ما وصل إليهم من الأخبار المتناقلة بأنها بلاد واسعة، كثيرة المياه والشجر والنخيل والريف، تسكنها بقايا من أمم بائدة كصحار وجديس [27]، فانتقلت إليها قبيلة طيء اليمنية القحطانية من وادي طرِيب – في منطقة عسير – فاستوطنتها قبل ظهور الإسلام .

وقد بقيت تلك القبيلة في هذه البلاد، حتى العصر الحاضر، حيث عرفت قديماً باسم جبلي طيء، وحديثاً بـ ( جبل شَمَّر ) وشمر اسم فرع صغير من فروع القبيلة طغى على أكثر الفروع .

ومن أبرز مواطن الاستقرار المعروفة قديماً في هذه المنطقة ( تُنْغَة ) – بعد التاء المثناة الفوقية المضمومة نون ساكنة فغين معجمة مفتوحة فهاء تنطق تاء في حالة الوصل –. وقد عرفت تنغة بأن حاتماً الطائي قُبر فيها، وكانت تقع في موضع حصين من جبل أجإ، فقد أراد المحرق أحد ملوك الشام من آل جفنة أن يدين له حاتم فامتنع، فأقسم الملك: لَيَقْدِمَنَّ عليه قريته، ثم ليجللن مواسلاً – الرِّبَطَ [28] مصبوغات بالزيت، ثم ليشعلنَّها بالنار، ولكنه حُذِّر من ذلك وقيل له : إنْ تقدم القريةَ تهلِكْ، فانصرف [29] وقد عرفت باسم القُرَيَّة فقال / امرؤ القيس :-

تَبِيتُ لبونِي بالْقُرَيَّةِ أُمَّناً
= وأَسْرَحُهَا غِبًّا بِأَكْنَافِ حَائِلِ

وكذا في صدر الإسلام، فقد اعترض أهلها للحسين بن علي أثناء توجهه إلى العراق [30]، فعرضوا عليه أن يقيم عندهم، وقال له الطَّرِمَّاحُ بن عَدِي الطائي : إنْ أردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به فَسِرْ حتى أُنْزِلَكَ مَنَاعِ جَبَلَنا الذي يُدْعى أَجَإ امتنعنا به والله من ملوك غسان وحمير، ومن النعمان بن المنذر، ومن الأسود والأحمر، والله إن دخل علينا ذلٌّ قط، فأسير معك حتى أنزلك القُرَيَّة، ثم أَقِمْ فينا ما بدا لك، فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائيٍّ يضربون بين يديك بأسيافهم، والله لا يوصل إليك .

ويظهر أن ( القرية ) أصبح علماً بدل ( تنغة ) لغرابة هذا الاسم، وصعوبة نطقه، كما في شعر امريء القيس، ولقربه من الوادي الذي كان معروفاً باسم حائل كان يضاف إليه، لتمييزه عن قريات أخرى متعددة، ويبقى البحث في أصل الاسم القديم وهذا ما لم يتعرض له من عرفتُ من المتقدمين كنصر بن عبدالرحمن الاسكندري – مصدر ياقوت ومن جاء بعده كصاحب ( تاج العروس ) بل وقع من بعضهم اختلافٌ في ضبطه، هل هو بالغين المعجمة أم بالعين المهملة، وصحح صاحب ( التاج ) الأول، وخطأ صاحب ( القاموس ) واطلاق الاسم على موضع في حضرموت، ثم نسبة ذلك الموضع إلى شخص ذي عقب معروف النسبة [31] يوحي بأنه قد يكون ذَا صلة بلغةِ اليمنيين القدماء الذين ترجع إليهم قبيلة طيء في عصورها القديمة، وهناك أسماء مواضع في هذه المنطقة لا يرتاح الباحث لما يورده اللغويون عن اشتقاقها مثل : مَوْقَق، وغَضْوَر، ورَمَّان، وأجأ، وغيرها .

3– تيماء :-

ويحاول اللغويون إيجادَ صلة بين اسم تيماء البلدة هذه وبين مادة ( ت.ى.م ) في اللغة العربية الفصيحة، فيقول الأزهري : المتيَّمُ المضلل، ومنه قيل للفلاة تيماء لأنها يُضَلُّ فيها، وقال الأصمعي : التيماء الأرض التي لا ماء فيها، وقد يكون لهذا أصل من الناحية اللغوية، ولكن البلدة كانت معروفة قبل بَدْءِ تدوين اللغة العربية بأحقاب طويلة، فقد ذكرت في ( التوراة ) [32] وفي أخبار حروب موسى – عليه السلام – للعمالقة [33] ولكن الذي لا شك فيه أن نصوص التوراة التي وصلت إلينا محرقة، ولا يمكن الاطمئنان إلا إلى ما ثبتت لدينا صحته من قبل علماء ذوي اختصاص بالدراسات الأثرية واللغوية .

4– جُرَشُ ( قاعدة بلاد الأزد في صدر الإسلام ) :-

وفي منطقة عسير عرفت هذه المدينة في العهد الجاهلي ثم في صدر الإسلام، وصفها متقدمو المؤرخين بأنها مدينة عظيمة حصينة وولاية واسعة [34] ذات صناعة وزراعة، فقد أرسل أهل الطائف إليها من يتعلم صناعة المجانيق حين علموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم عزم على غزوهم، وعُرِف بها نوع من أجود أنواع العنب يدعى ( الجُرشي ) وبجودة أُدُمِها .

وقد فتحت مدينة جرش في العهد النبويِّ صُلْحاً، وقدم وفد من أهلها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا فقال لهم – فيما يرويه ابن سعد وغيره من أصحاب السير – : ( مرحباً بكم أحسن الناس وجوهاً، وأصدقه لقاء، وأطيبه كلاماً، وأعظمه أمانة، أنتم مني وأنا منكم ) وجعل شعارهم ( مبروراً ) وحمى لهم حول قريتهم . وبقيت معروفة في صدر الإسلام، حيث نسب إليها – في من نسب – السيدة الخيزران، زوجة الخليفة المهدي وأم ولده وصاحبة الآثار العمرانية في طريق الحج العراقي، وفي مكة حيث عمرت دار الأرقم التي كان يجتمع فيها المسلمون بالرسول صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام، فعرفت الدار بها، وتوفيت سنة 173هـ [35]

وبقيت المدينة معروفة حتى القرن الرابع الهجري حيث وصفها الهمداني [36] بأنها كورة نجد العليا، واعتبرها قاعدة لما حولها من الأودية والقرى، يضيفها في التحديد إليها، ولكنها اختفت من الوجود في عصر متأخر مجهول، وانتقل سكانها المعروفون باسم ( العواسج ) إلى ثِنْيٍ من أثناء وادِي بيشة عرف باسم ( وادي ابن هشبل )

ويرى أحد المتأخرين من الباحثين [37] أن زوال تلك المدينة بسبب ثورة بركان كان بقربها يعرب باسم ( حَمُومة ) حيث تبدو صخور تلك الأكمة سوداء، كأنها مصهورة، ومن ذلك اشتق اسم ( حمومة ) فهو كما قال الهمداني [38] : وجُرَشُ في قاع ولها أشرافٌ غربية منها تنحدر مياهها في مسيل يمر في شرقيها، وبينها وبين حَمومة ناصية تسمى الأكمة السوداء – حمومة وحمة وكولة –.

ولا تزال آثار جرش معروفة جنوب شرق مدينة خميس مشيط بنحو خمسة عشر كيلاً [39]، أما اسم جُرَش الذي عُرِفتْ به المدينةُ فليس من المستبعد أن يكون اسم أول من سكنها، ككثير من المدن والأودية الواقعة في جنوب الجزيرة .

ولكن الطريف في ذلك ما جاء في كتاب ( أنساب البلدان ) لهشام بن الكلبي – كما نقل ياقوت [40] : جرش قبائل من أفناء الناس تَجَرَّشُوا، وكان الذي جرَّشَهُمْ رجل من حِمْيَرَ يقال له زيد بن أسلم، خرج بثور له عليه حمل شعير، في يوم شديد الحر، فشرد الثور، فطلبه فاشتد تعبه، فحلف لئن ظفر به ليذبحه، ثم ليجرشَنَّ الشعيرَ ولَيَدْعُوَنَّ على لحمه، فأدركه بذات القصص عند قلعة جراش، وكل من أجابه وأكل معه يومئذ كان جرشياً !! ومع سذاجة هذا التعليل فإنه لا ينطبق على الواقع من حيث موقع جُرَش، فذات القصص – وهي جبال لا تزال معروفة تبعد عن جُرش جنوباً شرقياً بما يزيد على مئة كيل، وهي في أعالي وادي طريب [41]، ولكن أبا المنذر – والله يعفو عنه – يأتي بالعجائب الغرائب – ولعل منها ما ذكر في تعليل جَرَش – بفتح الجيم – الموضع الأثري القديم في الشام ( الأردن ) فقد نسبه لرجل يدعى جرش بن عبدالله، وصل نسبه بقبيلته كلب .

5– حَجْرُ ( قاعدة بلاد اليمامة ) :-

المدينة التي قامت الرياض على انقاضها [42]، لقد كانت من أقدم المدن في قلب الجزيرة، وكانت تعرف باسم الخضراء خضراء حَجْرٍ، وهي حاضرة قبيلة طَسْمٍ، والخِضْرِمَةُ في الْخَرْجِ حاضرة جَدِيْسَ [43]، والقبيلتان من الأمم البائدة .

وبعد أن خلفتهما قبيلة بني حنيفة بقيت حَجْرُ قصبةَ اليمامة، ثم أصبحت في صدر الإسلام سُرَّة اليمامة، ومنزل السلطان والجماعة، ومنبرها أحد المنابر الأولية : مكة والمدينة واليمن ودمشق واليمامة والبحرين والكوفة، وجلُّ أهلها بنو عبيد من بني حنيفة، وبها من كل القبائل [44].

ويعلل متقدمو العلماء اسم حَجْرٍ بأن عُبَيْدَ بن ثعلبة سيدَ بني حنيفة عثر على القصور والحصون، وحدائق الأشجار والنخيل، خالية بعد فناء طَسْم وجَدِيْسَ، فاحتجر ثلاثين قصراً، وثلاثين حديقة، وسماها حَجْراً ومنع النزول فيها إلا لمن كان من ولده لصلبه – في قصة طويلة معروفة [45] – إلا أن هذا التعليل أقرب إلى الخرافة منه إلى الواقع، فاسم ( حجر ) كان معروفاً في عهد طسم قبل سكنى بني حنيفة لهذه البلاد، الذي لا يسبق زمن ظهور الإسلام بأكثر من قرنين – في القرن الخامس الميلادي [46]، وكلمة ( هجر ) على ما ذكر بعض العلماء يقصد بها البلدة بلغة العرب العاربة فمنها هجر البحرين وهجر نجران، وهجر جازان [47]، وكل بلد تمتاره البادية فهو هجرهم [48]، والهاء والحاء حرفان حَلْقِيَّان يتعاقبان في كثير من الكلمات، وقد يقال : بأن المتكلم يؤثر التسهيل عند الإبدال وحرف الهاء في النطق أسهل من حرف الحاء، وهذا صحيح ولكن ليس قاعدة مطردة .

6– خيبر :-

اسم الواحة المعروفة الواقعة في الحرة المعروفة بها في الشمال الشرقي من المدينة المنورة، وقد اختلف المتقدمون في تعليل هذا الاسم فمنهم من يرى اشتقاقه من قولهم أرض خبرة أي طيبة الطين سهلة [49]، ومنهم من زعم أنه اسم رجل من العماليق هو أول من نزل هذه البلاد، وهو خيبر بن قانية بن عبيل بن مهلائل بن ارم [50]، وهناك من يرى أن الكلمة عبرية تعني الحصن، ولاشتمال هذه البلاد على حصون سموها ( خيابر ) واحدها خيبر، ويؤيد هذا بعض الباحثين في عصرنا .

وأرى أن اسم ( خيبر ) من الأسماء الموغلة في القدم، ولما جهل اللغويون معناه تكلفوا لتأويله مختلفَ الأقاويل كعادتهم في أسماء المواضع القديمة، أما القول بأنه مأخوذ من لسان اليهود، وأن الخيابر فيه هي الحصون، فمن المعروف أن بلاد خيبر كانت معروفة قبل سكنى اليهود، ويمكن القول بأن كلمة ( خيبر ) مما وافقت فيه اللغة العبرية اللغة العربية، أو أن لهذه الكلمة من المعاني ما لم يدون في الكتب اللغوية التي وصلت إلينا كأسماء مواضع أخرى في هذه المنطقة، منها ما حاول المتقدمون تعليله، ومنها ما اعتبروه جامِداً مثل : ( فدك ) الواحة الواقعة شرق خيبر في حرَّتها، والمعروفة الآن باسم ( الحائط ) و ( يَدِيع ) الواحة الواقعة جنوب ( فدك ) والتي تعرف باسم ( الحُوَيِّط ) و ( ضَرْغد ) البلد الواقع شرق ( فدك ) وأكثر أسماء حصون خيبر القديمة .

7– دَوْمة الجندل ( قاعدة بلاد الجوف قديماً ) :-

اسم قاعدة إقليم الجوف حتى عام 1370هـ – وينطق بضم الدال وفتحها، وقد يقال دوماء الجندل [51]، وأصل هذا ما ورد عن ابن الكلبي : لما كثر ولد إسماعيل – عليه السلام – بتهامة خرج دَوماءُ بن إسماعيل حتى نزل موضع دومة، وبنى فيه حصناً، فقيل: دوماء، ونسب الحصن إليه مع الإختلاف في اسم ابن إسماعيل هذا هل هو دوماء أو دوم، أو دماً . ولكن الحمويَّ وقد ذكر كلام ابن الكلبي يورد خبراً يدل على تأخر حدوث التسمية عن عصر إسماعيل فيذكر أنه الأكيدر الملك الكندي كان منزله أولاً بالحيرة – في العراق – وكان يزور أخواله من قبيلة كلب، ويخرج معهم إلى الصيد، فعثروا على مدينة متهدمة لم يبق إلاَّ حيطانها، وهي مبنية بالجندل – الحجر – فأعادُوا بناءها، وغرسوا بها الزيتون وغيره، وسموها دومة الجندل، تفريقاً بينها وبين دومة الحيرة، والأكيدر أدرك ظهور الإسلام، وأجلاه عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – إلى الحيرة، وياقوت نفسه فاته أنه ذكر أنَّ إنشاء دومة الحيرة كان بعد إجلاء الأكيدر من دومة الجندل، إذ قال : دوماً بالكوفة، والنجف محلها، ويقال : اسمها دومة لأن عمر لما أجلى أكيدر دومة – صاحب دومة الجندل – قدم الحيرة فبنى بها حصناً، وسماه دومة أيضاً . ثم ذكر دومةَ من قرى غُوطة دمشق، المعروفة الآن والتي ينطق اسمها ( دوماً ) [52].

والواقع أن دومة الجندل من أقدم المدن عهداً، فقد ورد اسمها في ( التوراة ) [53] وذكرت في الكتابات الأشورية باسم ( ادومانو ) وأن الملك الأشوري سَنْحَرِيب استولى عليها، وأسر ملكتها سنة 688 [54] قبل الميلاد، ولقدم هذه المدينة تخبط المتقدمون في تعليل اسمها كأمثالها . وبقربها مواضع لا يجد الباحث لأسمائها في المؤلفات اللغوية ما يطمئن إليه في فهمها، وهي بدون شك مقتبسة من جذور لغوية لا تزال مجهولة .

ومنها سكاكة – اسم المدينة الثانية التي أصبحت قاعدة المنطقة منذ عام 1370هـ .

وقارا – التي تنطق الآن القارة – ويطلق الاسم على بلدة في سورية .

وزعبل : اسم تل عظيم على مقربة من مدينة سكاكا – كان حصيناً، أو معبداً [55].

8– مكة المكرمة :-

البلدة التي قدسها الله بأن وضع فيها البيت العتيق، الذي جعل حجه أحدَ الأركان التي يقوم عليها الدين الإسلامي { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } [56] وشرفها بأن ذكرها في كتابه الكريم بأسماء متعددة، فلا غرو أن يحاول علماء اللغة – ما استطاعوا – في اختيار المعاني الملائمة لتلك الأسماء، بتأثير عواطف دينية سامية كقولهم :-

1 - سميت مكة : من المُكَاكَةِ وهي اللُّبُّ والمخ الذي وسط العظم، سميت لأنها وسط الدنيا، ولُبُّها، وخالصها .

2 - سميت مكة : لأنها تنقص الذنوب وتنفيها .

3 - سميت مكة : لأنها تهلك من ظلم فيها .

4 - سميت مكة : لأنهم يمتكُّون الماء فيها – أي يستخرجونه –.

5 - سميت مكة : لأنها تجذب الناس إليها، والملك الجذب .

6 - سميت مكة : لأنها تمكُّ الجبارين – أي تُذْهِبُ نخوتهم –.

7 - سميت مكة : لاِزْدحام الناس بها، من قولهم : امتكَّ الفصيلُ ضَرْعَ أُمِّهِ إذا مَصَّهُ مَصًّا شديداً .

8 - سميت مكة : لأن العرب تَمُكُّ عند الكعبة – أي تُصْفِرُ صَفِير المُكَّاءِ الطائر المعروف – مع تصفيق بالأيدي في الطواف .

9 - سميت مكة : لأنها بين جبلين مرتفعين عليها، وهي في هَبْطَةٍ شبه المَكُّوكِ – وهو إناء معروف –.

10 - سميت مكة : لأنه لا يفجر فيها أَحَدٌ إلاَّ بُكَّتْ عنقه، فكان يصبح وقد التوت . إلى أقوال أخرى لا تخرج عن هذه المعاني .

وللمعاصرين من الباحثين من المستشرقين وغيرهم حول هذا الاسم من الأقوال ماهو أقرب إلى الخيال، ولعل من أطرفها رأيٌ لكاتب عراقي في بحث له عن مكة بعنوان ( مكة وحمورابى ) [57] حيث حاول إيجاد صلة بين ( بكا BAGA ) إله بابلي كان معروفاً في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، ومنه أُخِذَ اسم الإله الكنعاني ( بَعْلَبَكَّ ) ثم يخلص إلى القول بأنه يخمن أن ( بك ) أطلق أولاً على مكان المعبود في مكة، ولما كانت أسماء المواضع تؤنث أضيفت إليه علامة التأنيث، فصار ( بكة )، ثم عرفت باسم مكة .

وكذلك اختلفوا في معنى اسم ( بكة ) من أسماء هذه المدينة الكريمة، ورد في القرآن الكريم { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ } [58] فبينما يرى بعض اللغويين أن الميم أبدلت باء، يرى آخرون تغايراً في المعنى بين الاسمين، ومن أمثلة الاختلاف :-

1 - سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة .

2 - بكة اسم لبطن مكة لأنهم يتباكَّوْنَ فيه – أي يزدحمون –.

3 - بكة موضع القرية، ومكة موضع البيت .

4 - بكة الكعبة والمسجد، ومكة ذُو طوَى، وهو بطن مكة المذكور في الآية الكريمة من سورة الفتح . ولعل أعدل الأقوال في هذا ما روي عن عالم مكة الإمام التابعي الجليل / مجاهد ابن جبر من أن الميم يتعاقبان، وبه قال الإمام اللغوي / ابن قتيبة [59] وغيره .

9– وَجُّ ( الطائف ) :-

هناك ترادف بين كلمتي ( وج ) و ( الطائف ) في نصوص المتقدمين، بينما المعروف الآن إطلاق اسم ( وج ) على الوادي الذي يخترق مدينة الطائف، منحدراً من المرتفعات الواقعة جنوب غرب المدينة حول قرية ( الوهط ) متجهاً صوب الشمال الشرقي حيث يُدْعَى أسفله ( العَرْج )، ثم يفيض في الأرض البراح . ومن ذلك الترادف قول ياقوت في ( معجم البلدان ) : الطائف هو وادي وَج، وهو بلاد ثقيف [60] وقوله – في موضع آخر –: في تفسير الخبر المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم [61] –: آخر وطأة لله يوم وج، وهو الطائف، وغزوة الطائف آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ولصاحب ( القاموس المحيط ) [62] حول هذا القول اعتراض ليس هذا محل ذكره .

ويتضح مما أورده متقدمو العلماء من أخبار عمران الطائف قدم تسمية الموضع باسم وج، لنسبة هذا الإسم إلى العمالقة – إحدى الأمم المجهول عصرها – بخلاف اسم الطائف المنسوب حدوثه لمن عاش قبيل الإسلام بزمن يسير[63].

فما أصل تسمية ذلك البلد ؟ يلجأ المتقدمون لبيان مثل هذا إلى ما يتناقله القصاصون من أخبار الأمم التي عاشت في الجزيرة في عصورها الأولى – ولا ملجأ لهم غير ذلك – فيجدون من الأسماء الشائعة بين تلك الأمم ما يتفق مع أسماء المواضع التي هم بحاجة إلى معرفة أصولها، فيرجعونها إليها، وليروح القاريء عن نفسه، هاهو أشهر أقوال رواة الأخبار منهم :-

سُمِّيَ وَجُّ ( الطائف ) بِوجِّ بن عبدالحق من العمالقة ( العماليق ) وهو أخو ( أجإ ) الذي سمي به جبل طيء، وهو من الأمم البائدة [64].

ولهذه الصلة بين اسم هذا الوادي الواقع في غرب الجزيرة وبين اسم ذلك الجبل المعروف الواقع في شمالها ما يربط الاسمين بأسماء مواضع أخرى هناك، لا يتورع ياقوت – أمطر الله على قبره شآبيب الرحمة والغفران – من نسبته إلى ( العلماء بأخبار العرب ) بدون تسمية أحد منهم، وهو لا يخرج عما هو معروف عن أبي المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي في أحد كتابيه ( اشتقاق البلدان ) أو ( أنساب البلدان ) : ذكر العلماء بأخبار العرب [65] أن أجأ سمي باسم رجل وسمي سملى باسم امرأة، وكان من خبرهما أن رجلاً من العماليق يقال له أجأ بن عبدالحي عشق امرأة من قومه يقال لها سلمى، فكانا يجتمعان في منزل العوجاء حاضنة سَلْمَى، حتى علم بها اخوة سلمى وهم الغميم والمضل وفدك وفائد والحدثان، فخافت سَلْمَى وهربت هي وأجا والعوجاء، وتبعهم اخوتها فلحقوا سلمى على الجبل المسمى سلمى فقتلوها هناك فسمي الجبل باسمها، ولحقوا العوجاء على هضبة بين الجبلين فقتلوها هناك فسمي المكان بها ولحقوا أجأ بالجبل المسمى بأجإ فقتلوه فيه فسمي به، وأنفوا أن يرجعوا إلى قومهم فسار كل واحد إلى مكان فأقام به فسمي ذلك المكان باسمه [66] – وتقدم الخبر –.

10– يَثْرب ( المدينة المنورة ) :-

من أسماء المدينة الشريفة طيبة الطيبة، الكثيرة الأسماء، مما يدل على شرف المسمى، وقد ورد في القرآن الكريم حكاية عن المنافقين في غزوة الأحزاب في التحريض على الانصراف عن القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين : { وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا } [67] ووردت آثار في النهي عن تسميتها بهذا الاسم [68].

ويختلف المتقدمون من اللغويين وغيرهم في معنى هذا الاسم وأن يتفقوا على قدمه، ونسبته إلى إحدى الأمم البائدة، ويحاول بعضهم اعتباره مشتقاً من مصدر ( ثرب ) أو ذا صلة به، فيورد ابن الأثير في ( النهاية ) : يثرب اسم مدينة النبي صلى الله عليه وسلم قديمة، فغيرها وسماها طيبة وطابة، كراهية التثريب، وهو اللوم والتعبير – انتهى . ويلمح ياقوت تكلف اللغويين وتمحُّلَهُمْ في محاولة تعليل الأسماء ومحاولة اشتقاقها من مصادر فيقول : ولو تكلف متكلف أن يقول في ( يثرب ) أنه ( يفعل ) من قولهم لا تثريب عليكم أي لا تعيير ولا عيب، ويقال أصل التثريب الافساد – إلى آخر ما ذكر – [69].

ولا شك بأن اسم ( يثرب ) من الأسماء الموغلة في القدم حتى جهل أصلها فعمد أولئك العلماء إلى القول بأن أول من سكن يثرب رجل من العمالقة [70] ( العماليق ) وقيل من أبناء إرم – ( الآراميين ) هو يثرب بن قانية بن مهلائل بن إرم ابن سام بن نوح – وذلك بعد تفرق أبناء نوح .

ومن الطريف أن يحاول ابن الكلبي – فيما يروي عن شيخه الشرقي بن القُطَامي – إيجاد صلة قرابة بين يثرب الارمي وبين مواضع تقع في طريق الحج في نجد [71] فيقول : زرود، والشقرة والربذة بنات يثرب بن قانية بن مهلائل بن رخام بن عبيل أخي عوض بن إرم بن سام بن نوح – على تباعد تلك المواضع .

فزرود – من المناهل المعروفة وهي واقعة في الجانب الغربي من الدهناء شرق بلدة الأَجْفُرِ بمنطقة حائل [72] ( بقرب خط الطول : 18/43° وخط العرض : 50/27° )

والشقرة – وهي أيضاً معروفة كانت من المناهل فأصبحت الآن قرية تقع غرب الحناكية ( نخل قديماً ) بنحو ثلاثين كيلاً، ووادي الشقرة يجتمع بوادي الحناكية في حَضَوْضَا [73].
والرَّبَذَة : الموضع الأثري المعروف في عالية نجد [74].

ومَلْمَحُ ابن الكلبي – أو شيخه – في محاولته تلك قد يكون مبنياً على إدراك كون بني ارم ( الآراميين ) قد انتشروا في البلاد من أعلاها إلى أسفلها، قبل وجود القبائل العربية المعروفة أخيراً، مع جهل زمانهم وانفرادهم بلغة خاصة، منها أسماء هذه المواضع التي يحمل الجهل بمعانيها على اعتبارها أسماء جامدة، والملاحظ أن المواضع كثيراً ما تضاف إلى سكانها، ومن ثم تعلق بها أسماء أولئك السكان، وليس معنى هذا مطابقة قول ابن الكلبي – أو غيره من المتقدمين – في تعليل كل الأسماء القديمة للواقع، ولكنه محاولة لتوجيه آراء أولئك الأجلة من العلماء الذين لا يجد الباحث في هذه النواحي سوى تعليلاتهم، حتى يفتح العلم آفاقاً أخرى من المعرفة . منقول مع خالص التحية وأطيب الأمنيات وأنتم سالمون وغانمون والسلام .

مشاء الله عليك يا خيال انت مفخرة لسبيع - وحارس للقبيلة - جزيت خيرا

خيَّال الغلباء
16 - 08 - 2009, 01:21
الأضجم جزاك الله خيراً ولا هنت

حمد ع ح
24 - 08 - 2009, 17:30
مشكور وما قصرت ولا هنت

خيَّال الغلباء
26 - 08 - 2009, 02:57
حمد جزاك الله خيراً ولا هنت

وطبان
06 - 09 - 2009, 16:13
مشكور وما قصرت ولا هنت

خيَّال الغلباء
11 - 09 - 2009, 22:58
وطبان جزاك الله خيراً ولا هنت

صامل الميقاف
12 - 09 - 2009, 17:56
مشكور وما قصرت ولا هنت

خيَّال الغلباء
23 - 09 - 2009, 09:11
صامل الميقاف جزاك الله خيراً ولا هنت

مخايل الغربي
30 - 10 - 2009, 09:49
مشكور وما قصرت ولا هنت

خيَّال الغلباء
04 - 11 - 2009, 01:07
بسم الله الرحمن الرحيم

التسميات لبعض المدن والبلدان :-

هذه بعض التسميات لبعض المدن والبلدان، أحببت أن أفيد القراء بأصل تسمياتها، وبنبذة تاريخية عنها، رجعت فيها لمرجع مهم في بابه وهو ( معجم البلدان ) لياقوت الحموي أترككم مع الفائدة :-

مَكةُ : بيت الله الحرام أما اشتقاقها ففيه أقوال قال أبو بكر بن الأنباري : سميت مكة لأنها تَمُكُّ الجبارين، أي : تُذْهِب نَخْوَتَهم ويقال : إنما سميت مكة لازدحام الناس بها، من قولهم : قد امْتَكَّ الفصيلُ ضَرْعَ أمه، إذا مصّه مصّاً شديداً، وسميت بمكة لازدحام الناس بها ويقال : مكة اسم المدينة، وبَكَّة اسم البيت، وقال آخرون : مكة هي بكة، والميم بدل من الباء، كما قالوا : ما هذا بضربة لازب ولازم وفيها أقوال أخر، قال الشرقي بن القطامي : إنما سميت مكة لأن العرب في الجاهلية كانت تقول : لا يتم حجنا حتى نأتي مكان الكعبة، فنَمُكُّ فيه، أي : نُصَفِّرُ صَفير المكّاء حول الكعبة، وكانوا يُصفرون ويصفقون بأيديهم إذا طافوا بها، والمكّاء بتشديد الكاف طائر يأوي الرياض ( أم سالم ) والمُكاءُ بتخفيف الكاف والمد : الصفير وقال قوم سميت مكة لأنها بين جبلين مرتفعين عليها وهي في هَبْطة بمنزلة المكوك والمكوك عربي أو معرب قد تكلمت به العرب وجاء في أشعار الفصحاء، قال الأعشى :-

والمكاكي والصِّحافِ من الفـضة
= والضامراتِ تحت الرحالِ

ويقال أيضاً : سميت مكة لأنها عبَّدتْ الناسَ فيها، فيأتونها من جميع الأطراف، من قولهم : امْتَكَّ الفصيل مخلاف الناقة، إذا جذب جميع ما فيها جذباً شديداً فلم يَبق فيها شيئاً، وهذا قول أهل اللغة وقال آخرون : سميت مكة لأنه لا يَفْجُرُ بها إلا بَكَّتْ عنقه، فكان يصبح وقد الْتَوَتْ عُنُقُهُ، وقال الشرقي : وقال آخرون : بكة موضع البيت، وما حول البيت مكة قال : وهذه خمسة أقوال في مكة غير ما ذكره ابن الأنباري، وقال عبيدالله الفقير إليه : ووجدت أنا أنها سميت مكة من مَكِّ الثدي، أي : مصه، لقلة مائها، لأنهم كانوا يمتكون الماء، أي : يستخرجونه وقيل : إنها تُذْهِبُ الذنوبَ، أي : تذهب بها كما يمُك الفصيل ضرع أمه فلا يبقى فيه شيئاً وقيل : سميت مكة لأنها تَمُكُّ من ظلم، أي : تنقصه وينشد قول بعضهم :-

يا مكةَ الفاجرَ مُكّي مَكّا
= ولا تَمُكِّي مذْحِجاً وعكا

وقيل : إنما سميت بكة لأن الأقدام تَبُكُّ بعضها بعضاً .

بابِلُ : بكسر الباء، اسم ناحية منها الكوفة والحِلَّة، يُنْسَبُ إليها السحرُ والخمرُ ويقال : أن أول من سكنها نوح عليه السلام وهو أول من عمرها وكان قد نزلها بعَقِب الطوفان، فسار هو ومن خرج معه من السفينة إليها لطلب الدفء فأقاموا بها وتناسلوا فيها، وكثروا من بعد نوح وملكوا عليهم ملوكاً، وابتنوا بها المدائن، واتصلت مساكنهم بدجلة والفرات إلى أن بلغوا من دجلة إلى أسفل كَسْكَر، ومن الفرات إلى ما وراء الكوفة، وموضعهم هو الذي يقال له السواد، وكانت ملوكهم تنـزل بابل، وكان الكلدانيون جُنودَهم، فلم تزل مملكتهم قائمة إلى أن قُتل دارا آخر ملوكهم، ثم قتل منهم خلق كثير فذلوا وانقطع مُلكهم قيل : اشتقَ اسمها من اسم المشتري، لأنَ بابل باللسان البابلي الأول اسم للمشتري وحدث أبو بكر أحمد بن مروان المالكي الدينوري في كتاب ( المجالس ) من تصنيفه : حدثنا إسماعيل بن يونس ومحمد بن مِهران، قالا : حدثنا عمرو بن ناجية، حدثنا نعيم بن سالم بن قنْبر مولى علي بن أبي طالب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال : لما حشر الله الخلائق إلى بابل بعث إليهم ريحاً شرقية وغربية وقِبْلِيَّة وبحرية، فجمَعَهم إلى بابل فاجتمعوا يومئذٍ ينظرون لما حشروا له، إذ نادى منادٍ : من جعل المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره فاقتصد البيت الحرام بوجهه؛ فله كلامُ أهل السماء، فقيل : يا يعرب بن قحطان بن هود أنت هو، فكان أول من تكلم بالعربية ولم يزل المنادي يُنادي من فعل كذا وكذا فله كذا وكذا حتى افترقوا على اثنين وسبعين لساناً، وانقطع الصوت وتَبَلْبَلَتِ الألسنُ، فسميت بابل، وكان اللسان يومئذٍ بابلياً .

دِمَشْقُ الشام : بكسر أوله وفتح ثانيه، هكذا رواه الجمهور، والكسر لغة فيه ( دَمِشق ) وشين معجمة وآخره قاف البلدة المشهورة قيل : سميت بذلك لأنهم دَمْشَقُوا في بنائها، أي : أسرعوا وناقة دَمْشَق، بفتح الدال وسكون الميم : سريعة وقال أهل السير : سميت دِمَشْق بدماشق بن قاني بن مالك بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام وقيل : إن العازر غلام إبراهيم عليه السلام بَنَى دمشق وكان حبشياً وهبه له نمرود بن كنعان حين خرج إبراهيم من النار، وكان يسمى الغلام ( دمشق ) فسماها باسمه وقال غير هؤلاء : سميت بدماشق بن نمرود بن كنعان وهو الذي بناها وقال آخرون : سميت بدمشق بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، وهو أخو فلسطين وإيلياء وحمص والأردن، فبَنَى كل واحد موضعاً فسمي به ( وقال الفيروزآبادي : باسم دمشاق بن كنعان )

الطائفُ : قال أبو منصور : الطائف العاسُّ بالليل والطائف والطيف في قوله تعالى : ( إذا مسهم طائفٌ من الشيطان ) ما كان كالخيال، والشيء يُلمُ بك، وقوله تعالى : ( فطاف عليها طائف من ربك ) ولا يكون الطائف إلا ليلاً، ولا يكون نهاراً قال ياقوت : ( قرأتُ في كتاب ابن الكلبي بخط أحمد بن عبيداللهَ النحوي، قال هشام عن أبي مسكين عن رجل من ثقيف كان عالماً بالطائف، قال : كان رجل من الصدف يقال له : الدَمُون بن عبدالملك قَتَلَ ابنَ عمٍّ له يقال له : عمرو بحضرموت، ثم أقبل هارباً وقال :-

وحَرْبةٍ ناهِكٍ أوْجَرْتُ عَمْراً
= فما لي بعده أبداً قرارُ

ثمٍ أتى مسعودَ بن معتب الثقفي ومعه مال كثير، وكان تاجراً، فقال : أُحالِفُكم لِتُزَوِّجوني وأُزَوِّجُكم، وأبني لكم طَوْفاً عليكم مثل الحائط لا يصل إليكم أحد من العرب !! قالوا : فابْنِ !! فبنى بذلك المال طَوْفاً عليهم فسميت الطائف ) وقال ابن عباس : سميتْ الطائف لأن إبراهيم عليه السلام لما أَسْكَنَ ذُرِّيَّتَهُ مكة وسأل الله أن يرزق أهلها من الثمرات؛ أمر الله عز وجل قطعة من الأرض أن تسير بشجرها حتى تستقر بمكان الطائف، فأقبلتْ وطافتْ بالبيت ثم أَقَرَّها اللهَ بمكان الطائف، فسُميتْ ( الطائف ) لطوافها بالبيت وقد ذكر بعض النُّساب في تسميتها بالطائف أمراً آخرَ وهو أنه لما هلك / عامر بن الظرب ورثته ابنتاه زينب وعمرة، وكان قسي بن منبه خطب إليه فزوجه ابنته زينب، فولدت له جُشماً وعوفاً، ثم ماتت بعد موت عامر فتزوج أختها، وكانت قبله عند صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، فولدت له عامر بن صعصعة فكانت الطائف بين ولد ثقيف وولد عامر بن صعصعة، فلما كَثُرَ الحَيّان قالت ثقيف لبني عامر : أنكم اخترتم العُمد على المُدُن، والوبر على الشجر، فلستم تعرفون ما نعرف ولا تلطفون ما نلطف، ونحن ندعوكم إلى خط كبير، لكم ما في أيديكم من الماشية والإبل، والذي في أيدينا من هذه الحدائق فلكم نصفُ ثمره، فتكونوا بادين حاضرين يأتيكم ريفُ القرى ولم تتكلفوا مَؤونةً، وتقيموا في أموالكم وماشيتكم في بدوكم ولا تتعرضوا للوباء وتشتغلوا عن المرعى، ففعلوا ذلك فكانوا يأتونهم كل عام فيأخذون نصف غَلاتهم وقد قيل : إن الذي وافقوهم عليه كان الربيع، فلما اشتدت شوكة ثقيف وكثرت عمارة ( وج ) رَمتهم العرب بالحسد وطمع فيهم مَن حولهم وغزوهم، فاستغاثوا ببني عامر فلم يغيثوهم، فاجمعوا على بناء حائط يكون حصناً لهم، فكانت النساءُ تُلْبِنُ اللبنَ والرجالُ يبنون الحائط حتى فرغوا منه، وسموه ( الطائف ) لإطافته بهم، وجعلوا لحائطهم بابين أحدهما لبني يسار والآخر لبني عوف، وسموا باب بني يسار ( صعباً ) وباب بني عوف ( ساحراً ) ثم جاءهم بنو عامر ليأخذوا ما تعودوه فمنعوهم، عنه وجَرَتْ بينهم حرب انتصرت فيها ثقيف، وتفردتْ بمُلْكِ الطائف، فضربتهم العرب مثلاً .

الحساءُ : بالفتح والمد، جمع حِسْي بكسر الحاء وسكون السين وهو الماءُ الذي تنشفه الأرض من الرمل، فإذا صار إلى صلابة أمسكته فتحفر العرب عنه الرمل فتستخرجه قال أبو منصور : سمعت غير واحد من تميم يقول : إحتسينا حَسْياً، أي : أنبطنا ماء الحسي، والحِسْي : الرمل المتراكم أسفله جبل صلد، فإذا مُطِرَ الرملُ نشف ماء المطر، فإذا انتهى إلى الجبل الذي تحته أمسك الماء ومنع الرمل وحر الشمس أن يَنشف الماء، فإذا اشتد الحر نبث وجه الرمل عن الماءِ فنبعَ بارداً عذباً يُتَبرضُ تبرضاً قال ياقوت : ( وقد رأيتُ في البادية أحساءً كثيرةً على هذه الصفة منها : أحساءُ بني سعد بحذاءِ هَجَرَ والأحساءُ والأحساءُ : مدينة بالبحرين معروفة مشهورة، كان أول من عمرها وحصنها وجعلها قصبة هَجَر أبو طاهر الحسن بن أبي سعيد الجنابي القرمطي، وهي إلى الآن مدينة مشهورة عامرة )

نابُلُس : بضم الباء الموحدة واللام والسين مهملة، وسئل شيخ من أهل المعرفة من أهل نابلس لـِمَ سميت بذلك ؟ فقال : إنه كان هاهنا واد فيه حية قد امتنعت فيه وكانت عظيمة جداً، وكانوا يسمونها بلغتهم ( لُسْ ) فاحتالوا عليها حتى قتلوها وانتزعوا نابها، وجاؤوا بها فعلقوها على باب هذه المدينة، فقيل : هذا نابُ لُسْ، أي : ناب الحية ثم كَثُرَ استعمالها حتى كتبوها متصلة ( نابلس ) هكذا، وغلب هذا الاسم عليها وهي مدينة مشهورة بأرض فلسطين بين جبلين مستطيلة لا عرض لها، كثيرة المياه لأنها لصيقة في جبل أرضها حجر .

البصرَةُ : وهما بصرتان العظمى بالعراق، وأخرى بالمغرب وأما البصرتان فالكوفة والبصرة قال ابن الأنباري : البصرة في كلام العرب الأرض الغليظة، وقال قُطرُب : البصرة الأرض الغليظة التي فيها حجارة تَقلَعُ وتَقطَعُ حوافِرَ الدواب قال : ويقال ( بصرة ) للأرض الغليظة وقال غيره : البصرة حجارة رَخْوَة فيها بياض، وقال ابنُ الأعرابي : البصرة حجارة صلاب قال : وإنما سميت ( بصرة ) لغلظها وشدتها كما تقول : ثوبٌ ذو بُصر، وسِقاءٌ ذو بُصر، إذا كان شديداً جيداً قال : ورأيت في تلك الحجارة في أعلى المِربَد بِيْضاً صِلاباً وذكر الشرقي بن القطامي أن المسلمين حين وافوا مكان البصرة للنزول بها نظروا إليها من بعيد وأبصروا الحصا عليها، فقالوا : إن هذه أرض بَصْرَةٌ، يعنون حَصْبَة فسميت بذلك، وذكر بعض المغاربة أن البصرة الطين العلك، وقيل : الأرض الطيبة الحمراء، وذكر أحمد بن محمد الهَمَداني حكاية عن محمد بن شرحبيل بن حَسَنَةَ أنه قال : إنما سميت البصرة لأن فيها حجارة سوداءَ صُلْبة وهي البصرة وقال حمزة بن الحسن الأصبهاني : سمعت مُوبَذ بن اسوهشت يقول : البصرة تعريب ( بس راه ) لأنها كانت ذات طُرُق كثيرة انشعَبَت منها إلى أماكن مختلفة وقال قوم : البصرُ والبَصْرُ الكَذّانُ، وهي الحجارة التي ليست بُصلبة، سميت بها البصرة، كانت ببَقعَتها عند اختطاطها وقال الأزهري : البَصْرُ الحجارة إلى البياض بالكسر فإذا جاؤوا بالهاءِ قالوا : بصرة .

العِرَاقُ : سميت بذلك من عِرَاق القربة وهو الخرزُ المثنيُ الذي في أسفله، أي : أنها أسفل أرض العرب وقال أبو القاسم الزجاجي : قال ابن الأعرابي : سمي عراقاً لأنه سَفُلَ عن نجد ودنا من البحر، أُخِذَ من عراق القربة وهو الخرز الذي في أسفلها، والعراقان : الكوفة والبصرة قال : وقال غيره العراق في كلامهم الطير قالوا : وهو جمع عَرَقة والعرقة ضرب من الطير ويقال أيضاً : العراق جمع عِرق، وقال قطرب : إنما سمي العراق عراقاً لأنه دنا من البحر، وفيه سِباخ وشجر، يقال : استعرقت إبلهم، إذا أتت ذلك الموضع، وقال الخليل : العراق شاطئ البحر، وسمي العراق عراقاً لأنه على شاطئ دجلة والفرات مداً حتى يتصل بالبحر على طوله قال : وهو مشبه بعراق القربة، وهو الذي يثني منها فيخرز وقال الأصمعي : هو معرب عن ( إيران شهر ) وفيه بُعْد عن لفظه، وإن كانت العرب قد تتغلغل في التعريب بما هو مثل ذلك ويقال : بل هو مأخوذ من عروق الشجر، والعراق من منابت الشجر فكأنه جمع عرق وقال شمرٌ : قال أبو عمرو : سميت العراق عراقاً لقربها من البحر قال : وأهل الحجاز يسمون ما كان قريباً من البحر عراقاً قال ياقوت : والعراق أعدلُ أرض اللهَ هواءً وأصحُها مِزَاجاً وماءً، فلذلك كان أهل العراق هم أهل العقول الصحيحة، والآراء الراجحة، والشهوات المحمودة، والشمائل الظريفة، والبراعة في كل صناعة، مع اعتدال الأعضاء، واستواء الأخلاط، وسُمرة الألوان، وهم الذي أنضَجتهم الأرحام فلم تخرجهم بين أشقر وأصهب وأبرص، كالذي يعتري أرحام نساء الصقالبة في الشقرة، ولم يتجاوز أرحام نسائهم في النضج إلى الإحراق كالزنج والنوبة والحبشة الذين حَلِكَ لونهم ونتن ريحُهم وتَفَلفلَ شعرهم وفسدت آراؤهم وعقولهم، فمن عداهمُ بين حمير لم ينضج ومجاوز للقدر حتى خرج عن الاعتدال قالوا : وليس بالعراق مشاتٍ كمشاتي الجبال، ولا مصيف كمصيف عُمَان، ولا صواعق كصواعق تهامة، ولا دماميل كدماميل الجزيرة، ولا جرب كجرَب الزنج، ولا طواعين كطواعين الشام، ولا طحال كطحال البحرين، ولا حمى كحمَى خَيبرَ، ولا كزلازل سيراف، ولا كحرارات الأهواز، ولا كأفاعي سجستان، وثعابين مصر، وعقارب نصيبين، ولا تلون هوائها تلوُنَ هواء مصر، وهو الهواءُ الذي لم يجعل اللَه فيه في أرزاق أهله نصيباً من الرحمة التي نشرها اللَه بين عباده وبلاده حتى ضارع في ذلك عدَن أبين .

الشأمُ : بفتح أوله وسكون همزته، والشأم بفتح همزته مثل نَهْر ونَهَر لُغتان ولا تمد، وفيها لغة ثالثة وهي ( الشامُ ) بغير همز، كذا يزعم اللغويون وقد جاءت في شعر قديم ممدود وقال أبو بكر الأنباري : في اشتقاقه وجهان، يجوز أن يكون مأخوذاً من اليد الشؤمى وهي اليسرى، ويجوز أن يكون فعلى من الشؤم قال أبو القاسم : قال جماعة من أهل اللغة : يجوز أن لا يُهمز فيقال : الشام، فيكون جمع شامة، سميت بذلك لكثرة قُراها وتداني بعضها من بعض، فشُبهت بالشامات وقال أهل الأثر : سميت بذلك لأن قوماً من كنعان بن حام خرجوا عند التفريق فتشاءموا إليها، أي : أخذوا ذات الشمال فسميت بالشام لذلك وقال آخرون من أهل الأثر منهم الشرقي : سميت الشام بِسَامِ بن نوح عليه السلام، وذلك أنه أول من نزلها فجُعلت السين شيناً لتغير اللفظ العجمي قال ياقوت : وقرأتُ في بعض كُتب الفُرس في قصة سنحاريب أن بني إسرائيل تمزقت بعد موت سليمان بن داود عليه السلام فصار منهم سبطان ونصف سبط في بيت المقدس، فهم سبط داود وانخزل تسعة أسباط ونصف إلى مدينة يقال لها شامين، وبها سميت الشام وهي بأرض فلسطين، وكان بها مَتجَرُ العرب وميرتهم، وكان اسم الشام الأول ( سُورَى ) فاختصرت العرب من ( شامين ) الشام، وغلب على الصقع كله، وهذا مثل فِلَسْطِين وقِنِّسْرِين ونُصَيْبِين وحُوَارين وهو كثير في نواحي الشام وقيل : سميت بذلك لأنها شامة القبلة قلتُ : وهذا قول فاسد، لأن القبلة لا شامة لها ولا يمين، لأنها مقصد من كل وجه يمنة لقوم وشامةُ لآخرين، ولكن الأقوال المتقدمة حسنة جميعهاً .

الـمَوصِلُ : بالفتح وكسر الصاد، المدينة المشهورة العظيمة إحدى قواعد بلاد الإسلام، قليلة النظير كِبراً وعِظَماً، وكثرةَ خلق، وسعة رُقعة، فهي محط رحال الركبان، ومنها يقصد إلى جميع البلدان، فهي باب العراق ومفتاح خراسان، ومنها يقصد إلى أذربيجان والموصل لأن القاصد إلى الجهتين قَلَّ من لا يمر بها قالوا : وسميت الموصل لأنها وصلت بين الجزيرة والعراق، وقيل : وصلت بين دجلة والفرات، وقيل : لأنها وصلت بين بلد سنجار والحديثة، وقيل : بل المَلِك الذي أحدثها كان يسمى الموصل، وهي مدينة قديمة الأسم على طرف دجلة . هذا والله يحفظكم ويرعاكم منقول مع خالص التحية وأطيب الأمنيات وأنتم سالمون وغانمون والسلام .

جعد الوبر
04 - 11 - 2009, 03:44
مشكور وما قصرت ولا هنت

خيَّال الغلباء
04 - 11 - 2009, 11:38
جعد الوبر جزاك الله خيراً ولا هنت

منسم الحفيات
07 - 11 - 2009, 07:33
مشكور وما قصرت ولا هنت

خيّال العرفا
09 - 11 - 2009, 01:07
مشكور وما قصرت ولا هنت

خيَّال الغلباء
19 - 11 - 2009, 20:42
منسم الحفيات جزاك الله خيراً ولا هنت

خيَّال الغلباء
22 - 11 - 2009, 21:19
خيال العرفا جزاك الله خيراً ولا هنت