خيال التوحيد
23 - 09 - 2009, 23:27
حق الله على العباد (محاضرة مفرغة للشيخ ربيع بن هادي
إنّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا ومن سيّئاتِ أعمالنا، من يهدهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمّدًا عبدُه ورسولُُه.
﴿يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ` يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 71].
أمّا بعد: فإنّ أصدقَ الحديثِ كلامُ الله وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة وكلَّ بدعةٍ ضلالة وكلّ ضلالةٍ في النار.
أيها الإخوة والأبناء إنها لفرصة طيبة مباركة أن نلتقي بإخواننا وأبنائنا في بيت الله ـ تبارك وتعالىـ وفي طلب مرضاته عزَّوجلَّ وفي التعرف على ما يتيسر لنا من العلم فيما يتعلق بحق الله
ـ تبارك وتعالى ـ وحقِّ المسلمين، وهذه أمورٌ عظيمةٌ جدًا في الإسلام، لا بدَّ للمسلم أن يعرفها ويقف عند حدود الله فيها، فيجب علينا معرفة الله ـ تبارك وتعالىـ بأسمائه وصفاته العُلى؛ كما دلَّ على ذلك كتابُ الله وسنةُ رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فللَّه أسماء يجب أن نؤمن بها، ولله صفات يجب أن نؤمن بها، ولله حقوقٌ من عبادته وحده، وإخلاصِ الدِّين له، من صلاة وصيام وصدقة وبِر ودعاء وخوف ورجاء وتوكل، هذه بعض حقوق الله ـ تبارك وتعالى ـ التي يجب أن نعرفها حقَّ المعرفة في ضوء كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى طريقة المؤمنين الذين لا يجوز للمسلمين أفرادًا وجماعات أن يحيدوا عن طريقهم في هذا الباب وفي غيره من أبواب العقائد والأحكام،
، هذه أمور ليست بالسهلة ولا ينبغي للإنسان أن يتهاون فيها؛ لأنَّ الله ما خلقه إلا ليعرف ربَّه ويعرف حقَّه ويعبده حقَّ عبادته سبحانه وتعالى؛ فالله يقول : ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات/56-58] وحينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث رُسُلَه وأمرَاءَه وقُوَّادَ جيوشه كان يأمرهم بالدَّعوة إلى الله ـ تبارك وتعالىـ وإلى معرفة الله ـ عزَّوجلـ وإلى معرفة دينه الحق؛ فلمَّا بَعَثَ مُعاذًا إلى اليمن قال: <إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ؛ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله > وفي رواية <فَلْيَكُنْ أَوَلَ مَاتَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أَنْ يَعْرِفُوا اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالى> والشهادة لله بالوحدانية وبالألوهية لا تأتي إلا بعد معرفته؛ فلا خلاف بين الرِّوايتين <فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله؛ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ في كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَة؛ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمَ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَّدَ عَلَى فُقَرَائِهِمْ؛ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ المظْلُوم فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَاب>[1] فهذا الحديث فيه طلب معرفة الله ـ تبارك وتعالى ـ بأسمائه وصفاته؛ فنعرف الله بجلاله وعظمته وأنَّه ربُّ هذا الكون وسيِّده ومالكه، وأنَّه على عرشه استوى كما أخبر بذلك في آيات كثيرة، وأنَّه في السَّماء، وأنَّه ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر/10] وأنَّه كان معراج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربِّه ـ تبارك وتعالى ـ إلى السَّموات العُلى، ومَرَّ في هذه اللَّيلة على الأنبياء، في كلِّ سماء نبي أو نبيان حتى وصل صلى الله عليه وسلم إلى مستوى سمع فيه صرير الأقلام، وكلَّمه ربُّه ـ سبحانه وتعالىـ وفرض عليه الصَّلوات الخمس، فرضها أولاً خمسين، ثم نزل إلى موسى عليه السلام فسأله ماذا افترض الله على أُمَّتك؟ قال: <افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ صَلاَةً فَقَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ في ذَلِكَ فَعَجَزُوا أَوْ نَكِلُوا؛ فَرَاجِعْ رَبَّكَ وَاسْأَلْهُ التَخْفِيفَ، فَمَا زَالَ يُرَاجِعُ رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَرَّاتٍ يَصْعَدُ إِلى اللهِ وَينْزِلُ إِلى مُوسَى حَتَّى تَحَوَلَتْ الخَمْسِين إِلَى خَمْسٍ؛ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ مُوسَى: رَاجِعْ رَبَّكَ، قَالَ: إِنّي اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِِّي فَقَالَ اللهُ عَزَّوَجَلَّ هُنَّ خَمْسٌ وَهُنَّ خَمْسُونَ في الأَجْر>[2]؛ فهذه من الأمور التي يجب أن يعرفها المسلم؛ يعرف جملتها، وعلى طلاب العلم أن يعرفوا تفاصيلها؛ فإنَّ هناك أمورًا محتمة ومتعيِّنة على كلِّ فرد أن يعرفها، فمن الأمور المتعيِّنة على كلِّ شخص هي الشهادة لله بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرِّسالة، والإيمان بالله وأسمائه وصفاته، والإيمان بملائكته ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وأنَّ هناك خمس صلواتٍ مكتوبة يجب أن يتعلم المسلم ما تصح به الصلاة وما يفسدها، وأنَّ هناك زكاة واجبة على المسلمين؛ فإذا كان ذا مالٍ؛ فيجب أن يعرف تفاصيل هذه الزَّكاة، وأنَّه يجب عليه الحج؛ فإذا تعيَّن عليه الحج وتوفَّرت شروط الوجوب فعليه أن يعرف تفاصيل الحج وما يصح به وما يفسده، وكذا يعرف من المحرَّمات، مثل تحريم الخمر، وتحريم الخنزير، وتحريم الرِّبا، وتحريم الزِّنا، وأكل مال اليتيم بالباطل، وما شاكل ذلك من الأمور التي يتعيَّن على كلِّ مسلم حُرًّا كان أو عبدًا ذكرًا كان أو أنثى، عليه أن يعرف هذه الأمور في جملتها، ويعرف من تفاصيلها ما يتعيَّن عليه معرفته، ثم يجب أن يكون هناك من طلاَّب العلم من يعرفون فروض الكفايات والتفاصيل في العقائد الغيبية وفي الشَّرائع وفي الحلال والحرام يتعيَّن معرفتها على العلماء وطلاَّب العلم، وينبغي لكلِّ مسلم أن يُعِدَّ نفسه لأن يكون من طلاَّب العلم؛ ليعرف الله ويعرف دينه ويعرف رسوله ويعرف شرائع الإسلام ثم يدعو إليها، هذا أمر لابدَّ منه وأن يكون في المسلمين من يقوم به، فينبغي لكلِّ من تتوفر فيه الكفاءة أن يُرَشِّحَ نفسه أن يكون ممن يقوم بهذه الفرائض، فرائض الكفاية؛ فيؤديها للمسلمين ويؤديها عن المسلمين؛ فإذا توفر العدد الكافي للنُّهوض بهذا الواجب لم يبق على سائر المسلمين إلا معرفة ما يتعيَّن عليهم معرفته، يجب على العامي وسائر أفراد المسلمين أن يعرفوا ما أوجبه الله عليهم من فروض الأعيان، ثم بعد ذلك الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله والبِر بالمؤمنين واحترام أموالهم وأنفسهم وأعراضهم؛ فإنَّ كثيراً من النَّاس يتساهلون في هذه الأمور، في حقوق الله ـ تبارك وتعالى ـ وفي حقوق المسلمين ولا سيما في هذه الأيام، كثر الظلم وانتهاك الأعراض ظلمًا وبغيًا وعدوانًا أعراض المؤمنين الأبرياء، وخاصَّة من يدعون إلى منهج الله الحق وإلى منهج السلف الصالح يدعون إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتصدى لهم أهل الأهواء وأهل الفتن بالطَّعن والتشويه على طريقة أعداء الأنبياء؛ فإنَّ هذه الأصناف تؤذي ورثة الأنبياء الدُّعاة إلى دين الله وشرعه، فيجب أن يرجع هؤلاء إلى الله، وأن يتوبوا إلى الله، وأن يُدركوا أنهم وقعوا في وادٍ من أودية الهلاك ـ والعياذ بالله ـ حيث يصدُّون عن سبيل الله الحق بتصرفاتهم هذه ومواقفهم التي تصدُّ عباد الله عن دين الله، وعن شريعة الله، وعن منهج الله الحق، ويجب على هؤلاء أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يقفوا بين يدي الله ـ تبارك وتعالى ـ؛ فيحاسبهم الحساب الشَّديد، وليعرفوا أنَّه ما من كلمة يقولونها إلا وهي مُسجَّلة في صحائف سيئاتهم السَّوداء، ما من كلمة باطل يقولونها للصدِّ عن سبيل الله وتشويه أوليائه والدعاة إلى منهجه إلاَّ سوف يحاسبهم الله ـ تبارك وتعالى ـ عليها وسوف يوفيهم جزاءهم إلا أن يتوبوا إلى الله وينيبوا إليه ويُكَفِّروا عن هذا الأمر الذي وقعوا فيه وأوقعوا فيه كثيراً من النَّاس، قال الرسولصلى الله عليه وسلم :< إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ من رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لها بَالًا يرفع الله بها دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ من سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لها بَالًا يهوى بها في جَهَنَّمَ>[3]؛ فيجب أن يَتَحَرَّى الكلام الذي يرفعه عند الله درجات، ويبتعد عن الكلام والأقوال والشَّائعات الظالمة التي تهوي به في جهنَّم إلى دركات ودركات ـ والعياذ بالله ـ، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق/18]، وقال النَّبي صلى الله عليه وسلم<وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ>[4]، فنعوذ بالله ونعوذ بالله من هذا المصير؛ أن نحصد شرور ما تجنيه ألسنتنا؛ فقيِّد لسانك بتقوى الله ـتبارك وتعالى ـ ومراقبة الله، واستشعر أنَّك ما يخطر في قلبك من باطل وشر إلا وربك مُطَّلِع عليه ـ سبحانه وتعالى ـ ولا يتحرَّك لسانك بشرٍّ وباطل إلا والله مراقبك والملائكة يكتبون ذلك عنك ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَاماً كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)﴾ [الإنفطار/10-14] ويقول الرَّسول الكريم صلى الله عليه وسلم <عَلاَمَةُ المنَافِقِ أَرْبَعٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ>[5]، هذه من علامات النِّفاق <إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ> كأن تكون بينك وبينه خصومة في أمر دنيوي أو أمر ديني فيذهب يفتري الأكاذيب الظالمة وينهش أعراض الأبرياء الذين يخاصمونه، ويشيع هذا في أرجاء الأرض ويذهب كثيرٌ من النَّاس يردِّد هذا الباطل ويحارب الحق ويخاصم ـ والعياذ بالله ـ في باطل، وقد قال النَّبي صلى الله عليه وسلم:<مَنْ خَاَصمَ في بَاطِلٍ لَمْ يَزَلْ في سَخَطِ اللهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ حَتَّى يَنْزِعَ مما قال، وَمَنْ قَالَ في مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيه أَسْكَنَهُ اللهُ رَدْغَةَ الخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مما قَالَ>[6]، هذه أمور عظيمة جدًا، خصوصاً إذا كانت الخصومة في دين الله؛ في الصِّراع بين الحق والباطل وفي الصِّراع بين المناهج الصحيحة والمناهج الفاسدة وفي الصِّراع بين العقائد الصحيحة والعقائد الفاسدة، فما يكتفي الإنسان بفساد منهجه وفساد عقيدته ويقف عند هذا الحد الخطير، بل يتجاوز ذلك إلى مخاصمة الحق بالباطل ـ والعياذ بالله ـ ؛ فهذا يسكنه الله ـ تبارك وتعالى ـ في ردغة الخبال، وردغة الخبال كما فَسَّرَها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي صديد أهل النار ، لعل هذه المنطقة التي يسكن فيها المخاصم في الباطل، والمتقوِّل على الأبرياء ما ليس فيهم هي أخسُّ زوايا جهنم وأقذرها وأنتنها وأخبثها ـ والعياذ بالله ـ إن لم ينزع عمّا قال ويتوب إلى الله .
فلينظر المسلم فإنه إذا خاصم أهل الحق فإنما يخاصم الله ـ تبارك وتعالىـ إنما يحارب الله ـ تبارك وتعالى ـ ويحارب دينه ـ عزَّوجلَّ ـ ولن ينفعه أهل الباطل إذا انتصر لهم بالأكاذيب والشَّائعات والإفتراءات، لن يغنوا عنه من الله شيئًا، وسوف يتبرأ بعضهم من بعض، وسيصبح بعضهم يلعن بعضًا؛ كما قال عزَّ وجلَّ ﴿الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف/67]، المتَّقي هو الذي يلتزم أوامر الله، ويجتنب نواهيه ويحفظ قلبه ولسانه وجوارحه من كلِّ ما يغضب الله ومن كلِّ ما يسخط الله، ويُلزم قلبه ومشاعره وجوارحه كلَّ ما يرضي الله ـ تبارك وتعالى ـ؛ فعلينا أيها الإخوة أن نتحرى مرضاة الله ـ تبارك وتعالى ـ، وأن نتجنَّب مساخطه في عقائدنا ومناهجنا وعباداتنا وأعمالنا وأقوالنا، ونخلص الدِّين لله تبارك وتعالى كما أمرنا الله ـ تبارك وتعالى ـ ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾[البيِّنة:5] ما أُمِروا إلا بهذا، وما أُمِروا بالأكاذيب والأباطيل والافتراءات ـ والعياذ بالله ـ، بل نهاهم الله أشدَّ النهي وتوعدهم أشدَّ الوعيد على الباطل وارتكاب الباطل في الأقوال والأفعال والتصرُّفات؛ فلنتحرَّ مرضاة الله تبارك وتعالى ولنخلص لله ديننا بأن نُمحِّص عقائدنا من شوائب الأباطيل والخرافات والبدع والكهانة والسِّحر والالتفاف حول السَّحرة والكهنة والمشعوذين؛ بل نلتفُّ حول أهل الحق ونطلب منهم دين الله الحق، ونتعلم منهم العقائد الحقة الصحيحة الصادقة المستمدَّة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونخلص لله في أقوالنا ونخلص لله في أفعالنا، ونخلص لله في سائر تصرُّفاتنا؛ فإنَّنا عباد الله، وما خُلقنا إلاَّ لعبادة الله، وما أمرنا إلاَّ بإخلاص الدِّين لله؛ كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء﴾ [البيِّنة:5] يعني مائلين عن الباطل وعن الشِّرك إلى الحق إلى مرضاة الله ـ تبارك وتعالى ـ ﴿وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾، إقامة الصَّلاة وما أدراكم ما إقامة الصَّلاة! فإنَّ المؤمن الحق إذا وقف في الصَّلاة ترتعد فرائصه خوفًّا من الله ـتبارك وتعالىـ؛ فإنَّه في موقف رهيب بين يدي جَبَّار السَّموات والأرض وهو يناجي الله ـ تبارك وتعالى ـ، فليخشع لله ـ تبارك وتعالى ـ، وهذه الصَّلاة مليئة بتوحيد الله ـ تبارك وتعالى ـ أركانها كلُّها قائمة على توحيد الله ؛ حينما تدخل في الصَّلاة تقول: <الله أكبر> تُوَحِّد الله ـ تبارك وتعالىـ وتعترف بعظمته وجلاله وأنَّ كلَّ شيء يتضاءل ويتلاشى أمام عظمة الله وكبريائه ـ سبحانه وتعالى ـ، وحينما تقرأ أمَّ القرآن المشتملة على توحيد الله، هذه الفاتحة مشتملة على توحيد الأسماء والصِّفات وعلى توحيد العبادة وعلى ذكر الجنة وأهلها والنار وأهلها، لا يُدرك ذلك إلاَّ الفقهاء الذين يفقهون دين الله، فإنَّ قولك:
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:1] هذا جَمَع كلَّ أنواع التوحيد ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، لا نعبد إلا إيَّاك ولا نخلص الدين إلا لك لا نصلي ولا نصوم لانزكي ولا ندعوا لا نتوكل ولا نستغيث إلا بك ﴿وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾في أمور ديننا ودنيانا كلِّها؛ فلا حول لنا ولا قوة إلا بك؛ فهذا توحيد بل التوحيد كله مداره على قوله تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:4] ولهذا يقال لهذه السُّورة أمّ القرآن لأنها جمعت حقائق التوحيد والأحكام والحلال والحرام والجنة والنار ﴿اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (7)﴾ [الفاتحة/6-7]، فيه براءة من اليهود وفيه براءة من النَّصارى وفيه براءة من كل أهل الشِّرك وأهل الضَّلال وأهل البدع والخرافات، فيه تولي أولياء الله ـ تبارك وتعالى ـ والدَّعوة إلى أن يسلكنا الله ـ تبارك وتعالى ـ في صراطه المستقيم وفي سبيلهم الواضح، ثم تقول: <الله أكبر> وتهوي إلى الرُّكوع تعظِّمه سبحانه وتعالى <سبحان ربي العظيم> هذا توحيد وتتصوَّر عظمة الله ـ تبارك وتعالى ـ وأنَّ الكون كلَّه تحت قهره وخاضع لتدبيره وتنظيمه، وكلُّ من في السَّموات والأرض يخشعون له ويَذِلُّون أمامه؛ كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً (95) ﴾ [مريم:93-95].
وأمورٌ عظيمةٌ إذا سجد؛ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم <أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِد>[7]، حينما تكون في هذه الصَّلاة قائمًا وراكعًا فأنت قريب من الله ـ تبارك وتعالى ـ؛ لأنَّك تتصوَّر أنَّ الله يراك، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك وهذا مقام الإحسان؛ فأنت في هذه الصلاة قريبٌ من الله تناجيه لكنَّك أقرب ما تكون من الله ـ تبارك وتعالى ـ حينما تكون في السُّجود وتقول: <سبحان ربي الأعلى وبحمده>، وهذا قرب الرُّوح من الله عزَّوجلَّ ـ؛ فالله فوق سماواته مستوٍ على عرشه، وأنت في الأرض ساجدٌ لله يقرب روحَك، لأنَّك تتصوَّر عظمة الله وجلاله وتخشع له وتذل له وأنت حينئذٍ في غاية الذُّل وغاية الخشوع لعظمته وجلاله؛ فأنت إذًا في حال أنت فيها أقرب إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ من كلِّ الأحوال سواءً كنت في داخل الصَّلاة أو في خارجها؛ فليتصوَّر المسلم في صلته بالله وفي صلاته وفي ذكره لله يتصور أنَّ الله يراه، ويعبد الله كأنَّ الله يراه؛ لأنَّه إذا استصحب هذا المقام؛ مقام مراقبة الله ـ تبارك وتعالى ـ خشع لله، وصحَّت صلاته، وتمَّت صلاته أركانها وشروطها وواجباتها على أكمل الوجوه؛ ولهذا يقول الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) ﴾ [المؤمنون:1-3]، إلى أن يقول : ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) ﴾، هذا أمر عظيم فلندرك أهمية العقيدة وأهمية التوحيد وأهمية الصَّلاة التي هي الرُّكن الثاني بعد الشَّهادتين؛ لأنَّ جبريل عليه السلام جاء إلى الرَّسول صلى الله عليه وسلم يسأله ليُعَلِّمَ النَّاس دينهم، فجبريل عليه السلام سَأَلَ أسئلةً عظيمة، وأجاب عليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إجابةً عظيمةً استوفت أمورَ الدِّين وهو الحديث المشهور بحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الصَّحيح أنَّه قال: <بَيْنَمَا كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ لاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَر وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَيْهِ عَلى فَخِذَيْه>[8]،وهذه جلسة علَّم فيها المسلمين كيف يكون الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالتَّالي كيف يكون الأدب مع العلماء الذي كاد يتضاءل وكاد يتلاشى في هذه الفترة العصيبة؛ فسأل رسولَ الله :<أَخْبِرْني عَنِ الإِسْلاَمِ فَقَالَ: الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ البَيْتَ إِنْ اِسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلا،قَالَ: صَدَقْتَ قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُه> لأنَّ من عادة الجاهل إذا سأل عن أشياء لا يعرفها لا يقول للمجيب صدقت وإنما يقول صدقت من يعرف تلك الإجابة <فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُه>
<قَالَ: فَأَخْبِرْني عَنِ الإِيمَان قَالَ: الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِالله وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمُ الآخِر وَبِالقَدَرِ خَيْرِهِ وِشَرِّهِ قَالَ: فَأَخْبِرْني عَنِ الإِحْسَانِ قَالَ: الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لم تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَالَ: أَخْبِرْني عَنِ السَّاعَةِ قَالَ: مَالمسْؤُولِ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائل قَالَ: فَأَخْبِرْني عّنْ أَمَارَاتها قَالَ: أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ تَرَى الحُفَاَةَ العُرَاةَ العَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ في البُنْيَانِ؛ ثُمَّ ذَهَبَ وَمَكَثَ مَلِيًا؛ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَتَدْرُونَ مَنِ السَّائِل ؟ قَالُوا اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَم قَالَ: ذَلِكَ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ لِيُعَلِّمَكُمْ دِينَكُمْ>؛ فهذه الأمور يجب على عوام المسلمين وخواصِّهم أن يعرفوها حقَّ المعرفة، يعرفها من يعرفها إجمالاً ويؤمن بها حقَّ الإيمان ويطبِّقها في حياته، ويعرف العلماءُ تفاصيلَها، والعامِّي يجب عليه من تفاصيلها ما تصح به صلاته وزكاته وصومه وحجه وعقيدته وإيمانه.
فأسأل الله ـ تبارك وتعالىـ أن يطهِّر قلوبنا من الأحقاد والزَّيغ والظلم والحسد، وأن يطهِّر ألسنتنا من الافتراء والكذب، وأن يُلزمنا الصِّدق وأن يجعلنا وإيَّاكم من الصَّادقين وممن يتحرَّون الصِّدق و<إِنَّ الصِّدْقَ لَيَهْدِي إِلى البِرِّ وَلاَ يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا>[9] فالصِّدق من أسُس الفضائل لا تستقيم الحياة إلا به، والكذب والفجور من المعاول الهدَّامة التي تهدم الأخلاق وتهدم العقائد والأديان وتهدم المجتمعات وتفسد الحياة فليحذره المسلمون؛ لهذا يقول <وَإِنَّ الكذب ليهدى إلى الفجور وإن الفجور ليهدى إلى النار وإن الرجل لَيَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا >؛ فنسأل الله ـ تبارك وتعالى ـ أن يوفقنا وإيَّاكم لتحرِّي الصِّدق حتى نُكتب عند الله من الصِّديقين، وأن يُجنبنا غوائل الكذب والفجور حتى لا نكون ـ والعياذ بالله ـ فجارًا ولا من المكتوبين عند الله من الكذَّابين، ـ ونسأل الله ـ أن يعافينا ويعافي جميع المسلمين، وأن يتوب علينا وعليهم من جميع الذنوب صغائرها وكبائرها ـ؛ إنَّ ربنا لسميع الدعاء وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصبه وسلم ـ .
--------------------------------------------------------------------------------
[1]أخرجه البخاري في الصحيح (3/357رقم1496-فتح) ومسلم في الصحيح (1/272رقم19-نووي) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
[2] أخرجه البخاري في الصحيح (1/458رقم349-فتح) ومسلم في الصحيح (2/284رقم163-نووي) من حديث أبي ذر وأنس بن مالك رضي الله عنهما .
[3] أخرجه البخاري في الصحيح (11/308رقم6476-6477-فتح) ومسلم في الصحيح (18/158رقم2988-نووي)
[4] صحيح لغيره :
أخرجه الطيالسي في المسند (76رقم560) وعبد الرزاق في التفسير (3/109) وأحمد في المسند (5/236، 237) والترمذي في السنن (5/11رقم2616) والنسائي في السنن الكبرى (6/428رقم11394) وابن ماجه في السنن (4/342رقم3973) والحاكم في المستدرك (2/447) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه .
قال الترمذي :"هذا حديث حسن صحيح".
وقال الحاكم :"هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
والحديث صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (656رقم3973)
[5] أخرجه البخاري في الصحيح (1/89رقم34-فتح) ومسلم في الصحيح (2/61رقم58-نووي) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما .
[6] صحيح لغيره :
أخرجه ابن فضيل في الدعاء (269رقم93) وأحمد في المسند (2/82) وأبو داود في السنن (3/305رقم3597) والطبراني في المعجم الأوسط (6/309رقم6491) والمعجم الكبير (12/388رقم13435) وأبو نعيم في الحلية (10/219) والحاكم في المستدرك (2/27) والبيهقي في السنن الكبرى (6/82) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما .
قال الحاكم :"صحيح الإسناد" ، ووافقه الذهبي ، ووافقهما الألباني في السلسلة الصحيحة (1/2/798رقم437) .
[7] أخرجه مسلم في الصحيح (4/266رقم482-نووي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
[8] رواه أحمد (1/51-52) ومسلم (كتاب الإيمان باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان. برقم: 8)
[9] أخرجه مسلم في الصحيح (16/241رقم2607-نووي) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
إنّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا ومن سيّئاتِ أعمالنا، من يهدهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمّدًا عبدُه ورسولُُه.
﴿يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ` يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 71].
أمّا بعد: فإنّ أصدقَ الحديثِ كلامُ الله وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة وكلَّ بدعةٍ ضلالة وكلّ ضلالةٍ في النار.
أيها الإخوة والأبناء إنها لفرصة طيبة مباركة أن نلتقي بإخواننا وأبنائنا في بيت الله ـ تبارك وتعالىـ وفي طلب مرضاته عزَّوجلَّ وفي التعرف على ما يتيسر لنا من العلم فيما يتعلق بحق الله
ـ تبارك وتعالى ـ وحقِّ المسلمين، وهذه أمورٌ عظيمةٌ جدًا في الإسلام، لا بدَّ للمسلم أن يعرفها ويقف عند حدود الله فيها، فيجب علينا معرفة الله ـ تبارك وتعالىـ بأسمائه وصفاته العُلى؛ كما دلَّ على ذلك كتابُ الله وسنةُ رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فللَّه أسماء يجب أن نؤمن بها، ولله صفات يجب أن نؤمن بها، ولله حقوقٌ من عبادته وحده، وإخلاصِ الدِّين له، من صلاة وصيام وصدقة وبِر ودعاء وخوف ورجاء وتوكل، هذه بعض حقوق الله ـ تبارك وتعالى ـ التي يجب أن نعرفها حقَّ المعرفة في ضوء كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى طريقة المؤمنين الذين لا يجوز للمسلمين أفرادًا وجماعات أن يحيدوا عن طريقهم في هذا الباب وفي غيره من أبواب العقائد والأحكام،
، هذه أمور ليست بالسهلة ولا ينبغي للإنسان أن يتهاون فيها؛ لأنَّ الله ما خلقه إلا ليعرف ربَّه ويعرف حقَّه ويعبده حقَّ عبادته سبحانه وتعالى؛ فالله يقول : ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات/56-58] وحينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث رُسُلَه وأمرَاءَه وقُوَّادَ جيوشه كان يأمرهم بالدَّعوة إلى الله ـ تبارك وتعالىـ وإلى معرفة الله ـ عزَّوجلـ وإلى معرفة دينه الحق؛ فلمَّا بَعَثَ مُعاذًا إلى اليمن قال: <إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ؛ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله > وفي رواية <فَلْيَكُنْ أَوَلَ مَاتَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أَنْ يَعْرِفُوا اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالى> والشهادة لله بالوحدانية وبالألوهية لا تأتي إلا بعد معرفته؛ فلا خلاف بين الرِّوايتين <فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله؛ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ في كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَة؛ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمَ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَّدَ عَلَى فُقَرَائِهِمْ؛ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ المظْلُوم فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَاب>[1] فهذا الحديث فيه طلب معرفة الله ـ تبارك وتعالى ـ بأسمائه وصفاته؛ فنعرف الله بجلاله وعظمته وأنَّه ربُّ هذا الكون وسيِّده ومالكه، وأنَّه على عرشه استوى كما أخبر بذلك في آيات كثيرة، وأنَّه في السَّماء، وأنَّه ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر/10] وأنَّه كان معراج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربِّه ـ تبارك وتعالى ـ إلى السَّموات العُلى، ومَرَّ في هذه اللَّيلة على الأنبياء، في كلِّ سماء نبي أو نبيان حتى وصل صلى الله عليه وسلم إلى مستوى سمع فيه صرير الأقلام، وكلَّمه ربُّه ـ سبحانه وتعالىـ وفرض عليه الصَّلوات الخمس، فرضها أولاً خمسين، ثم نزل إلى موسى عليه السلام فسأله ماذا افترض الله على أُمَّتك؟ قال: <افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ صَلاَةً فَقَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ في ذَلِكَ فَعَجَزُوا أَوْ نَكِلُوا؛ فَرَاجِعْ رَبَّكَ وَاسْأَلْهُ التَخْفِيفَ، فَمَا زَالَ يُرَاجِعُ رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَرَّاتٍ يَصْعَدُ إِلى اللهِ وَينْزِلُ إِلى مُوسَى حَتَّى تَحَوَلَتْ الخَمْسِين إِلَى خَمْسٍ؛ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ مُوسَى: رَاجِعْ رَبَّكَ، قَالَ: إِنّي اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِِّي فَقَالَ اللهُ عَزَّوَجَلَّ هُنَّ خَمْسٌ وَهُنَّ خَمْسُونَ في الأَجْر>[2]؛ فهذه من الأمور التي يجب أن يعرفها المسلم؛ يعرف جملتها، وعلى طلاب العلم أن يعرفوا تفاصيلها؛ فإنَّ هناك أمورًا محتمة ومتعيِّنة على كلِّ فرد أن يعرفها، فمن الأمور المتعيِّنة على كلِّ شخص هي الشهادة لله بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرِّسالة، والإيمان بالله وأسمائه وصفاته، والإيمان بملائكته ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وأنَّ هناك خمس صلواتٍ مكتوبة يجب أن يتعلم المسلم ما تصح به الصلاة وما يفسدها، وأنَّ هناك زكاة واجبة على المسلمين؛ فإذا كان ذا مالٍ؛ فيجب أن يعرف تفاصيل هذه الزَّكاة، وأنَّه يجب عليه الحج؛ فإذا تعيَّن عليه الحج وتوفَّرت شروط الوجوب فعليه أن يعرف تفاصيل الحج وما يصح به وما يفسده، وكذا يعرف من المحرَّمات، مثل تحريم الخمر، وتحريم الخنزير، وتحريم الرِّبا، وتحريم الزِّنا، وأكل مال اليتيم بالباطل، وما شاكل ذلك من الأمور التي يتعيَّن على كلِّ مسلم حُرًّا كان أو عبدًا ذكرًا كان أو أنثى، عليه أن يعرف هذه الأمور في جملتها، ويعرف من تفاصيلها ما يتعيَّن عليه معرفته، ثم يجب أن يكون هناك من طلاَّب العلم من يعرفون فروض الكفايات والتفاصيل في العقائد الغيبية وفي الشَّرائع وفي الحلال والحرام يتعيَّن معرفتها على العلماء وطلاَّب العلم، وينبغي لكلِّ مسلم أن يُعِدَّ نفسه لأن يكون من طلاَّب العلم؛ ليعرف الله ويعرف دينه ويعرف رسوله ويعرف شرائع الإسلام ثم يدعو إليها، هذا أمر لابدَّ منه وأن يكون في المسلمين من يقوم به، فينبغي لكلِّ من تتوفر فيه الكفاءة أن يُرَشِّحَ نفسه أن يكون ممن يقوم بهذه الفرائض، فرائض الكفاية؛ فيؤديها للمسلمين ويؤديها عن المسلمين؛ فإذا توفر العدد الكافي للنُّهوض بهذا الواجب لم يبق على سائر المسلمين إلا معرفة ما يتعيَّن عليهم معرفته، يجب على العامي وسائر أفراد المسلمين أن يعرفوا ما أوجبه الله عليهم من فروض الأعيان، ثم بعد ذلك الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله والبِر بالمؤمنين واحترام أموالهم وأنفسهم وأعراضهم؛ فإنَّ كثيراً من النَّاس يتساهلون في هذه الأمور، في حقوق الله ـ تبارك وتعالى ـ وفي حقوق المسلمين ولا سيما في هذه الأيام، كثر الظلم وانتهاك الأعراض ظلمًا وبغيًا وعدوانًا أعراض المؤمنين الأبرياء، وخاصَّة من يدعون إلى منهج الله الحق وإلى منهج السلف الصالح يدعون إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتصدى لهم أهل الأهواء وأهل الفتن بالطَّعن والتشويه على طريقة أعداء الأنبياء؛ فإنَّ هذه الأصناف تؤذي ورثة الأنبياء الدُّعاة إلى دين الله وشرعه، فيجب أن يرجع هؤلاء إلى الله، وأن يتوبوا إلى الله، وأن يُدركوا أنهم وقعوا في وادٍ من أودية الهلاك ـ والعياذ بالله ـ حيث يصدُّون عن سبيل الله الحق بتصرفاتهم هذه ومواقفهم التي تصدُّ عباد الله عن دين الله، وعن شريعة الله، وعن منهج الله الحق، ويجب على هؤلاء أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يقفوا بين يدي الله ـ تبارك وتعالى ـ؛ فيحاسبهم الحساب الشَّديد، وليعرفوا أنَّه ما من كلمة يقولونها إلا وهي مُسجَّلة في صحائف سيئاتهم السَّوداء، ما من كلمة باطل يقولونها للصدِّ عن سبيل الله وتشويه أوليائه والدعاة إلى منهجه إلاَّ سوف يحاسبهم الله ـ تبارك وتعالى ـ عليها وسوف يوفيهم جزاءهم إلا أن يتوبوا إلى الله وينيبوا إليه ويُكَفِّروا عن هذا الأمر الذي وقعوا فيه وأوقعوا فيه كثيراً من النَّاس، قال الرسولصلى الله عليه وسلم :< إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ من رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لها بَالًا يرفع الله بها دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ من سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لها بَالًا يهوى بها في جَهَنَّمَ>[3]؛ فيجب أن يَتَحَرَّى الكلام الذي يرفعه عند الله درجات، ويبتعد عن الكلام والأقوال والشَّائعات الظالمة التي تهوي به في جهنَّم إلى دركات ودركات ـ والعياذ بالله ـ، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق/18]، وقال النَّبي صلى الله عليه وسلم<وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ>[4]، فنعوذ بالله ونعوذ بالله من هذا المصير؛ أن نحصد شرور ما تجنيه ألسنتنا؛ فقيِّد لسانك بتقوى الله ـتبارك وتعالى ـ ومراقبة الله، واستشعر أنَّك ما يخطر في قلبك من باطل وشر إلا وربك مُطَّلِع عليه ـ سبحانه وتعالى ـ ولا يتحرَّك لسانك بشرٍّ وباطل إلا والله مراقبك والملائكة يكتبون ذلك عنك ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَاماً كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)﴾ [الإنفطار/10-14] ويقول الرَّسول الكريم صلى الله عليه وسلم <عَلاَمَةُ المنَافِقِ أَرْبَعٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ>[5]، هذه من علامات النِّفاق <إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ> كأن تكون بينك وبينه خصومة في أمر دنيوي أو أمر ديني فيذهب يفتري الأكاذيب الظالمة وينهش أعراض الأبرياء الذين يخاصمونه، ويشيع هذا في أرجاء الأرض ويذهب كثيرٌ من النَّاس يردِّد هذا الباطل ويحارب الحق ويخاصم ـ والعياذ بالله ـ في باطل، وقد قال النَّبي صلى الله عليه وسلم:<مَنْ خَاَصمَ في بَاطِلٍ لَمْ يَزَلْ في سَخَطِ اللهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ حَتَّى يَنْزِعَ مما قال، وَمَنْ قَالَ في مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيه أَسْكَنَهُ اللهُ رَدْغَةَ الخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مما قَالَ>[6]، هذه أمور عظيمة جدًا، خصوصاً إذا كانت الخصومة في دين الله؛ في الصِّراع بين الحق والباطل وفي الصِّراع بين المناهج الصحيحة والمناهج الفاسدة وفي الصِّراع بين العقائد الصحيحة والعقائد الفاسدة، فما يكتفي الإنسان بفساد منهجه وفساد عقيدته ويقف عند هذا الحد الخطير، بل يتجاوز ذلك إلى مخاصمة الحق بالباطل ـ والعياذ بالله ـ ؛ فهذا يسكنه الله ـ تبارك وتعالى ـ في ردغة الخبال، وردغة الخبال كما فَسَّرَها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي صديد أهل النار ، لعل هذه المنطقة التي يسكن فيها المخاصم في الباطل، والمتقوِّل على الأبرياء ما ليس فيهم هي أخسُّ زوايا جهنم وأقذرها وأنتنها وأخبثها ـ والعياذ بالله ـ إن لم ينزع عمّا قال ويتوب إلى الله .
فلينظر المسلم فإنه إذا خاصم أهل الحق فإنما يخاصم الله ـ تبارك وتعالىـ إنما يحارب الله ـ تبارك وتعالى ـ ويحارب دينه ـ عزَّوجلَّ ـ ولن ينفعه أهل الباطل إذا انتصر لهم بالأكاذيب والشَّائعات والإفتراءات، لن يغنوا عنه من الله شيئًا، وسوف يتبرأ بعضهم من بعض، وسيصبح بعضهم يلعن بعضًا؛ كما قال عزَّ وجلَّ ﴿الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف/67]، المتَّقي هو الذي يلتزم أوامر الله، ويجتنب نواهيه ويحفظ قلبه ولسانه وجوارحه من كلِّ ما يغضب الله ومن كلِّ ما يسخط الله، ويُلزم قلبه ومشاعره وجوارحه كلَّ ما يرضي الله ـ تبارك وتعالى ـ؛ فعلينا أيها الإخوة أن نتحرى مرضاة الله ـ تبارك وتعالى ـ، وأن نتجنَّب مساخطه في عقائدنا ومناهجنا وعباداتنا وأعمالنا وأقوالنا، ونخلص الدِّين لله تبارك وتعالى كما أمرنا الله ـ تبارك وتعالى ـ ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾[البيِّنة:5] ما أُمِروا إلا بهذا، وما أُمِروا بالأكاذيب والأباطيل والافتراءات ـ والعياذ بالله ـ، بل نهاهم الله أشدَّ النهي وتوعدهم أشدَّ الوعيد على الباطل وارتكاب الباطل في الأقوال والأفعال والتصرُّفات؛ فلنتحرَّ مرضاة الله تبارك وتعالى ولنخلص لله ديننا بأن نُمحِّص عقائدنا من شوائب الأباطيل والخرافات والبدع والكهانة والسِّحر والالتفاف حول السَّحرة والكهنة والمشعوذين؛ بل نلتفُّ حول أهل الحق ونطلب منهم دين الله الحق، ونتعلم منهم العقائد الحقة الصحيحة الصادقة المستمدَّة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونخلص لله في أقوالنا ونخلص لله في أفعالنا، ونخلص لله في سائر تصرُّفاتنا؛ فإنَّنا عباد الله، وما خُلقنا إلاَّ لعبادة الله، وما أمرنا إلاَّ بإخلاص الدِّين لله؛ كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء﴾ [البيِّنة:5] يعني مائلين عن الباطل وعن الشِّرك إلى الحق إلى مرضاة الله ـ تبارك وتعالى ـ ﴿وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾، إقامة الصَّلاة وما أدراكم ما إقامة الصَّلاة! فإنَّ المؤمن الحق إذا وقف في الصَّلاة ترتعد فرائصه خوفًّا من الله ـتبارك وتعالىـ؛ فإنَّه في موقف رهيب بين يدي جَبَّار السَّموات والأرض وهو يناجي الله ـ تبارك وتعالى ـ، فليخشع لله ـ تبارك وتعالى ـ، وهذه الصَّلاة مليئة بتوحيد الله ـ تبارك وتعالى ـ أركانها كلُّها قائمة على توحيد الله ؛ حينما تدخل في الصَّلاة تقول: <الله أكبر> تُوَحِّد الله ـ تبارك وتعالىـ وتعترف بعظمته وجلاله وأنَّ كلَّ شيء يتضاءل ويتلاشى أمام عظمة الله وكبريائه ـ سبحانه وتعالى ـ، وحينما تقرأ أمَّ القرآن المشتملة على توحيد الله، هذه الفاتحة مشتملة على توحيد الأسماء والصِّفات وعلى توحيد العبادة وعلى ذكر الجنة وأهلها والنار وأهلها، لا يُدرك ذلك إلاَّ الفقهاء الذين يفقهون دين الله، فإنَّ قولك:
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:1] هذا جَمَع كلَّ أنواع التوحيد ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، لا نعبد إلا إيَّاك ولا نخلص الدين إلا لك لا نصلي ولا نصوم لانزكي ولا ندعوا لا نتوكل ولا نستغيث إلا بك ﴿وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾في أمور ديننا ودنيانا كلِّها؛ فلا حول لنا ولا قوة إلا بك؛ فهذا توحيد بل التوحيد كله مداره على قوله تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:4] ولهذا يقال لهذه السُّورة أمّ القرآن لأنها جمعت حقائق التوحيد والأحكام والحلال والحرام والجنة والنار ﴿اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (7)﴾ [الفاتحة/6-7]، فيه براءة من اليهود وفيه براءة من النَّصارى وفيه براءة من كل أهل الشِّرك وأهل الضَّلال وأهل البدع والخرافات، فيه تولي أولياء الله ـ تبارك وتعالى ـ والدَّعوة إلى أن يسلكنا الله ـ تبارك وتعالى ـ في صراطه المستقيم وفي سبيلهم الواضح، ثم تقول: <الله أكبر> وتهوي إلى الرُّكوع تعظِّمه سبحانه وتعالى <سبحان ربي العظيم> هذا توحيد وتتصوَّر عظمة الله ـ تبارك وتعالى ـ وأنَّ الكون كلَّه تحت قهره وخاضع لتدبيره وتنظيمه، وكلُّ من في السَّموات والأرض يخشعون له ويَذِلُّون أمامه؛ كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً (95) ﴾ [مريم:93-95].
وأمورٌ عظيمةٌ إذا سجد؛ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم <أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِد>[7]، حينما تكون في هذه الصَّلاة قائمًا وراكعًا فأنت قريب من الله ـ تبارك وتعالى ـ؛ لأنَّك تتصوَّر أنَّ الله يراك، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك وهذا مقام الإحسان؛ فأنت في هذه الصلاة قريبٌ من الله تناجيه لكنَّك أقرب ما تكون من الله ـ تبارك وتعالى ـ حينما تكون في السُّجود وتقول: <سبحان ربي الأعلى وبحمده>، وهذا قرب الرُّوح من الله عزَّوجلَّ ـ؛ فالله فوق سماواته مستوٍ على عرشه، وأنت في الأرض ساجدٌ لله يقرب روحَك، لأنَّك تتصوَّر عظمة الله وجلاله وتخشع له وتذل له وأنت حينئذٍ في غاية الذُّل وغاية الخشوع لعظمته وجلاله؛ فأنت إذًا في حال أنت فيها أقرب إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ من كلِّ الأحوال سواءً كنت في داخل الصَّلاة أو في خارجها؛ فليتصوَّر المسلم في صلته بالله وفي صلاته وفي ذكره لله يتصور أنَّ الله يراه، ويعبد الله كأنَّ الله يراه؛ لأنَّه إذا استصحب هذا المقام؛ مقام مراقبة الله ـ تبارك وتعالى ـ خشع لله، وصحَّت صلاته، وتمَّت صلاته أركانها وشروطها وواجباتها على أكمل الوجوه؛ ولهذا يقول الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) ﴾ [المؤمنون:1-3]، إلى أن يقول : ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) ﴾، هذا أمر عظيم فلندرك أهمية العقيدة وأهمية التوحيد وأهمية الصَّلاة التي هي الرُّكن الثاني بعد الشَّهادتين؛ لأنَّ جبريل عليه السلام جاء إلى الرَّسول صلى الله عليه وسلم يسأله ليُعَلِّمَ النَّاس دينهم، فجبريل عليه السلام سَأَلَ أسئلةً عظيمة، وأجاب عليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إجابةً عظيمةً استوفت أمورَ الدِّين وهو الحديث المشهور بحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الصَّحيح أنَّه قال: <بَيْنَمَا كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ لاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَر وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَيْهِ عَلى فَخِذَيْه>[8]،وهذه جلسة علَّم فيها المسلمين كيف يكون الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالتَّالي كيف يكون الأدب مع العلماء الذي كاد يتضاءل وكاد يتلاشى في هذه الفترة العصيبة؛ فسأل رسولَ الله :<أَخْبِرْني عَنِ الإِسْلاَمِ فَقَالَ: الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ البَيْتَ إِنْ اِسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلا،قَالَ: صَدَقْتَ قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُه> لأنَّ من عادة الجاهل إذا سأل عن أشياء لا يعرفها لا يقول للمجيب صدقت وإنما يقول صدقت من يعرف تلك الإجابة <فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُه>
<قَالَ: فَأَخْبِرْني عَنِ الإِيمَان قَالَ: الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِالله وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمُ الآخِر وَبِالقَدَرِ خَيْرِهِ وِشَرِّهِ قَالَ: فَأَخْبِرْني عَنِ الإِحْسَانِ قَالَ: الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لم تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَالَ: أَخْبِرْني عَنِ السَّاعَةِ قَالَ: مَالمسْؤُولِ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائل قَالَ: فَأَخْبِرْني عّنْ أَمَارَاتها قَالَ: أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ تَرَى الحُفَاَةَ العُرَاةَ العَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ في البُنْيَانِ؛ ثُمَّ ذَهَبَ وَمَكَثَ مَلِيًا؛ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَتَدْرُونَ مَنِ السَّائِل ؟ قَالُوا اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَم قَالَ: ذَلِكَ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ لِيُعَلِّمَكُمْ دِينَكُمْ>؛ فهذه الأمور يجب على عوام المسلمين وخواصِّهم أن يعرفوها حقَّ المعرفة، يعرفها من يعرفها إجمالاً ويؤمن بها حقَّ الإيمان ويطبِّقها في حياته، ويعرف العلماءُ تفاصيلَها، والعامِّي يجب عليه من تفاصيلها ما تصح به صلاته وزكاته وصومه وحجه وعقيدته وإيمانه.
فأسأل الله ـ تبارك وتعالىـ أن يطهِّر قلوبنا من الأحقاد والزَّيغ والظلم والحسد، وأن يطهِّر ألسنتنا من الافتراء والكذب، وأن يُلزمنا الصِّدق وأن يجعلنا وإيَّاكم من الصَّادقين وممن يتحرَّون الصِّدق و<إِنَّ الصِّدْقَ لَيَهْدِي إِلى البِرِّ وَلاَ يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا>[9] فالصِّدق من أسُس الفضائل لا تستقيم الحياة إلا به، والكذب والفجور من المعاول الهدَّامة التي تهدم الأخلاق وتهدم العقائد والأديان وتهدم المجتمعات وتفسد الحياة فليحذره المسلمون؛ لهذا يقول <وَإِنَّ الكذب ليهدى إلى الفجور وإن الفجور ليهدى إلى النار وإن الرجل لَيَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا >؛ فنسأل الله ـ تبارك وتعالى ـ أن يوفقنا وإيَّاكم لتحرِّي الصِّدق حتى نُكتب عند الله من الصِّديقين، وأن يُجنبنا غوائل الكذب والفجور حتى لا نكون ـ والعياذ بالله ـ فجارًا ولا من المكتوبين عند الله من الكذَّابين، ـ ونسأل الله ـ أن يعافينا ويعافي جميع المسلمين، وأن يتوب علينا وعليهم من جميع الذنوب صغائرها وكبائرها ـ؛ إنَّ ربنا لسميع الدعاء وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصبه وسلم ـ .
--------------------------------------------------------------------------------
[1]أخرجه البخاري في الصحيح (3/357رقم1496-فتح) ومسلم في الصحيح (1/272رقم19-نووي) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
[2] أخرجه البخاري في الصحيح (1/458رقم349-فتح) ومسلم في الصحيح (2/284رقم163-نووي) من حديث أبي ذر وأنس بن مالك رضي الله عنهما .
[3] أخرجه البخاري في الصحيح (11/308رقم6476-6477-فتح) ومسلم في الصحيح (18/158رقم2988-نووي)
[4] صحيح لغيره :
أخرجه الطيالسي في المسند (76رقم560) وعبد الرزاق في التفسير (3/109) وأحمد في المسند (5/236، 237) والترمذي في السنن (5/11رقم2616) والنسائي في السنن الكبرى (6/428رقم11394) وابن ماجه في السنن (4/342رقم3973) والحاكم في المستدرك (2/447) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه .
قال الترمذي :"هذا حديث حسن صحيح".
وقال الحاكم :"هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
والحديث صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (656رقم3973)
[5] أخرجه البخاري في الصحيح (1/89رقم34-فتح) ومسلم في الصحيح (2/61رقم58-نووي) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما .
[6] صحيح لغيره :
أخرجه ابن فضيل في الدعاء (269رقم93) وأحمد في المسند (2/82) وأبو داود في السنن (3/305رقم3597) والطبراني في المعجم الأوسط (6/309رقم6491) والمعجم الكبير (12/388رقم13435) وأبو نعيم في الحلية (10/219) والحاكم في المستدرك (2/27) والبيهقي في السنن الكبرى (6/82) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما .
قال الحاكم :"صحيح الإسناد" ، ووافقه الذهبي ، ووافقهما الألباني في السلسلة الصحيحة (1/2/798رقم437) .
[7] أخرجه مسلم في الصحيح (4/266رقم482-نووي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
[8] رواه أحمد (1/51-52) ومسلم (كتاب الإيمان باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان. برقم: 8)
[9] أخرجه مسلم في الصحيح (16/241رقم2607-نووي) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.