فاكهة المجلس
04 - 08 - 2004, 22:06
ظمـــــــــــــــــــــــــأ
كنا نسير ونسير : رجلين على هجينين ، الشمس تضطرم فوق رأسينا ، وكل شيء متألق ومترجرج وضياء سابح ، رواب وكثبان حمراء وبرتقالية اللون ، رواب وراء رواب وكثبان وراء كثبان ، وحدة وصمت محرق ورجلان على جينين في مشيتهما تلك المتأرجحة التي تجلب لك النعاس بحيث تنسى النهار والشمس والريح الحارة ، والطريق الطويل إن باقات العشب الأصفر لتنمو غير مزدحمة على قمم الكثبان ، وهنا وهنالك شجيرات من العشب الذي يدعونه الحمض ، تتلوى فوق الرمال كالأفاعي الضخمة ، وأن مشاعرك لتستسلم إلى النعاس ذلك بأنك إنما تهتز في الشداد اهتزازاً ، ولاتكاد تميز أي شيء في ما وراء قرقشة الرمال تحت أخفاف المطيتين واحتكاك غزالة الشداد بركبتك إنن وجهك ملفوف بكوفيتك لحمايته من الشمس والريح وإنك لتشعر كأنما تحمل وحدتك كما تحمل مادة محسوسو عبرها ، عبرها تمام إلى آبار تيماء السوداء التي تعطي الماء إلى ظمآنين ..
((.. رأساً عبر النفوذ إلى بماء .... )) لقد سمعت صوتاً لم أعرف ما إذا كان هاتفاً في الحلم أوصوتاً صادراً عن رفيقي أجاب رفيقي (( لقد كنت أقول أنه لايخاطر كثيرون بعبور النفوذ لا لشيء سوى رؤية آبار تيماء .... )) .
لقد كنا ، زيد وأنا ، عائدين من قصر عثيمين على الحدود النجدية العراقية إلى حيث كنت قد قصدت بناء ًعلى طلب الملك ابن سعود فبعد أن انجزت مهمتي ، وجدت أن لدي متسعاً من الوقت ، قررت أن أزور واحة تيماء النائية الضاربة في القدم ، على نحو مئتي ميل إلى الجنوب الغربي : تيماء التي ورد ذكرها في العهد القديم ، والتي قال عنها أشعياً : (( لقد كان سكان أرض تيماء يجلبون الماء إلى كل من به ظمأ )).
إن غزارة المياه في تيماء ، وآبارها العظيمة التي لا مثيل لها في أيام الجزيرة العربية كلها ، جعلتها في أيام الجاهلية مركزاً عظيماً لتجارة القوافل ومقراً للثقافة العربية القديمة ، لقد طالما رغبت في رؤيتها ، ولهذا تجاهلنا طرف القوافل المتلوية وضربنا رأساً من قصر عثيمين في قلب صحراء النفود الكبرى ، تلك الصرحاء من الرمال المالية إلى احمرة ، الباسطة نفسها بقوى وجبروت بين نجدي وبادية الشام ، في هذا الجزء من ذل القفر العظيم لاتقع العين على درب أو طريق ، فالريح قد أخذت على نفسها أن لاتترك أيما أثر في الرمال الناعمة اللدنة وأن لاتدع أيما معلم ينتصب طويلاً لهداية المرتحلين عبر الصحراء ، وتحت ضرباتها تبدل الكثبان من معالمها ، وتغير من أشكالها ببطء كبير لايتيح للعين أن تلحظ كيف تنخفض التلال فتصبح أودية وترتفع من جدي تلالاً منقطعة بالعشب اليابس الميت الذي لايكاد يسمع خفيفه والمر المذاق كالرماد ، حتى في فم الجمل .
وبالرغم من أنني عبرت هذه الصحراء مرات كثيرة وفي وجهات عديدة ، فست أثق بقدرتي على أن أضل طريقي فيها إذا ما حاولت عبورها دون معونة الدليل ولهذا وجدتني مسروراً لوجود زيد معي ، هذه البلاد هي موطنه وهي ينتمى إلى قبيلة شمر التي تعيش على الأهداف في جنوبي صحراء النفود وشرقيها ، وعندما تهطل أمطار الشتاء الغزيرة وتحول الكثبان الرملية فجأة إلى مروج خصيبة ، يرعون إبلهم في وسطها بضعة أشهر من السنة ، إن أمزجة الصحراء هي في دم زيد ، وإن قلبه ليخفق بها .
ولعل زيداً أظرف رجل رأيته في حياتي : عريضة الجبهة ، دقيق الجسم ، معتدل القامة ، ممتليء قوة ونشاطاً ، وعلى ملامح وجهه الصبوح المعروق يتبدى التحفز المعهود في عرب الصحراء – مزيج من الهيبة والاعتداد والعذوبة ، في وقت معاً ، إنه تركيب متناسق من البداوة النقية والحضارة النجدية ، احتفظ من البدو بسلامة الفطرة دون تقلباتها العاطفية ، ومن حياة المدينة بالمعرفة العملية دون استسلام إلى مغرياتها ، وزيد مثل أنا يجب المغامرات دون أن يسعى إليها ومنذ فجر شبابه امتلأت حياته بالحوادث المثيرة ، فقد التحق في صباه بفرقة الهجانة غير النظامية التي جندتها الحكومة التركية لحملتها في شبه جزيرة سيناء إبان الحرب العظمى ، ثم دافع مع قبيلته شمر ، عن وطنه ضد ابن سعود ومن ثم اصبح مهرباً للسلاح في الخليج الفارسي ، لينقلب من بعد إلى مغرم مدنف بنساء كثيرات في أقسام كثيرة من العالم العربي – وكلهن ، من غير شك زوجت شرعاً واحدة بعد أخرى ، وطلقن منه شرعاً كذلك ثم اتخذ تجارة الخيل مهنة له في مصر، وعمل جندياً مرتزقاً في العراق وأخيراً أصبح رفيقاً لي في تجوالي في الجزيرة العربية طيلة خمس سنوات على وجه التقريب .
كنننا ، في أواخر صيف عام 1932 م ذاك ، نركب معاً كما فعلنا كثيرًا في الماضي يلفنا الطريق الموحش بين الروابي ، متوقفين عند هذه أو تلك من الآبار المتباعدة ، وآخذين قسطاً من الراحة ليلاً تحت النجوم وتتوالى أصوات أخفاف الذلولين فوق الرمال الحارة ، بينما يرتفع صوت زيد الأجش ، أحياناً متناغماً مع وطئهما ويجن الليل فنتوقف على عن المسير ونحتسي القهوة ونطبخ الأرز وأحياناً بعض مانصطاد من الحيوان وكان الهواء النعام البارد يلامس أجسامنا ونحن مضطجعون على الرمال ، وكان بزوغ الشمس فوق الكثبان أحمر عنيفاً كالألعاب النارية ، وأحياناً ، كما هو الحال اليوم ، تستيقظ معجزة الحياة في نبتة ارتوت مصادفة .
لقد توقفنا لأداء فريضة الظهر فبينما كنت أغسل يدي ووجهي وقدمي من قربه ، سقطت بضع قطرات من الماء فوق خصلة من العشب اليابس عند قدمي لقد كانت هذه الخصلة من العشب صغيرة بائسة صفراء ذابلة لاحياة فيها تحت أشعة الشمس المحرقة ولكن ما إن سال الماء عليها حتى سرت قشعريرة في أوراقها المتغضة ، ورأيت بأم عيني كيف أخذت هذه الأوراق ، رويداً رويداً ، ترتجف وتتفتح ، وكيف أنها بعد أن سالت عليها بضع قطرات أخر تحركت وتجعدت ، ثم انتصبت ، قليلاً قليلاً ، مترددة مرتعشة وحبست أنفاسي بينما أخذت أسيل قطرات أخرى من الماء فوق خصلة العشب وكان أن بدأت تتحرك بسرعة أكبر وقوة أثر وكأنما قوة خفية تدفعها لتخرجها من حلم مماتها لقد شرعت أوراقها – ويا له من مشهد – تتقلص وتتمدد وهكذا عادت الحياة منتصرة إلى ماكن منذ لحظة شبيها بالأموات عادت إليها عياناً ، وبشغف وانفعال ، قهارة مغلقاً فهم جلالها وعظمتها على العقول .
الحياة بجلالها وعظمتها .. إنك لتحسها دائمًا في الصحراء وإذ كان من الصعب جدًا الاحتفاظ بها هناك فهي بمثابة الهبة أبداً ، عزيزة دائماً كالكنـز الثمين ، تفاجئك وتأخذك على حين غرة ذلك بأن الصحراء لايمكن إلا أن تحيرك وتدهشك وتقع عيناك فيها على جديد ولو كنت قد خبرتها سنين طويلة ففي بعض الأحايين ، إذ يخيل إليك أن باستطاعتك أن تتبينها بكل ما فيها من صرامة وصلابة وفراغ ، تستيقظ فجأة من حلمها ، وترسل أنفاسها – ويبدو لك العشب اللدن الأخضر في حيثما كان بالأمس رمالاً وشظايا حصباء وهي ترسل أنفاسها كرة أخرى ، فإذا بسرب من الطيور الصغيرة ترفرف بأجنحتها في الهواء – من أي ، وإلى أين ، هذه المخلوقات الدقيقة الجسم ، الطويلة الجناح الزمردية – الخضراء اللون ؟ وهي ترسل أنفاسها كرة أخرى كذلك ، فإذا بأرجال من الجراد تصعد تارة وتندفع تارة أخرى : كالحة شهباء لانهاية لها كحشد من المحاربين الجياع ...
الحياة بجلالها وعظمتها : جلال الاتساع والامتداد ، وعظمة المفاجأة هنا ، في هذه الصحراء ، يفوح شذى بلاد العرب وأريحها ، وتظهر روعة التبدل .
وإن عينيك لتقعان أحياناً على أرض سواء مسننة غير مستوية ، وأحياناً أخرى على رواب لانهاية لها ولا آخر ، وقد يطالعك واد من تلال صخرية ، تغطيه عليقات يقفز منها أرنب مذعور معترضاً طريقك ، كما تطالعك أحيانا رمال مسترخية سائبة تبدو فوقها آثار الغزلان أو أحجار سوداء طبخ عليها مرتحلون قدامى منسيون طعامهم في أيام غابرة منسية ، وقد تصادف أحياناً أخرى قرية تحت أشجار النخيل ، وتسمع موسيقى الدواليب الخشبية فوق الآبار تنشد لك دونما انقطاع ، أو تشاهد بئراً في قلب واد يلغط حولها الرعاة البدو ليسقوا ماشيتهم وجمالهم العطشى ، وهم يغنون معاً بينما يسحبون المياه من قعر البئر في دلاء جلدية ويفرغونها بقوى في أجران جلدية كذلك ، فتبتهج لمرآها الحيوانات المهتاجة ، ثم تطالعك الوحدة من جديد في سهول فسيحة تحرقها شمس ملتهبة دونما رحمة أو شفقة ، أو رقعات من العشب اليابس الأصفر والغياض المورقة التي تدب على الأرض بأغصانها الملتوية مراعي خصبة لنجائبك ، أو شجرة طلح متوحدة تبسط أغصانها تحت السماء ذات اللون الفولاذي الأزرق ، وقد ترى بين الركام والأحجار عينين تنطقان ذات اليمين وذات الشمال ثم تختفيان كما يختفي الشبح ، فتعرف أنها العظاية ذات الجلد الذهبي ، والتي يقولون إنها لاتشرب الماء أبدًا ، ثم تمشى لتقع عيناك على بيوت شعر سوداء منصوبة في غور من الأغوار ، وقطيع من الإبل يسوقه الرعاة وهم ممتطون بعضاً منه : حتى إذا ما دعوا إبلهم ابتلع السكون أصواتهم ولم يرجع لها أيما صدى .
وقد ترى أحياناً براقة بعيدة عن الأفق فتسائل نفسك : أهذه الغيوم ؟ إنها تسبح على علو منخفض ، وتبدل كثيراً من ألوانها وأوضاعها ، فهي تارة كالجبال الشهباء الداكنة – ولكنها في الجو ، وفوق الأفق ، وهي طوراً تشبه ، ويا لروعة المشهد ، غياضاً ظليلة من أشجار الصنوبر – ولكن في الهواء . حتى إذا ما أمعنت في انخفاضها وانقلبت إلى بحيرات وأنهار جارية تعكس مياهها الجذابة الشهية الجبال والأشجار عرفتها على حقيقتها : السراب الذي طالما قد الرحل إلى الأمل الكاذب فالهلاك عندئذ تمتد يد بطريقة غرزية إلى القربة المدلاة من الشداد ...
وتمر بك ليال مليئة بضروب أخرى من الأخطار ، عندما تكون القبائل في فتنة حربية ، ويتجنب المسافر إشعال النار ليلاً لئلا يرى من بعيد ، يجلس مستيقظاً الساعات الطوال ، واضعاً بندقيته بين ركبتيه ، وفي أيام السلم ، بعد أن تسير متوحداً أياماً متطاولة ، إذا بك تلقى قافلة وتصغى في المساء حول النار إلى حديث الرجال الوقورين الذين حرقت وجوهم الشمس : إنهم يتحدثون عن كبائر الحياة وصغائرها ، عن الموت والحياة ، عن الجوع والشبع ،عن الفخر والحب والكراهية ، عن شهوة الجسد وفتورها ، عن الحرب ، عن غياض النخيل في قراهم البعيدة – ولكنك لاتسمع مطلقاً أيما ثرثرة فارغة ، لأن المرء لايستطيع أن يثرثر في الصحراء ...
وإن لتحسن نداء الحياة في أيم العطش ، عندما يلتصق لسانك بسقف حلقك كقطعة من الحطب اليابس ، ولاتظهر في الأفق أية علامة من علامات الخلاص ، بل ريح سموم عاتية ، ورمال مدمومة في الجو ومع ذلك ففي أيام أخرى عندما تحل ضيفاً على البدو في مخيمهم ، ويأتيك القوم بأكواب مليئة باللبن – لبن النياق السمينة في مطلع الربيع – عندما تنقلب السهول الفسيحة والكثبان الخضراء بلون الجائن وضروع النياق ثقيلة مدورة ، تستطيع أن تسمع من أحدى زوايا البيت ضحكات النساء وهن يشوين خروفاً على شرفك فوق نار مكشوفة .
وكقطعة من المعدن حمراء ، تختفي الشمس وراء التلال ، وتبدو التلال ، وتبدو السماء ذات النجم أرفع منها في أي مكان آخر في الأرض وإنك لتنام في الليل نوماً عميقاً لاتتخلله الأحلام ، لتستيقظ في الصباح على فجر بارد رطب أما ليالي الشتاء فباردة .
فالريح القارصة تهب على النار التي تزدحم حولها أنت ورفاقك طلباً للدفء ، وأما أيام الصيف فلاذعة عندما تسير وتسير على ذلولك ساعات وساعات لانهاية لها ، لافاً وجهك بكوفيك حمايته من الريح الكاوية ....
وانقضى الأصيل شيئاً فشيئاً ، بينما أكملنا مسيرنا على الروابي والكثبان ، يلفنا الهدوء والحدة .
بيد أن الوحدة ما لبثت أن تصرمت بعد قليل ، عندما مررنا في طريقنا بركب من البدو – أربعة أو خمسة وامرأتان فوق هجانهم – ومعهم جمل يحمل بيت شعر مطوياً وعدداً من القدور وسائر الأدوات التي تتطلبها حياة البداوة ، يعلوها جميعاً طفلان صغيران . وإذا اقترب الركب منا جذبوا أعنة ركابهم وحيونا قائلين :
السلام عليكم .....
فأجبنا :
- (( وعليكم السلام ورحمة الله )).
-
- (( إلى أين ، يأهل الطريق ؟ )) .
-
- (( إلى تيماء ، إن شاء الله )) .
-
- (( ومن أين ؟)) .
-
- (( من قصر عثيمين ، أيها الأخوان )) .
ساد الصمت من جديد . وتفحصت القوم فوجدت بينهم رجلاً كهلاً ناحل الجسم دقيق الوجه أسود اللحية مستدقها ، اتضح لي أنه شيخهم .
يتــــــــــــــــــــبع
كنا نسير ونسير : رجلين على هجينين ، الشمس تضطرم فوق رأسينا ، وكل شيء متألق ومترجرج وضياء سابح ، رواب وكثبان حمراء وبرتقالية اللون ، رواب وراء رواب وكثبان وراء كثبان ، وحدة وصمت محرق ورجلان على جينين في مشيتهما تلك المتأرجحة التي تجلب لك النعاس بحيث تنسى النهار والشمس والريح الحارة ، والطريق الطويل إن باقات العشب الأصفر لتنمو غير مزدحمة على قمم الكثبان ، وهنا وهنالك شجيرات من العشب الذي يدعونه الحمض ، تتلوى فوق الرمال كالأفاعي الضخمة ، وأن مشاعرك لتستسلم إلى النعاس ذلك بأنك إنما تهتز في الشداد اهتزازاً ، ولاتكاد تميز أي شيء في ما وراء قرقشة الرمال تحت أخفاف المطيتين واحتكاك غزالة الشداد بركبتك إنن وجهك ملفوف بكوفيتك لحمايته من الشمس والريح وإنك لتشعر كأنما تحمل وحدتك كما تحمل مادة محسوسو عبرها ، عبرها تمام إلى آبار تيماء السوداء التي تعطي الماء إلى ظمآنين ..
((.. رأساً عبر النفوذ إلى بماء .... )) لقد سمعت صوتاً لم أعرف ما إذا كان هاتفاً في الحلم أوصوتاً صادراً عن رفيقي أجاب رفيقي (( لقد كنت أقول أنه لايخاطر كثيرون بعبور النفوذ لا لشيء سوى رؤية آبار تيماء .... )) .
لقد كنا ، زيد وأنا ، عائدين من قصر عثيمين على الحدود النجدية العراقية إلى حيث كنت قد قصدت بناء ًعلى طلب الملك ابن سعود فبعد أن انجزت مهمتي ، وجدت أن لدي متسعاً من الوقت ، قررت أن أزور واحة تيماء النائية الضاربة في القدم ، على نحو مئتي ميل إلى الجنوب الغربي : تيماء التي ورد ذكرها في العهد القديم ، والتي قال عنها أشعياً : (( لقد كان سكان أرض تيماء يجلبون الماء إلى كل من به ظمأ )).
إن غزارة المياه في تيماء ، وآبارها العظيمة التي لا مثيل لها في أيام الجزيرة العربية كلها ، جعلتها في أيام الجاهلية مركزاً عظيماً لتجارة القوافل ومقراً للثقافة العربية القديمة ، لقد طالما رغبت في رؤيتها ، ولهذا تجاهلنا طرف القوافل المتلوية وضربنا رأساً من قصر عثيمين في قلب صحراء النفود الكبرى ، تلك الصرحاء من الرمال المالية إلى احمرة ، الباسطة نفسها بقوى وجبروت بين نجدي وبادية الشام ، في هذا الجزء من ذل القفر العظيم لاتقع العين على درب أو طريق ، فالريح قد أخذت على نفسها أن لاتترك أيما أثر في الرمال الناعمة اللدنة وأن لاتدع أيما معلم ينتصب طويلاً لهداية المرتحلين عبر الصحراء ، وتحت ضرباتها تبدل الكثبان من معالمها ، وتغير من أشكالها ببطء كبير لايتيح للعين أن تلحظ كيف تنخفض التلال فتصبح أودية وترتفع من جدي تلالاً منقطعة بالعشب اليابس الميت الذي لايكاد يسمع خفيفه والمر المذاق كالرماد ، حتى في فم الجمل .
وبالرغم من أنني عبرت هذه الصحراء مرات كثيرة وفي وجهات عديدة ، فست أثق بقدرتي على أن أضل طريقي فيها إذا ما حاولت عبورها دون معونة الدليل ولهذا وجدتني مسروراً لوجود زيد معي ، هذه البلاد هي موطنه وهي ينتمى إلى قبيلة شمر التي تعيش على الأهداف في جنوبي صحراء النفود وشرقيها ، وعندما تهطل أمطار الشتاء الغزيرة وتحول الكثبان الرملية فجأة إلى مروج خصيبة ، يرعون إبلهم في وسطها بضعة أشهر من السنة ، إن أمزجة الصحراء هي في دم زيد ، وإن قلبه ليخفق بها .
ولعل زيداً أظرف رجل رأيته في حياتي : عريضة الجبهة ، دقيق الجسم ، معتدل القامة ، ممتليء قوة ونشاطاً ، وعلى ملامح وجهه الصبوح المعروق يتبدى التحفز المعهود في عرب الصحراء – مزيج من الهيبة والاعتداد والعذوبة ، في وقت معاً ، إنه تركيب متناسق من البداوة النقية والحضارة النجدية ، احتفظ من البدو بسلامة الفطرة دون تقلباتها العاطفية ، ومن حياة المدينة بالمعرفة العملية دون استسلام إلى مغرياتها ، وزيد مثل أنا يجب المغامرات دون أن يسعى إليها ومنذ فجر شبابه امتلأت حياته بالحوادث المثيرة ، فقد التحق في صباه بفرقة الهجانة غير النظامية التي جندتها الحكومة التركية لحملتها في شبه جزيرة سيناء إبان الحرب العظمى ، ثم دافع مع قبيلته شمر ، عن وطنه ضد ابن سعود ومن ثم اصبح مهرباً للسلاح في الخليج الفارسي ، لينقلب من بعد إلى مغرم مدنف بنساء كثيرات في أقسام كثيرة من العالم العربي – وكلهن ، من غير شك زوجت شرعاً واحدة بعد أخرى ، وطلقن منه شرعاً كذلك ثم اتخذ تجارة الخيل مهنة له في مصر، وعمل جندياً مرتزقاً في العراق وأخيراً أصبح رفيقاً لي في تجوالي في الجزيرة العربية طيلة خمس سنوات على وجه التقريب .
كنننا ، في أواخر صيف عام 1932 م ذاك ، نركب معاً كما فعلنا كثيرًا في الماضي يلفنا الطريق الموحش بين الروابي ، متوقفين عند هذه أو تلك من الآبار المتباعدة ، وآخذين قسطاً من الراحة ليلاً تحت النجوم وتتوالى أصوات أخفاف الذلولين فوق الرمال الحارة ، بينما يرتفع صوت زيد الأجش ، أحياناً متناغماً مع وطئهما ويجن الليل فنتوقف على عن المسير ونحتسي القهوة ونطبخ الأرز وأحياناً بعض مانصطاد من الحيوان وكان الهواء النعام البارد يلامس أجسامنا ونحن مضطجعون على الرمال ، وكان بزوغ الشمس فوق الكثبان أحمر عنيفاً كالألعاب النارية ، وأحياناً ، كما هو الحال اليوم ، تستيقظ معجزة الحياة في نبتة ارتوت مصادفة .
لقد توقفنا لأداء فريضة الظهر فبينما كنت أغسل يدي ووجهي وقدمي من قربه ، سقطت بضع قطرات من الماء فوق خصلة من العشب اليابس عند قدمي لقد كانت هذه الخصلة من العشب صغيرة بائسة صفراء ذابلة لاحياة فيها تحت أشعة الشمس المحرقة ولكن ما إن سال الماء عليها حتى سرت قشعريرة في أوراقها المتغضة ، ورأيت بأم عيني كيف أخذت هذه الأوراق ، رويداً رويداً ، ترتجف وتتفتح ، وكيف أنها بعد أن سالت عليها بضع قطرات أخر تحركت وتجعدت ، ثم انتصبت ، قليلاً قليلاً ، مترددة مرتعشة وحبست أنفاسي بينما أخذت أسيل قطرات أخرى من الماء فوق خصلة العشب وكان أن بدأت تتحرك بسرعة أكبر وقوة أثر وكأنما قوة خفية تدفعها لتخرجها من حلم مماتها لقد شرعت أوراقها – ويا له من مشهد – تتقلص وتتمدد وهكذا عادت الحياة منتصرة إلى ماكن منذ لحظة شبيها بالأموات عادت إليها عياناً ، وبشغف وانفعال ، قهارة مغلقاً فهم جلالها وعظمتها على العقول .
الحياة بجلالها وعظمتها .. إنك لتحسها دائمًا في الصحراء وإذ كان من الصعب جدًا الاحتفاظ بها هناك فهي بمثابة الهبة أبداً ، عزيزة دائماً كالكنـز الثمين ، تفاجئك وتأخذك على حين غرة ذلك بأن الصحراء لايمكن إلا أن تحيرك وتدهشك وتقع عيناك فيها على جديد ولو كنت قد خبرتها سنين طويلة ففي بعض الأحايين ، إذ يخيل إليك أن باستطاعتك أن تتبينها بكل ما فيها من صرامة وصلابة وفراغ ، تستيقظ فجأة من حلمها ، وترسل أنفاسها – ويبدو لك العشب اللدن الأخضر في حيثما كان بالأمس رمالاً وشظايا حصباء وهي ترسل أنفاسها كرة أخرى ، فإذا بسرب من الطيور الصغيرة ترفرف بأجنحتها في الهواء – من أي ، وإلى أين ، هذه المخلوقات الدقيقة الجسم ، الطويلة الجناح الزمردية – الخضراء اللون ؟ وهي ترسل أنفاسها كرة أخرى كذلك ، فإذا بأرجال من الجراد تصعد تارة وتندفع تارة أخرى : كالحة شهباء لانهاية لها كحشد من المحاربين الجياع ...
الحياة بجلالها وعظمتها : جلال الاتساع والامتداد ، وعظمة المفاجأة هنا ، في هذه الصحراء ، يفوح شذى بلاد العرب وأريحها ، وتظهر روعة التبدل .
وإن عينيك لتقعان أحياناً على أرض سواء مسننة غير مستوية ، وأحياناً أخرى على رواب لانهاية لها ولا آخر ، وقد يطالعك واد من تلال صخرية ، تغطيه عليقات يقفز منها أرنب مذعور معترضاً طريقك ، كما تطالعك أحيانا رمال مسترخية سائبة تبدو فوقها آثار الغزلان أو أحجار سوداء طبخ عليها مرتحلون قدامى منسيون طعامهم في أيام غابرة منسية ، وقد تصادف أحياناً أخرى قرية تحت أشجار النخيل ، وتسمع موسيقى الدواليب الخشبية فوق الآبار تنشد لك دونما انقطاع ، أو تشاهد بئراً في قلب واد يلغط حولها الرعاة البدو ليسقوا ماشيتهم وجمالهم العطشى ، وهم يغنون معاً بينما يسحبون المياه من قعر البئر في دلاء جلدية ويفرغونها بقوى في أجران جلدية كذلك ، فتبتهج لمرآها الحيوانات المهتاجة ، ثم تطالعك الوحدة من جديد في سهول فسيحة تحرقها شمس ملتهبة دونما رحمة أو شفقة ، أو رقعات من العشب اليابس الأصفر والغياض المورقة التي تدب على الأرض بأغصانها الملتوية مراعي خصبة لنجائبك ، أو شجرة طلح متوحدة تبسط أغصانها تحت السماء ذات اللون الفولاذي الأزرق ، وقد ترى بين الركام والأحجار عينين تنطقان ذات اليمين وذات الشمال ثم تختفيان كما يختفي الشبح ، فتعرف أنها العظاية ذات الجلد الذهبي ، والتي يقولون إنها لاتشرب الماء أبدًا ، ثم تمشى لتقع عيناك على بيوت شعر سوداء منصوبة في غور من الأغوار ، وقطيع من الإبل يسوقه الرعاة وهم ممتطون بعضاً منه : حتى إذا ما دعوا إبلهم ابتلع السكون أصواتهم ولم يرجع لها أيما صدى .
وقد ترى أحياناً براقة بعيدة عن الأفق فتسائل نفسك : أهذه الغيوم ؟ إنها تسبح على علو منخفض ، وتبدل كثيراً من ألوانها وأوضاعها ، فهي تارة كالجبال الشهباء الداكنة – ولكنها في الجو ، وفوق الأفق ، وهي طوراً تشبه ، ويا لروعة المشهد ، غياضاً ظليلة من أشجار الصنوبر – ولكن في الهواء . حتى إذا ما أمعنت في انخفاضها وانقلبت إلى بحيرات وأنهار جارية تعكس مياهها الجذابة الشهية الجبال والأشجار عرفتها على حقيقتها : السراب الذي طالما قد الرحل إلى الأمل الكاذب فالهلاك عندئذ تمتد يد بطريقة غرزية إلى القربة المدلاة من الشداد ...
وتمر بك ليال مليئة بضروب أخرى من الأخطار ، عندما تكون القبائل في فتنة حربية ، ويتجنب المسافر إشعال النار ليلاً لئلا يرى من بعيد ، يجلس مستيقظاً الساعات الطوال ، واضعاً بندقيته بين ركبتيه ، وفي أيام السلم ، بعد أن تسير متوحداً أياماً متطاولة ، إذا بك تلقى قافلة وتصغى في المساء حول النار إلى حديث الرجال الوقورين الذين حرقت وجوهم الشمس : إنهم يتحدثون عن كبائر الحياة وصغائرها ، عن الموت والحياة ، عن الجوع والشبع ،عن الفخر والحب والكراهية ، عن شهوة الجسد وفتورها ، عن الحرب ، عن غياض النخيل في قراهم البعيدة – ولكنك لاتسمع مطلقاً أيما ثرثرة فارغة ، لأن المرء لايستطيع أن يثرثر في الصحراء ...
وإن لتحسن نداء الحياة في أيم العطش ، عندما يلتصق لسانك بسقف حلقك كقطعة من الحطب اليابس ، ولاتظهر في الأفق أية علامة من علامات الخلاص ، بل ريح سموم عاتية ، ورمال مدمومة في الجو ومع ذلك ففي أيام أخرى عندما تحل ضيفاً على البدو في مخيمهم ، ويأتيك القوم بأكواب مليئة باللبن – لبن النياق السمينة في مطلع الربيع – عندما تنقلب السهول الفسيحة والكثبان الخضراء بلون الجائن وضروع النياق ثقيلة مدورة ، تستطيع أن تسمع من أحدى زوايا البيت ضحكات النساء وهن يشوين خروفاً على شرفك فوق نار مكشوفة .
وكقطعة من المعدن حمراء ، تختفي الشمس وراء التلال ، وتبدو التلال ، وتبدو السماء ذات النجم أرفع منها في أي مكان آخر في الأرض وإنك لتنام في الليل نوماً عميقاً لاتتخلله الأحلام ، لتستيقظ في الصباح على فجر بارد رطب أما ليالي الشتاء فباردة .
فالريح القارصة تهب على النار التي تزدحم حولها أنت ورفاقك طلباً للدفء ، وأما أيام الصيف فلاذعة عندما تسير وتسير على ذلولك ساعات وساعات لانهاية لها ، لافاً وجهك بكوفيك حمايته من الريح الكاوية ....
وانقضى الأصيل شيئاً فشيئاً ، بينما أكملنا مسيرنا على الروابي والكثبان ، يلفنا الهدوء والحدة .
بيد أن الوحدة ما لبثت أن تصرمت بعد قليل ، عندما مررنا في طريقنا بركب من البدو – أربعة أو خمسة وامرأتان فوق هجانهم – ومعهم جمل يحمل بيت شعر مطوياً وعدداً من القدور وسائر الأدوات التي تتطلبها حياة البداوة ، يعلوها جميعاً طفلان صغيران . وإذا اقترب الركب منا جذبوا أعنة ركابهم وحيونا قائلين :
السلام عليكم .....
فأجبنا :
- (( وعليكم السلام ورحمة الله )).
-
- (( إلى أين ، يأهل الطريق ؟ )) .
-
- (( إلى تيماء ، إن شاء الله )) .
-
- (( ومن أين ؟)) .
-
- (( من قصر عثيمين ، أيها الأخوان )) .
ساد الصمت من جديد . وتفحصت القوم فوجدت بينهم رجلاً كهلاً ناحل الجسم دقيق الوجه أسود اللحية مستدقها ، اتضح لي أنه شيخهم .
يتــــــــــــــــــــبع