المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إسرائيل لا تستطيع الاعتماد على أمريكا إلى الأبد


خالد الشماسي
12 - 06 - 2006, 14:29
http://www.aleqt.com/nwspic/30018.jpg

الدولة مثل الإنسان، إذا وصلت إلى سن 58 ينبغي أن تكون قد حققت درجة معينة من النضج. وبعد ما يقارب ستة عقود من الوجود، بخيرها وشرها، من نحن وكيف نبدو للآخرين، بعيوبنا وكل ما فينا. وعلى الرغم من أننا لانزال نشعر من وقت إلى آخر بأوهام حول أنفسنا، إلا أننا نعرف في الغالب أنها مجرد أوهام. وباختصار وصلنا إلى مرحلة الرشد.
لكن دولة إسرائيل التي بلغت 58 عاماً للتو، تظل غير ناضجة وهذا أمر غريب. فالتحولات الاجتماعية في هذا البلد - وإنجازاته الاقتصادية العديدة - لم تجلب معها الحكمة السياسية التي تصحب السن في العادة. وعند النظر إلى إسرائيل من الخارج، فهي لا تزال تتصرف مثل مراهقة واثقة من تميزها وتفردها؛ متأكدة من عدم وجود من "يفهم"؛ تسارع إلى اكتساب عداء الآخرين ومعاداتهم. وإسرائيل مثل العديد من المراهقات مقتنعة – وتؤكد بشكل عدائي ـ بأنها تستطيع أن تفعل ما تريده، وأنها لا تتحمل تبعات تصرفاتها، وأنها خالدة.
وسيقول الإسرائيليون الذين يقرأون هذا المقال إنه ينطوي على وجهة نظر خارجية متحاملة. فهذه الدولة التي تبدو من الخارج أنها تدلل نفسها، وأنها ذات تصرفات شاذة، هي ببساطة دولة مستقلة صغيرة تعمل ما اعتادت دائماً على فعله: حماية مصالحها في جزء من الكرة الأرضية لا يرحب بوجودها.
لماذا يجب على إسرائيل المحاطة بالأعداء أن تعترف بالنقد من الخارج، فضلاً عن أخذه في الحسبان؟ لأن العالم وتوجهاته تغيرا. هذا التغيير – الذي لا يجد إلى حد كبير اعترافاً به في إسرائيل - هو الذي أريد لفت الانتباه إليه. فقبل عام 1967 ربما كانت إسرائيل دولة صغيرة ومحاطة بأعداء، لكنها لم تكن مكروهة: بالتأكيد ليس في الغرب. فمعظم المعجبين بها (يهود وغير يهود) لا يعرفون شيئاً عن الكارثة التي حلت بالفلسطينيين عام 1948. وهم يفضلون أن يروا في الدولة اليهودية آخر تجسيد للأنشودة الرعوية في القرن التاسع عشر للاشتراكية الزراعية - أو نموذجاً لقوى التحديث والتجديد "تحول الصحراء إلى خضرة وازدهار".
وأذكر في ربيع عام 1967 كيف كانت وجهات نظر الطلاب في جامعة كيمبردج مؤيدة بشكل منقطع النظير لإسرائيل قبل حرب الأيام الستة – ولم يكن هناك اهتمام يذكر بالفلسطينيين أو بالتواطؤ الإسرائيلي مع فرنسا وبريطانيا في الضربة المدمرة لقناة السويس عام 1956. وظلت هذه المشاعر قائمة لبعض الوقت. أما حماس الجماعات المتطرفة الموالية للفلسطينيين التي ظهرت بعد عقد الستينيات فقد قابلها الإدراك الشعبي المتنامي لمحرقة اليهود. وحتى افتتاح المستوطنات غير الشرعية وغزو لبنان لم يؤديا إلى تحويل وجهة النظر الدولية.
لكن اليوم كل شيء تغير. فنحن نستطيع أن نرى، عندما نتأمل في الأحداث الماضية، أن الانتصار الذي حققته إسرائيل في حزيران (يونيو) 1967 واحتلالها الأراضي غزتها في ذلك الوقت كانت بمثابة نكبة للدولة اليهودية: كارثة أخلاقية وسياسية. والإجراءات التي اتخذتها إسرائيل في الضفة الغربية وغزة أدت إلى تضخيم عيوبها أمام العالم الذي يراقب تلك الإجراءات. فممارسات الاحتلال والقمع التي لم تكن في السابق معروفة إلا لدى أقلية محدودة من العالمين ببواطن الأمور، أصبحت اليوم بفضل أجهزة الكمبيوتر وأطباق البث عبر الأقمار الصناعية تضع سلوك إسرائيل تحت مرأى من أنظار العالم بشكل يومي. وكانت النتيجة تحول تام في النظرة الدولية لإسرائيل.
إن الأنموذج العام المختزل لإسرائيل، الذي ظهر في الرسومات الكاريكاتورية السياسية، هو نجمة داؤود وهي تزين دبابة. واليوم، فإن الضحايا والأقلية المضطهدة ليسوا اليهود وإنما الفلسطينيون. هذا التحول ليس له تأثير يذكر في صالح القضية الفلسطينية، لكنه أدى إلى إعادة النظر في تعريف إسرائيل إلى الأبد. فعقدة الخوف من الاضطهاد التي لازمت إسرائيل طويلاً لم تعد تصلح لاستدرار التعاطف معها. والرواية التي تصور الإسرائيليين ضحايا شرفاء تبدو للكثيرين الآن رواية غريبة: فهي عبارة عن خلل معرفي في مجمله. وإسرائيل في عيون العالم دولة عادية؛ لكنها تتصرف بطرق غير عادية. وفيما يتعلق بالاتهام بأن انتقاد إسرائيل ينطوي ضمناً على عداء للسامية، هناك خطورة في أن يصبح هذا الاتهام تأكيدا للذات. فسلوك إسرائيل المتسم باللامبالاة وإصرارها على تعريف كل نقد بأنه عداء للسامية، هو الآن المصدر الرئيسي لمشاعر العداء لليهودية في أوروبا الغربية وفي كثير من بلدان آسيا.
وإذا استطاع قادة إسرائيل تجاهل مثل هذه التطورات، فإن السبب في ذلك يعود إلى أنهم يعولون على دعم أمريكا الذي لا شك فيه - البلد الذي لا تزال فيه الدعوة إلى مساواة العداء للصهيونية بالعداء للسامية يتردد صداها في أوساط التيار السياسي العام وأجهزة الإعلام. هذه الثقة في الدعم الأمريكي غير المشروط ربما تصبح سبباً في هلاك إسرائيل. فهناك تغيير يجري في أمريكا. ويبدو أن إسرائيل وأمريكا مرتبطتان على نحو متزايد برباط تكافلي، ويؤدي تصرف كل طرف منهما إلى تفاقم الكراهية المشتركة لهما في الخارج. لكن في الوقت الذي لا يوجد أمام إسرائيل أي خيار آخر غير الاتجاه نحو أمريكا، فإن الولايات المتحدة قوة عظمى - والقوى العظمى لديها مصالح تتجاوز في نهاية المطاف الهواجس المحلية حتى لأقرب الدول التابعة لها. ويبدو لي أن الجدل الكثيف الذي أثاره المقال الصادر بعنوان "اللوبي الإسرائيلي" بقلم جون ميرشيمر وستيفن وولت، المنشور في آذار (مارس) في "لندن ريفيو أوف بوكس" أمر له دلالته. صحيح أنه حسب اعتراف الكاتبين لم يكن بوسعهما نشر اتهام لنفوذ "اللوبي الإسرائيلي" على السياسة الخارجية الأمريكية في مجلة كبيرة مقرها في الولايات المتحدة. لكن الأمر المهم هو أنه قبل عشر سنوات ربما لم يكن في وسعهما نشر هذا المقال على الإطلاق. ولأن الجدل الذي تلا ذلك أحدث من الحرارة أكثر مما أحدث من الضوء، فقد كانت له أهمية كبيرة.
الحقيقة هي أن الغزو المدمر للعراق والآثار التي ترتبت عليه أديا إلى إحداث تغيير ملحوظ في الجدل حول سياسة أمريكا الخارجية. وأصبح واضحاً للمفكرين البارزين من مختلف ألوان الطيف السياسي - من المحافظين الجدد السابقين الذين يؤيدون سياسة التدخل، مثل فرانسيس فوكوياما، إلى الواقعيين العنيدين، مثل ميرشيمر – أن الولايات المتحدة عانت من خسارة كانت بمثابة كارثة في نفوذها الدولي وتدهور سمعتها. وأمامنا الكثير الذي ينبغي عمله لإصلاح الأمر، خصوصا فيما يتعلق بتعامل واشنطن مع مناطق في العالم ذات أهمية حيوية من الناحية الاقتصادية والاستراتيجية. لكن ذلك لا يمكن أن ينجح في ظل ارتباط السياسة الخارجية الأمريكية بحبل سري مع احتياجات ومصالح دولة صغيرة في الشرق الأوسط ليس لها علاقة تذكر بمخاوف أمريكا على المدى البعيد - بلد حسب ما ورد في التعبير الذي استخدمه ميرشيمر/وولت في مقالهما، يمثل عبئاً استراتيجياً. وذلك المقال مؤشر على اتجاه الحوار في الولايات المتحدة حول ارتباطاتها الغريبة بإسرائيل. وبالطبع، وجد المقال انتقادات عنيفة - وحسبما توقع المؤلفان فقد تم اتهامها بالعداء للسامية. لكن من المدهش أن من يأخذون ذلك الاتهام مأخذ الجد الآن أصبحوا أقلية يمكن التكهن بها. وهذا أمر ليس في مصلحة اليهود، لأنه يعني أن العداء الحقيقي للسامية ربما لا يؤخذ مأخذ الجد كذلك. وذلك أسوأ بالنسبة لإسرائيل.
ومن منظور آخر، فإن إسرائيل تواجه مستقبلاً قاتماً, وهذه ليست أول مرة تكون فيها دولة يهودية تعيش في محيط إمبراطورية أخرى على نحو غير آمن: فهي تغمض عينيها بكامل إرادتها عن الخطر المتمثل في أن تجاوزاتها ودلالها ربما تدفع بمستشارتها الأمينة إلى أبعد من حدود الانزعاج. ومع ذلك، فإن إسرائيل الدولة الحديثة لا تزال لديها خيارات: وعلى وجه التحديد، ولأن البلاد أصبحت موضع عدم ثقة بشكل عام، فإن إحداث تحول حقيقي في السياسات بحكمة سياسية (من قبيل تفكيك المستوطنات الكبيرة وإجراء محادثات غير مشروطة مع الفلسطينيين ونحو ذلك) سيكون لها آثار مفيدة.
إن إجراء تعديل جذري في الاستراتيجية على هذا النحو يستلزم إعادة النظر في أي وهم عاشت فيه البلاد والنخبة السياسية. ويتعين على إسرائيل أن تعترف بأنه لم يعد لديها قضية خاصة تتطلب تعاطفاً دولياً معها أو تدليلاً لها؛ وأن الولايات لن تكون دائماً إلى جانبها؛ وأن المستعمرات مصيرها الزوال، إلا إذا كنت تريد طرد أو استئصال السكان الأصليين.
الدول الأخرى وقادة تلك الدول فهموا ذلك، فشارل ديجول رأي أن استيطان فرنسا في الجزائر أمر ينطوي على أبلغ الأضرار على بلاده، وبشجاعة سياسية مشهودة أقدم على الانسحاب. لكن عندما وصل ديجول إلى ذلك الإدراك كان رجل دولة ناضج، كان عمره 70 عاماً. ولا تتحمل إسرائيل الانتظار لمدة طويلة مثل هذه. وقد حان الأوان لتبلغ سن النضج.
ــــــــــــــــ


الكاتب مدير معهد رماركي في جامعة نيويورك Remarque Institute at New York University