رد : فقه النوازل 000
كُتب : [ 27 - 07 - 2008 ]
لكن أي الطائفتين أفقه الطائفة الأولى أو الثانية، الأولى أفقه الذين صلوا في الوقت فهموا مقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله: لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة فلذلك هذه الطائفة الأولى أفقه، لكن الطائفة الثانية التي أخذت بظاهر النص أقرها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعنف عليها، هذا نوع اجتهاد حصل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومن الاجتهاد في النوازل الذي حصل في عهد الصحابة الاجتهاد في الجد مع الإخوة، لأن هذه المسألة لم تقع في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما وقعت في عهد الصحابة، فاجتهدوا فيها، كان أبو بكر يقول: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان.
ومن ذلك أيضا قصة رجوع عمر من الشام لما وقع بها الطاعون، قد ذكر هذه القصة البخاري في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر: الآن هو أمام نازلة، هو الآن يسير في الطريق إلى الشام أخبر بأن الطاعون وقع بالشام، هل يسير ويذهب للشام، أو أنه يرجع للمدينة؟
فجمع عمر -رضي الله عنه- الصحابة، وكان أول ما بدأ بالمهاجرين، قال: ادع لي المهاجرين الأولين فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بأرض الشام، فاختلفوا، أي بعضهم قالوا: نرى أن تذهب، وبعضهم قال: نرى أن نرجع، فقال بعضهم: قد خرجنا لأمر ولا نرى أن نرجع عنه، وقال آخرون: معك بقية الناس وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فاختلفوا فقال عمر: ارتفعوا عني.
ثم قال: ادع لي الأنصار، قال: فدعوتهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم، فقال عمر: ارتفعوا عني، ثم قال لابن عباس: ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم فلم يختلف منهم عليه رجلان، قالوا: نرى أن ترجع بالناس، ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة، أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت إن كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليست إن رعت الخصيبة رعتها بقدر الله، وإن رعت الجدبة رعتها بقدر الله.
قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- وكان متغيبا في بعض حاجته، فقال: إن عندي في هذا علما، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا سمعتم به - يعني الطاعون - بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه قال: فحمد الله عمر، ثم انصرف.
فهذه الآن نازلة وقعت بالصحابة - رضي الله عنهم -، وقع الطاعون وهم في الطريق، وقع الطاعون بأرض الشام وهم في الطريق إليها، هل يستمرون في الذهاب ويقدمون على أرض الشام وبها الطاعون، أم أنهم يرجعون ولا يعرضون أنفسهم لهذا الوباء؟
فعمر -رضي الله عنه- أراد أن يجتهد في هذه النازلة، فانظر إلى منهج عمر -رضي الله عنه- إلى منهجه في الاجتهاد فيها حتى وفق للصواب قطعا، لأن عبد الرحمن بن عوف ذكر هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاستشار أولا المهاجرين، ثم استشار الأنصار وحصل الاختلاف، ثم استشار من كان عنده من المهاجرين الأولين من مهاجرة الفتح من مشيخة قريش فلم يختلفوا، فأخذ عمر برأيهم، ثم أخبرهم عبد الرحمن بن عوف بأن هذا الرأي الذي رآه عمر قد سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا نوع من الاجتهاد الذي حصل في زمن الصحابة - رضي الله عنهم -.
وانظر هنا إلى عمر كيف إنه لم يجتهد هو بنفسه، ويكتفي باجتهاده بل دعا الصحابة، وهذا يعني أصل للاجتهاد الجماعي الذي سوف نشير إليه، مثل هذه النوازل والقضايا الكبيرة التي تتعلق بمجموع الناس يحسن أن يكون فيها اجتهاد جماعي؛ لأن الاجتهاد الجماعي أقرب إلى التوفيق، وإلى إصابة حكم الله ورسوله من الاجتهاد الفردي.
الاجتهاد في فقه النوازل في الوقت الحاضر، في الوقت الحاضر تنزل بالمسلمين نوازل، وتستجد مسائل لم تكن معروفة من قبل، بل إننا ربما نقول: إن العصر الذي نعيش فيه هو عصر النوازل، وذلك بسبب ما يشهده العالم اليوم من ما يسمى بالتقدم التكنولوجي والثورة الصناعية الكبيرة في جميع مجالات الحياة، مما أوجد مسائل جديدة، وحوادث، ومستجدات لم تكن معروفة من قبل، ويتعين على فقهاء الأمة بيان الحكم الشرعي فيها.
والواقع أن أكبر إشكالية تواجه كثيرا من العلماء في الوقت الحاضر في مثل هذه النوازل والمسائل صعوبة تصور تلك المسائل تصورا دقيقا، فقد يكون العالم غزيرا في علمه الشرعي، ولكن ينقصه التصور الصحيح لواقع تلك النازلة، ومن هنا تبرز أهمية الاجتهاد الجماعي في تلك النوازل، إذ أنه في الاجتهاد الجماعي يستعان بأهل الاختصاص في النازلة، يستعان بأهل الاختصاص في النازلة المراد بحثها، فإن كانت النازلة طبية يستعان بالأطباء في تصوير هذه النازلة، إذا كانت متعلقة بالاقتصاد استعانوا بالاقتصاديين، إذا كانت متعلقة بالفلك يستعان بالفلكيين، إذا كانت متعلقة بأمور قانونية يستعان بالقانونيين، وهكذا.
هذا الاجتهاد الجماعي نحن قلنا إن أصله كان موجودا عند السلف كما مر معنا في قصة عمر في رجوعه من الشام لما وقع الطاعون، وكان عمر -رضي الله عنه- من منهجه أنه كلما نزلت نازلة جمع فقهاء الصحابة واستشارهم، الاجتهاد الجماعي في الوقت الحاضر يتمثل في المجامع الفقهية، والهيئات العلمية، ونشير إلى أبرز هذه المجامع والهيئات، المجامع الفقهية، هناك عدة مجامع، منها: مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي، ومجمع الفقه الإسلامي الدولي، منظمة المؤتمر الإسلامي، هناك مجمع الفقه الإسلامي في الهند، مجمع الفقه الإسلامي في السودان، مجمع الفقه الإسلامي في أوروبا.
لكن أبرز هذه المجامع مجمعان:
الأول: المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي، وهذا المجمع نفع الله - تعالى -به نفعا كثيرا، وينتقى له نخبة من فقهاء الأمة، وقد عقد دورة قبل نحو شهرين قد شاركت في أعمال هذه الدورة، ورأيت كيف ينظر للنوازل والمسائل، ولعلي يعني أفصل حول هذا المجمع نظرا لأنني قد يعني عايشت جلسات هذا المجمع وكيفية إبداء الرأي في النوازل والمسائل المستجدة، والمسائل التي يبحثها ويدرسها هذا المجمع.
جاء في نظام المجمع أن أبرز أهدافه بيان الأحكام الشرعية فيما يواجه المسلمين في أنحاء العالم من مشكلات ونوازل وقضايا مستجدة استنادا إلى مصادر التشريع المعتبرة، وقد كانت بداية تأسيسه أن أوصت به الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي في نظامها الصادر عام 1383 للهجرة، وفي عام 1384 قرر المؤتمر الثاني للأمانة تأسيس المجمع الفقهي الإسلامي، وفي عام 1385 قرر المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي تشكيل هيئة علمية من أعضاء المجلس التأسيسي للرابطة، لدراسة مشروع المجمع الفقهي الإسلامي، وكان ذلك برئاسة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله - يعني كانت بداية فكرة المجمع وقت الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - وكان على رأس الهيئة العلمية لدراسة مشروع المجمع.
وفي عام 1393 رفعت الأمانة العامة للرابطة ما توصلت إليه الهيئة المذكورة في دراستها لمشروع المجمع إلى المجلس التأسيسي للرابطة، فاتخذ المجلس قرارا جديدا بتأليف مجلس المجمع من عشرة أعضاء، وفي شهر محرم عام 1396 أصدرت الأمانة العامة للرابطة قرارها بتأسيس إدارة خاصة باسم المجمع الفقهي الإسلامي، في عام 1397 أقر المجلس التأسيسي للرابطة نظام المجمع، وتوفي ثلاثة من أعضاء المجمع العشرة قبل انعقاد الدورة الأولى، ثم زيد في عدد أعضاء المجلس إلى اثنين وعشرين عضوا من ثنتي عشرة دولة إسلامية، وعقد المجلس أول دورة، وبدأ نشاطه في شهر شعبان عام 1398.
لاحظ الآن كم بين فكرة تأسيسه وبين انعقاد أول دورة يعني كانت فكرة التأسيس 1383، انعقاد أول دورة 1397 كم بينهما من سنة، خمسة عشرة سنة تقريبا، ولكن يعني رغم أن هذه البداية أخذت وقتا إلا أنه لما انعقدت الدورة الأولى انتظمت دورات المجمع إلى وقتنا هذا، لكن بداية الأمر أخذت وقتا طويلا، حتى تبلورت الفكرة، وحتى تأسس هذا المجمع، فبدأت الدورة الأولى عام 1398 وكان رئيس المجمع الفقهي الشيخ عبد الله بن حميد - رحمه الله - وبقي رئيسا له إلى أن توفي عام 1402 للهجرة.
ثم رأسه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - إلى أن توفي عام 1420 للهجرة، ويرأسه الآن سماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله -، وفي عام 1422 زيد في عدد أعضائه إلى ثلاثين عضوا، وقد عقد المجمع ثماني عشرة دورة، كانت الدورة الثامنة عشرة قبل شهرين تقريبا، وناقش فيها الكثير من القضايا والنوازل وأصدر بشأنها مائة قرار، أصدر بشأن هذه النوازل والقضايا إلى نهاية الدورة الثامنة عشرة مائة قرار، وكان يعني هي مائة وواحد لكن هذا القرار الزائد على المائة أرجئ كان عن حول اختيار جنس الجنين، وأرجئ إلى الدورة القادمة، فكانت القرارات التي أصدرها المجمع إلى هذا الوقت مائة قرار.
ويستكتب المجمع عددا من الباحثين والمختصين، ويستعين بعدد من الخبراء في النوازل المراد دراستها وبحثها، وفي الدورة الأخيرة رأيت أن المجمع استعان بعدد من الاقتصاديين وعدد من الأطباء، فكان مثلا بالنسبة للمسألة التي أشرت إليها مسألة اختيار جنس الجنين استعان بعدد من الأطباء الذين كتبوا بحوثا، ثم أتوا وأدلوا بدلوهم في المناقشات التي دارت حول هذا الموضوع وهذه النازلة.
ومن هنا يتبين أهمية هذه المجامع والهيئات العلمية، لأنه يؤتى بالمختصين في النوازل المراد دراستها وبحثها ويستمع لهم، وتحصل مناقشات ومداولات حتى تتضح المسألة للفقيه ويتصورها تصورا كاملا، ثم يبدأ النقاش بين الفقهاء في التكييف الفقهي لتلك النازلة، ثم يصدر في هذه النازلة قرار إن كان هناك خلاف يكون هناك تصويت بالأغلبية، ثم يصدر قرار في تلك النازلة، وتنعقد دورات المجمع كل سنتين.
المجمع الثاني: مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي، والدولي هذه أضيفت مؤخرا كان يطلق عليه في السابق مجمع الفقه الإسلامي لمنظمة المؤتمر الإسلامي، لكن في الآونة الأخيرة أضيفت كلمة الدولي، وبدأ تأسيسه بقرار من مؤتمر القمة الإسلامي الثالث، المنعقد في مكة المكرمة في التاسع عشر إلى الثاني والعشرين من ربيع الأول عام 1401 للهجرة، وكان من توصيات المؤتمر تأسيس مجمع فقهي إسلامي، وانعقد المؤتمر التأسيسي للمجمع في السادس والعشرين من شهر شعبان عام 1403 للهجرة وانتخب الشيخ محمد بن جبير - رحمه الله - رئيسا له، والمقر الرسمي للمجمع هو جدة، ولكن تنعقد دورات المجمع في عدد من الدول، تتنقل دورات المجمع وتنعقد في عدد من الدول، لكن المقر الرئيسي له هو مدينة جدة، وهو كمجمع الرابطة يستعين بعدد من الخبراء والمختصين.
ثم انعقدت الدورة الثانية عام 1406 ورأس المجمع الشيخ بكر أبو زيد - حفظه الله - ولا يزال رئيسا له إلى وقت قريب، وسمعت أنه اعتذر عن رئاسة المجمع بسبب مرضه شفاه الله، وسوف ينتخب في الدورة التي ستعقد قريبا، سينتخب رئيسٌ جديدٌ للمجمع، هذا المجمع أصدر عددا من القرارات، وله مجلة ضخمة تقع في أكثر من أربعين مجلدا تباع في المكتبات، ودون في هذه المجلة جميع مناقشات الأعضاء، وجميع البحوث المطروحة في المجمع، ويمكن أن يستفيد منها طالب العلم.
منقول
|