عرض مشاركة واحدة
 
غير متصل
 رقم المشاركة : ( 27 )
خيَّال الغلباء
وسام التميز
رقم العضوية : 12388
تاريخ التسجيل : 01 - 03 - 2007
الدولة : ذكر
العمر :
الجنس :
مكان الإقامة : نجد العذية
عدد المشاركات : 20,738 [+]
آخر تواجد : [+]
عدد النقاط : 49
قوة الترشيح : خيَّال الغلباء is on a distinguished road
الأوسمـة
بيانات الإتصال
آخر المواضيع

التوقيت
Post رد: موقف الإسلام من العصبية القبلية

كُتب : [ 31 - 12 - 2009 ]

بسم الله الرحمن الرحيم

العصبية القبلية وحكم الإسلام فيها :-

جاء الإسلام ووجد الناس يتفاضلون في الخلق والنشأة، ويتميزون في الأحساب والأنساب، ويتقاتلون للحمية والعصبية، ناسين أنهم من أصل واحد ومصدر واحد فقد كان الهنود البراهميون يقرون التفاضل في القيمة الإنسانية، وأنهم يفضلون غيرهم في ذلك أما اليونان فقد كانوا يعتقدون أنهم شعب مفضل على سائر الشعوب وأنهم خلقوا من عناصر تختلف عن العناصر التي خلقت منها الشعوب الأخرى، التي أطلقوا عليها اسم ( البربر ) وأما الرومان فقد نصوا في كتبهم أن غير الرومان مجردون من جميع ما يتمتع به الرومان من حقوق، وأنه لم يخلق غيرهم إلا ليكون رقيقا للرومان وأما اليهود فقد اعتقدوا أنهم شعب الله المختار، وأن الكنعانيين – بقية الشعوب الأخرى – شعب وضيع بحسب النشأة الأولى، وأن الله خلقه لخدمتهم وأما العرب فقد رأوا أنفسهم أنهم أكمل شعب على الأطلاق وأن بقية الشعوب – التي سموها الأعاجم – شعوب وضيعة ناقصة الإنسانية تلك هي الظاهرة الاجتماعية التي كان الناس يعانون منها، ويقاسمون آلامها، حيث فرقت البشر .

وحرصا من الإسلام على إقامة العلاقات الودية بين الأفراد والجماعات المسلمة ودرأ ً للمفاسد المقدمة على جلب المصالح، ودعم هذه الصلات الأخوية بين القبائل والشعوب، فجعل الأساس لذلك أخوة الإيمان، لا نعرة الجاهلية ولا العصبيات القبلية، ورسولنا أقام الدليل القاطع على حقيقة الأخوة الإيمانية وتقديمها على كل أمر من الأمور الأخرى، فها هو رسول الله يؤاخي بين المهاجرين والأنصار، وبين الأوس والخزرج، وأخذ ينمي هذه الأخوة، ويدعمها بأقوال وأفعال منه تؤكد هذه الحقيقة الغالية ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) [ مسلم (45) البخاري (13) ] وقوله : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) [ مسلم (2586) ] إلى غير ذلك من الأحاديث التي تقوي هذه الرابطة .

ولقد أينعت هذه الأخوة وآتت أكلها أضعافاً مضاعفة، وكان المسلمون بها أمة واحدة تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، فكانوا قوة يوم اعتصموا بحبل الله المتين، ولم تلن لهم قناة لمغامز الأهواء المضللة والأنانيات الفردية .

لكن أعداء الإسلام لم يرق لهم هذا التماسك بين المسلمين، فحاولوا إثارة النعرات القبلية، والعصبيات الجاهلية، وجاهدوا لتمزيق وحدة المسلمين أمما وجماعات، فنجحوا في ذلك، واستجاب ضعاف الإيمان من أبناء الإسلام لهذه المكيدة، فأثيرت النعرات وعادت العصبيات الجاهلية وأصبح الافتخار بالقبيلة التي ينتمي إليها وباللون الذي يحمله أو الأحزاب التي يأوي إليها، وضعفت الأخوة الإيمانية، وقويت العصبية الجاهلية التي حذرنا نبينا منها، وأمرنا بالبعد عنها وعدم الركون إليها .

[ أخرجه مسلم (2584) ] بسنده عن / جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال : كنا مع النبي في غزاه، فكسع رجل من المهاجرين – أي ضرب – رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري : يا للأنصار، وقال المهاجري : يا للمهاجرين، فقال رسول الله : ( ما بال دعوى الجاهلية ؟ قالوا : يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال : دعوها فإنها منتنة )

نعم إنها منتنة كريهة قبيحة مؤذية؛ لأنها تخرج الإنسان من أصله الكبير، أخوة الإيمان إلى أمر حقير ذليل، إنها الأنانية القبيحة التي تظهر في هذه العصبية؛ لأنها تحيل إلى أمر قبيح نهاهم عنه نبيهم، وأعلمهم أنه منتن، وهو الصادق المصدوق .

وعندما جاء الإسلام الناس في جاهلية جهلاء، جاهلية في المعتقد، جاهلية في العبادات، جاهلية في المعاملات، جاهلية في الأخلاق، جاهلية بكل ما تحمله كلمة جاهلية من معنى، فأخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجور والظلم إلى القسط والعدل، ومن المعتقدات الفاسدة إلى العقيدة الصحيحة، عقيدة خلاصتها ( لا معبود بحق إلا الله ) ومن الأخلاق المنحلة إلى الأخلاق الحسنة .

ونرى أن الإسلام وضع الضوابط، وقعد القواعد، وأصل الأصول، لحياة البشرية؛ ومن القواعد التي وضعها الإسلام؛ قاعدة : أنَّه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى؛ فعن / أبي نضرة قال حدثني من سمع خطبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في وسط أيام التشريق، فقال : ( يا أيها الناس : ألا إنَّ ربكم واحد، وإنَّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى، أبلغت ؟ ) قالوا : بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واسمع إلى الحق - جل وعلا - وهو يقول : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } سورة الحجرات وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « الناس سواسية كأسنان المشط، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى » (13) أخرجه / أحمد في مسنده .

جاء الإسلام وكان أصحاب الجاهلية لديهم بعض الأخلاق الحسنة من نجدةٍ الملهوف، وإكرام الضيف، ونصر للمظلوم، وغيرها، وجاء الإسلام لتثبيت ذلك والحث عليه ولكن الإسلام جاء وعند أصحاب الجاهلية أخلاق سمجة قبيحة مستهجنة، ومن الأخلاق التي كانت في الجاهلية؛ خلق العصبية للقبيلة على الباطل، فجاء الإسلام ونفّر منها، وصور ذلك الفعل القبيح تصويراً بليغاً، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( مثل الذي يعين عشيرته على غير الحق مثل البعير ردي في بئر فهو يُنْزع بذنبه ) مسند الإمام / أحمد (1/401) وفي مسند / أبي داود (7/17) وفي الحديث الشريف : ( من قاتل تحت راية عُمِّيَّة يغضب لعصَبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقُتل فقِتْلةٌ جاهليةٌ ) صحيح / مسلم بشرح النووي (12/238) والعمية هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه وقال تعالى : { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } سورة المجادلة : (22) قال أهل العلم في سبب نزول هذه الآية : إنها نزلت في / أبي عبيدة حين قتل أباه يوم أحد، وفي / أبي بكر حين دعا ابنه للمبارزة يوم بدر، وفي / عمر حيث قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر، وفي / علي و / حمزة حين قتلوا / عتبة و / شيبة ابني ربيعة و / الوليد بن عتبة يوم بدر .

كذلك جاء الإسلام والقبائل متناحرة فيما بينها، كل قبيلة تحط من شأن الأخرى، كل فرد أفراد القبيلة يقاتل من أجل قبيلته، ويفرح لفرحها ويغضب لغضبها؛ حاله كما صوره / دريد بن الصمة :-

وما أنا إلا من غزية إن غوت
= غويت وإن ترشد غزية أرشد

فعمل الإسلام على غرس ربطة الدين، ووشيجة العقيدة،لأنها هي الوشيجة التي " يتجمع عليها الناس في هذا الدين، ليست وشيجة الدم والنسب، وليست وشيجة الأرض والوطن، وليست وشيجة القوم و العشيرة، وليست وشيجة اللون واللغة ولا الجنس والعنصر، ولا الحرفة والطبقة إنها وشيجة العقيدة " فقد جمعت هذه العقيدة / صهيباً الرومي، و / بلالاً الحبشي، و / سلمان الفارسي، و / أبا بكر العربي القرشي تحت راية واحدة، راية الإسلام، وتوارت العصبية، عصبية القبيلة والجنس والقوم والأرض، وهاهو مربي هذه الأمة وقائدها - عليه الصلاة والسلام - يعلم ويربى إذ يقول لخير القرون كلها مهاجرين وأنصار : ( دعوها فإنها منتنة )

وما هي؟

صيحة نادى بها أنصاري : ياللأنصار، وردَّ مهاجري : ياللمهاجرين فسمعها رسول الله فقال : ( ما بالُ دعوى جاهلية ؟ ) قالوا : يا رسول الله كسَعَ رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال : ( دعوها فإنها منتنة ) حقاً إنها منتنة .

وقال صلى الله عليه وسلم : ( ليس منَّا من دعا إلى عصبية، وليس منَّا من قاتل على عصبية، وليس منَّا من مات على عصبية ) فانتهى أمر هذا النتن، وماتت نعرة الجنس واختفت لوثة القوم ومنذ ذلك اليوم لم يعد وطن المسلم هو الأرض، وإنما وطنه هو دار الإسلام تلك الدار التي تسيطر عليها عقيدته وتحكم فيها شريعة الله وحده فالعقيدة تذيب العصبية، وتستفيد من رابطة القرابة، وتستعلي على المصلحة الشخصية والقبلية، ويكون المسلم ضد هواه، صلته بربه قوية، علاقته مع إخوانه المؤمنين وطيدة وكلما ضعف رابط العقيدة، وتخلخل صفاء التوحيد، برزت العصبية من جديد، والهوى والنزوات .

إن الافتخار بالآباء والاعتزاز بالانتماء القبلي قد يدفع المرء إلى النار التي حذرنا الله منها، ذلك أنه قد يفتخر بالكفرة من آبائه وأجداده، وما دفعه لذلك إلا العصبية الجاهلية، ولنسمع هذا الحديث الذي [ أخرجه / أحمد (5/128) بإسناد صحيح ] عن / أبي بن كعب رضي الله عنه قال رسول الله : ( انتسب رجلان على عهد / موسى عليه السلام، فقال أحدهما : أنا فلان ابن فلان حتى تسعة، فمن أنت لا أم لك ؟ قال : أنا فلان ابن فلان ابن الإسلام، قال : فأوحى الله إلى / موسى عليه السلام : أن هذين المنتسبين، أما أنت أيها المنتمي إلى تسعة من النار، فأنت عاشرهم، وأما أنت يا هذا المنتسب إلى اثنين في الجنة فأنت ثالثهما في الجنة )

لقد لقن رسول الله هذا المفاخر بآبائه درساً يردعه، ويردع أمثاله عن هذا الباطل، فقد حدثهم أن رجلين من بني إسرائيل في زمن / موسى عليه السلام اختلفا وتنازعا فافتخر أحدهما بالآباء العظام، وعدد تسعاً من آبائه، ثم واجه صاحبه محقراً موبخاً له قائلاً : فمن أنت لا أم لك ؟ إن افتخاره بآبائه واحتقاره لمخاطبه يدل على مرض خبيث كان يسري في كيان هذا الرجل وأمثاله، فهو يرى أن أصوله تعطيه قيمة ترفعه على غيره، وتجعله يمتاز بأولئك الآباء، وأن غيره ممن لا يشاركه في تلك الأصول لا يستحق أن يساوى به، ولذا فهو في مرتبة دونه، وقد كان الرجل الآخر صالحاً، فقال منتسباً : أنا فلان ابن فلان ابن الإسلام، رفض أن يمدح نفسه بغير هذا الدين القويم الذي يفتخر به كل عاقل حصيف، وهذا يذكرنا سلمان الخير، / سلمان الفارسي – رضي الله عنه – لما سئل عن نسبه قال : أنا ابن الإسلام ولما بلغ عمر مقولته هذه بكى، وقال : أنا ابن الإسلام .

إن الفخر بالآباء أو القبيلة أو بالعصبية الجاهلية مع غمز الآخرين والطعن فيها، وأنهم لا يساوونه في النسب مرض فتاك قاتل، يخبث النفس، ويشعل العداوة، ويفرق الجماعة، ويوجد البغضاء والعداوة بين أفراد المجتمع الواحد، وقد يؤدي إلى تمزيق المجتمع وجعله أحزاباً وطوائف .

لقد اشتد النبي في محاربة هذا الداء العضال، ونهى أمته عن الوقوع فيه، وبين لهم حقيقة أمرهم ليكونوا على بصيرة من ذلك أخرج / الترمذي (23955) بإسناد حسن عن / أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : ( لينتهن أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا، إنما هم فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخراء بأنفه، إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية – أي كبرها ونخوتها – إنما هو مؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم خلق من تراب ) إنه تحذير نبوي كريم من آثار الجاهلية التي جاء الإسلام ليحطمها، ويقيم عليها البناء الشامخ القوي إنها أخوة الإسلام التي لا ترقى إليها العصبية، ولا تؤثر فيها الجاهلية .

ولقد ترعرعت العصبيات في هذا القرن، وتعددت وفرقت جماعة المسلمين، وأصبحت معولاً لهدم الأمة الإسلامية، لقد فشت في المجتمعات الإسلامية العصبيات القومية والقبلية والإقليمية، بل والعصبية المبنية على اللون والجنس، واشتعلت هذه العصبيات واكتوى الناس بنارها، وذاقوا منها المر والعلقم، ومفهوم هذه العصبية والدعوى الجاهلية تطور اليوم بشكل مختلف عن السابق وجديد من نوعه، وتبلور في تقنيات حديثة، فلقد أصبحت الشبكة العنكبوتية تزج بالعديد من المنتديات القبلية التي تجعل هدفها الرئيسي توثيق التاريخ وتحقيقه وتدارس الأنساب، والملاحظ على تلك المنتديات لا يجدها تخلو من الصراع القبلي الذي تطور بشكل آخر وملموس بحرب الأقلام بالتعظيم والتفخيم من ذات القبيلة، والطعن بالأنساب، فيجد القاريء الأطروحات التي تسمى بالتاريخ تتناول جوانب سلبية بذكر إنتصار قبيلة س على قبيلة ج وأن المقتولين فلان وفلان وفلان، وأن هؤلاء الذين إنتصروا هم الشجعان وغيرهم من المهزومين الجبناء، وللاسف أغفلوا أن مثل هذه الحوادث لا ينبغي ذكرها لأنها لم تكن قتالا في سبيل الله أو لرفع راية الحق، بل قتال جاهلي أعمى أهدافه هي ناقة وخيل وسلب وقتل وقطع الطريق والهيمنة والسيطرة المركزية بغير وجه حق وكل هذا يضعونه تحت مسمى الفخر بإبراز الشجاعة والقوة، وسبب ماكان يحصل هو الجهل السائد وقلة الوازع الديني، ولكن اليوم إختلف الأمر فمن عاصر الجهل عُذِر لجهله، ولكن كيف بأصحاب العقول وأولي الألباب ممن هم متعلمون ولديهم الشهادات الجامعية يقيمون إمتداداً لهذا الجهل بإنشاء تلك المنتديات ويتناولون هذه الأحداث بنقاشات ثمرتها معروفة مسبقا ومحصلتها النهائية هي التراشق بالكلمات النابية وإثارة الضغائن والأحقاد وفتن عظيمة لا يعلم فحواها إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يجد القاريء موقعا أو منتدى يتناول هذه المواضيع يخلو من ذلك إلا والحوار على أشده حتى يطال الأحياء والأموات ويشمل القبيلة بأكملها وهذا هو مفتاح الشر وإيقاظ الفتنة يأتي بما نسميه التاريخ وبدلا من أن تكون المنتديات موردا يستسقى منه العلم أصبحت موردا يتقاتل ويتصارع عليه الجاهلون والمتعلمون .

وأوقعهم في ذلك تركهم للنهج النبوي الكريم الذي حذرهم فيه من الجاهلية، وأعرضوا عن أمر ربهم حينما أمرهم بالأخوة الإيمانية ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) [ الحجرات : 10 ] وليعلم العاقل أن رابطة الدين أقوى من رابطة النسب وأبلغ مثال في ذلك عندما طلب نبي الله / نوح من ربه أن ينجي إبنه من العذاب، يقول سبحانه وتعالى : ( ونادى نوح ربه فقال رب إن إبني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين * قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عملٌ غير صالح فلا تسئلن ماليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) هنا يبين الله سبحانه وتعالى لنوح أن إبنه ليس من أهله فقدمت رابطة الدين على رابطة النسب، وأن إبنه عمل غير صالح لأنه تحدى الله ولم ينفع دعاء نوح وهو نبي لابنه في أن يشفع له في معصية الله .

كذلك نرى نبي الله / شعيب عندما دعا قومه بالاستغفار بقوله سبحانه : ( واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود * قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا * ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز * قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه ورائكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط ) يبين سبحانه أن / شعيبا دعى قومه أن يستغفروا الله ويتوبوا إليه، فيردون عليه أنهم لا يفقهون ما يقول من قول الحق وأخذتهم العزة بالاثم بأنهم يرونه ضعيفا بينهم وأنه لولا أنه من رهطهم ( أي جماعته وقومه ) لرجموه، وما هذا إلا تبجح، فأبقوا عليه ليس إعتبارا ً لأوامر الله، بل لأن العصبية القبلية هي التي شفعت له غير معتبرين أو مبالين بكلام الله، ويجيبهم / شعيب هل تتركوني لأجل قومي ولا تتركوني إعظاما لجناب الرب تبارك وتعالى ؟! وهل عشيرتي أعز عندكم من الله وأكرم !! قال / ابن عباس : إن قوم / شعيب ورهطه كانوا أعز عليهم من الله وصغر شأن الله عندهم، واتخذتموه ورائكم ظهريا، أي جعلتم الله خلف ظهوركم لا تطيعونه ولا تعظمونه كالشيء المنبوذ وراء الظهر سبحان الله أعزوا وعظموا العشيرة على الله وأوامره فسبحان الله ماذا كان الجزاء : ( ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين * كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ) [ هود : 94 ]

كما أن هناك حقيقة عظمى يجب على الناس أن يعوها، هذه الحقيقية كون البشر جميعاً من أصل واحد، إن هذه الحقيقة يجب أن تكون القاعدة التي يتعامل الناس على أساسها، لكن هذه الحقيقة قد تغيب عن العقول والقلوب، فترى البشر على مستوى الأفراد والأسر والمجتمعات يبغي بعضهم على بعض، ويزعم كل فريق أنه الأفضل والأكمل والأحسن، ويرد هذا الفضل إلى جنسه أو لونه أو مدينته أو قبيلته، وتراه – بناء على ذلك – يمدح من ينتسب إليهم، ويعتز بهم، ويذم غيرهم، ويصفهم بالأوصاف القبيحة التي لا تليق بالإنسان فضلاً عن المؤمن .

إن اعتزازه هذا إنما يقوم على العصبيات الجاهلية القائمة على أصول عفنة قذرة، قال عنها الرحمة المهداة : ( دعوها فإنها منتنة ) لكن بعض الجهلاء تأبى نفوسهم المريضة إلا العيش في العفن إنها تأبى أن تعيش في الطهر والصفاء والنقاء .

والعصبية التي تظهر الآن في أكثر البلدان للجنس أو العرق القبلي أو اللون أو الوطن هي من نوع العصبية القديمة التي كانت تتفجر بين الأوس والخزرج، وهي من بقايا الجاهلية ورواسبها •

لقد كان بين الأوس والخزرج حروب كثيرة في الجاهلية، وعداوة شديدة، وثارات وضغائن وفتن، وكان بينهم قتال شديد، حتى جاء الإسلام، فدخلوا فيه، فأصبحوا بنعمة الله إخواناً •

وبعد أن أصلح الإسلام شأنهم وأصبحوا متحدين متعاونين، مرَّ رجل من اليهود بملأ من الأوس والخزرج، فساءه ما هم عليه من الألفة والتعاون والوفاق، فبعث رجلاً معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكّرهم ما كان بينهم من حروبهم، ففعل فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوسهم وغضب بعضهم على بعض، وتثاوروا، ونادوا بشعارهم، وطلبوا أسلحتهم، وتواعدوا إلى الحرَّة ( مكان بالمدينة ) فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاهم فجعل يسكّنهم، ويقول : " أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ "، وتلا عليهم هذه الآية : { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذا كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبيِّن الله لكم آياته لعلكم تهتدون } آل عمران : 103 .

فالحق هو العودة إلى الدين الحق والمنهج القويم، فإن الإنسان إنما يسعد بحبه لأخيه، وإيثاره له، ويشقى بالفرقة الاختلاف والتنازع والعصبية أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : ( يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـٰرَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) [ الحجرات : 13 ] وعلينا أن نتقي الله، ونربأ بأنفسنا عن النعرات الجاهلية والافتخار بالأنساب والألقاب، فإن الفخر الحقيقي والنسب الناصح هو الإسلام، فبه نحيا، وعليه نموت، وإليه ننتسب .

القومية العربية :-

لقد كثرالحديث عن القومية العربية وكثر الحديث عن الدعوة إليها وكثر الدعاة إليها في الآونة الأخيرة ولقد تبعهم وأيدهم كثير من أبناء الأمة الإسلامية إما عن جهل غير مقصود وإما عن قصدٍ متعمد ومن هذه الجزئية حول هذا الموضوع يتناول ما يمكن تناوله من الجوانب الخفية لهذه الدعوة وخفاياها المبطنة ولن يكون هناك أفضل من نقد الدعوة القومية من خلال المنظورالإسلامي والحمد لله والشكر أن العلامة فضيلة الشيخ / عبدالعزيز بن باز له عنوان دراسة في ( نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع ) وهو ما قد وفر كثير من الجهد من عناء البحث والتنقيب في هذا المبحث بنقل بعض النصوص حرفياً من دراسته .

تعريف عناصر القومية العربية :-

- إختلف الدعاة إليها في عناصرها، فمن قائل : إنها الوطن، والنسب، واللغة العربية .
- ومن قائل : إنها اللغة فقط .
- ومن قائل : إنها اللغة مع المشاركة في الآلام والآمال ومن قائل غير ذلك .

ويتبين مما سبق ذكره أن الدين ليس من عناصرها عند أساطينهم والصرحاء منهم، وصرح بعضهم أنها تحترم الأديان كلها من الإسلام وغيره .

أهدافها :-

- كما عرفه البعض من دعاتها هو فصل الدين عن الدولة، وإقصاء أحكام الإسلام عن المجتمع، والإعتياض عنها بقوانين وضعية ملفقة من قوانين شتى، وإطلاق الحرية للنزعات الجنسية والمذاهب الهدامة ( لا بلغهم الله مناهم )

النظرة الإسلامية إلى الدعوة للقومية العربية :-

- الدعوة إلى القومية العربية وغيرها من القوميات، دعوة باطلة وخطأ عظيم فادح ومنكر ظاهر وكيد سافر للإسلام وأهله، وذلك من عدة وجوه :-

• الوجه الأول :-

إن الدعوة إلى القومية العربية تفرِّق بين المسلمين، وتفصل بين المسلم العجمي عن أخيه العربي، وتفرق بين العرب أنفسهم لأنهم كلهم ليسوا يرتضونها، وإنما يرضاها منهم قوم دون قوم، وكل فكرة تقسم المسلمين وتجعلهم أحزاباً هي بلا شك فكرة باطلة وهدامة تخالف مقاصد الإسلام وما يرمي إليه من وحدة الصف ولم الشمل والجماعة حيث أن قرآننا يدعونا إلى الإجتماع والوئام قال الله تعالى { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا } كذلك فإن هدف القومية غير هدف الإسلام وإن مقاصدها تخالف مقاصد الإسلام والدليل على ذلك أن الدعوة إلى القومية العربية وردت إلينا وجاءت من أعدائنا الغربيين ليكيدونا بها نحن المسلمين ولفصل بعضنا عن بعض وتحطيم كياننا وتفريق شملنا على نحو قاعدتهم المشؤومة ( فرّق تسد ) وذكر كثيرمن مؤرخي الدعوة إلى القومية العربية ومنهم مؤلف الموسوعة العربية : أن أول من دعا إلى القومية العربية هم الغربيون على أيدي بعثات التبشير في سوريا ليفصلوا الترك عن العرب ويفرقوا بين المسلمين، فهل نظن أن خصومنا وأعداءنا يسعون في مصالحنا بابتداعهم هذه الدعوة وعقد المؤتمرات لها ( أول مؤتمرعقد في باريس عام : 1910 ) وإبتعاث المبشرين لها .. ؟ قد يثور التساؤل لدى البعض مالمصلحة التي سوف يجنيها الغرب من الدعوة إلى القومية العربية خصوصاً إذا ما علمنا أن الغرب يزعجه أي تجمع ويقلق راحته أي تكتل ضد مصلحته .. ؟

الجواب كما هو معروف لدى العقلاء أنه إذا كان لا بد من أحد الضررين فارتكاب أهونهما أولى حذراً من الضرر الأكبر وبما أن خوف الغرب من التكتل حول الإسلام أكبر وأعظم كما هو معلوم لدى الجميع ولذلك رضي بالدعوة إلى القومية العربية وحفز العرب إليها ليتمكن من شغلهم بها عن الإسلام وليقطع بها صلتهم بالله سبحانه وتعالى لأنهم يعلمون علم اليقين ليس للمسلمين من نصر إلا بتمسكهم بإسلامهم الصحيح وكما قال الله تعالى : { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز * الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور }

• الوجه الثاني :-

إن الإسلام نهى عن دعوى الجاهلية وحذَّر منها ولاريب أن الدعوة إلى القومية من أمر الجاهلية لأنها دعوة إلى غير الإسلام ومناصرة لغير الحق وكما قال الشيخ / ابن تيمية رحمه الله : كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية بل لمَّا اختصم مهاجري وأنصاري فقال المهاجري : ياللمهاجرين وقال الأنصاري ياللأنصار، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ) وغضب لذلك غضباً شديداً .

قال الله تعالى : { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية } وفي سنن / أبي داود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية ) وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد ) ولا ريب أن دعاة القومية يدعون إلى العصبية ويغضبون لعصبية ويقاتلون على عصبية ولا ريب أيضاً أن القومية العربية تدعو إلى الغي والفخر لأن القومية العربية ليست ديناً سماوياً يمنع أتباعه من البغي والفخر وإنما هي فكرة جاهلية تحمل أهلها وأتباعها على الفخر بها والتعصب لها على من نالها بشيء .

كما كان الحال في الجاهلية حيث كانت سنتهم الفخر بالأنساب والأحساب والأسلاف، والإسلام غير ذلك تماماً حيث أنه يدعونا إلى التواضع والتقوى والتحاب في الله وعدم التفاضل بين جنس وآخر حيث قال الله تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم }

وروى / الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله قد أذهب عنكم عصبية الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي، الناس بنو آدم وآدم خُلق من تراب، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى )
ومن ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن / الحارث الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله أمر / يحيى بن زكريا بخمس أن يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ) فذكرها ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( وأنا آمركم بخمس، الله أمرني بهن : السمع والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جُثى جهنم ) قيل : يارسول الله وإن صلى وصام ؟ قال : ( وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فادعوا بدعوى الله سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله ) ولعمري أن هذا الحديث الصحيح من أوضح الأحاديث وأبينها في إبطال الدعوة إلى القومية العربية واعتبارها دعوة جاهلية يستحق دعاتها ان يكونوا من جُثى جهنم وإن صاموا وصلوا وزعموا أنهم مسلمون فياله من وعيد شديد وتهديد أكيد وتحذير ينذر كل مسلم من دعوات الجاهلية والركون إلى معتنقيها وإن زخرفوها بالمقالات السحرية والخطب الرنانة والخيالات الواسعة التي لا أساس لها من الحقيقة ولا شاهد لها من الواقع، وإنما هو التلبيس والخداع والتقليد الأعمى الذي ينتهي بأهله إلى أسوإ العواقب، نسأل الله السلامة من ذلك .

• الوجه الثالث :-

من الوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية : هو أنها سلّم إلى موالاة كفارالعرب وملاحدتهم من أبناء غير المسلمين واتخاذهم بطانة والأستنصار بهم ومعلوم من هذا الفساد الكبير والمخالفة لنصوص القرآن الكريم والسنة الدالة على وجوب بغض الكافرين من العرب وغيرهم ومعاداتهم وتحريم موالاتهم واتخاذهم بطانة إستناداً إلى قول الله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولّهم منكم فإنه منهم إن الله لايهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ... } سبحان الله ما أصدق قوله وأوضح بيانه، هؤلاء القوميون يدعون إلى التكتل حول القومية العربية مسلمها وكافرها، يقولون : نخشى ان تصيبنا دائرة، نخشى أن يعود الإستعمار وأن يطمع الغرب فينا نخشى أن تسلب ثرواتنا بأيدي أعدائنا، فيوالون لأجل ذلك كل عربي من يهود ونصارى ومجوس ووثنيين وملاحدة وغيرهم تحت لواء القومية العربية، ويقولون : إن نظامها لا يفرق بين عربي وعربي وإن تفرقت أو إختلفت أديانهم، فهل هذا إلا مصادمة لكتاب الله ومخالفة لشرع الله وتعدٍ لحدود الله وموالاة ومعاداة وحب وبغض على غيردين الله ؟..، فما أعظم ذلك من باطل وما أسوأه من منهج .

القرآن يدعو إلى موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين أينما كانوا وكيفما كانوا، وشرع القومية العربية يأبى ذلك ويرفضه ويخالفه ( قل أأنتم أعلم أم الله ) ويقول الله سبحانه وتعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تُلقون إليهم بالمودة } إلى قوله تعالى { ومن يفعله منكم فقد ضلُ سواء السبيل }

ونظام القومية يقول : كلّهم أولياء مسلمهم وكافرهم والله تعالى يقول : { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } وشرع القومية وشرع دعاتها يقول : اقصوا الدين عن القومية، وافصلوا الدين عن الدولة، وتكتلوا حول أنفسكم وقوميتكم حتى تدركوا مصالحكم وتستردوا أمجادكم، وكأن الإسلام وقف في طريقهم وحال بينهم وبين أمجادهم .. ؟

هذا والله هو الجهل والتلبيس وعكس القضية وإنه لبهتان عظيم وكيف يجوز في عقل عاقل أن يكون أبو جهل وأبو لهب وعقبة ابن أبي معيط والنضر بن الحارث وأضرابهم من صناديد الكفار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلى يومنا هذا إخوانأً وأولياء لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة ومن سلك نهجهم وسبيلهم من العرب إلى يومنا هذا .. ؟ هذا والله أبطل الباطل وأعظم الجهل وشرع القومية ونظامها يوجب هذا ويقتضيه وإن أنكره البعض من دعاتها جهلاً أو تجاهلاً وتلبيسا، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

* الوجه الرابع :-

- يقال إن الدعوة إلى القومية العربية والتكتل حول رايتها يفضي بالمجتمع ولا بد إلى رفض حكم القرآن، لأن القوميون غير المسلمين لن يرضوا تحكيم القرآن فيوجب ذلك لزعماء القومية أن يتخذوا أحكاماً وضعية تخالف حكم القرآن حتى يستوي مجتمع القومية في تلك الأحكام وقد صرح بذلك كثير منهم، وهذا هو الفساد العظيم والكفر المستبين والردة السافرة، كما قال تعالى : { فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكِّموك فيما شَجَر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلِّموا تسليما } وقال الله تعالى : { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } المائدة : 50 وقال تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } وقال تعالى : { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليماً } الفتح : 26 .

فالواجب على زعماء القومية العربية ودعاتها أن يحاسبوا أنفسهم ويتهموا رأيهم وأن يفكروا في نتائج دعوتهم المشؤومة وغايتها الوخيمة، وأن يكرسوا جهودهم ويسخروا طاقاتهم للدعوة إلى الإسلام ونشر محاسنه والتمسك بتعاليمه والدعوة إلى تحكيمه بدلاً من الدعوة إلى قومية أو الوطنية .

فالتعصب للقبيلة على الباطل خصلة من خصال أهل الجاهلية وقع يوم من الأيام بين [ أبي ذر ] - رضي الله عنه - [ وبلال ] - رضي الله عنه - خصومة، فيغضب [ أبو ذر ] وتفلت لسانه بكلمة يقول فيها لــ / بلال : " يا ابن السوداء " فيتأثر / بلال، يوم أكرمه الله بالإسلام، ثم يعير بالعصبيات والعنصريات والألوان، ويذهب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - ويشكو / أبا ذر، ويستدعي النبي - صلى الله عليه وسلم - / أبا ذر، فيقول - كما في الحديث المتفق علي صحته - يقول النبي صلى الله عليه وسلم - : " أعيرته بأمه ؟ إنك امرؤ فيك جاهلية "، فيتأثر / أبو ذر ويتحسَّر ويندم، ويقول : وددت - والله - لو ضرب عنقي بالسيف، وما سمعت ذلك من رسول الله –صلى الله عليه وسلم - ويأخذ / بلال - رضي الله عنه - كما روي ويضع خده على التراب ويقول : يا / بلال؛ ضع قدمك على خدي، لا أرفعه حتى تضعه، فتذرف عينا بلال - رضي الله عنه - الدموع، ويقول : يغفر الله لك يا أبا ذر، يغفر الله لك يا أبا ذر، والله ما كنت لأضع قدمي على جبهة سجدت لله رب العالمين، ويعتنقان ويبكيان ذهب ما في القلوب، وانتهى ما في القلوب الشاهد هنا من الحديث : إنك امرؤ فيك جاهلية، أي ما زال فيك خصلة من خصال الجاهلية؛ لأنهم كانوا يتفاخرون بالأحساب، ويطعنون في الأنساب؛ كما جاء في الحديث الصحيح : ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة ) أخرجه / مسلم وعن / أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( اثنتان في الناس هما بهم كفر : الطعن في النسب، والنياحة على الميت ) أخرجه / مسلم ففي قوله : ( إنك امرؤ فيك جاهلية ) بطلان ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق الرديئة، والعقائد الفاسدة، وهو ما ورثته بعض طوائف المسلمين اليوم، فنراهم يفتخرون بمزايا آبائهم وأجدادهم، وهم بعيدون عنهم كل البعد، فهذا يقول : كان جدي الشيخ الفلاني، وهذا يقول : جدي العالم الرباني، وذاك يقول : أنا من القبيلة الفلانية، وما إلى غير ذلك، وما تنفعك قبيلتك أو أبوك أو أمك عن عذاب الله، ألم تسمع إلى قول الحق - جل في علاه - : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ } سورة المؤمنون : (101) وقال تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } سورة عبس : (34-37) والذي يحزن له الإنسان حزناً كبيراً أن هذا المرض الذي هو مرض الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب قد يصاب به بعض من ينتسبون إلى العلم من الطلبة، فتجدهم يتمازحون أو يتفاخرون فيقولون بكلمات نابية، فلان مصري، وفلان سوداني، أو صومالي، وفلان كذا وكذا على وجه السخرية، والفخر والعجب، لا على وجه التعريف، والتمييز .

فيا أيها المسلم ويا أيها الأخ المبارك : إذا كنت ولا بد مفتخراً فافتخر بالإسلام، وليكن الإسلام بالنسبة لك فوق كل اعتبار، ولتعلم أنك عبدٌ لله؛ فإذا سئلت عن قدوتك، قلت : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } الأحزاب : 21، وإذا سئلت عن مذهبك وطريقتك، فقل : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } يوسف : 108، وإذا سئلت عن بزتك لباسك، فقلت : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } الأعراف : 26، وإذا سئلت عن مقصودك ومطلبك، فقلت : { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } الكهف : 28، { إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ } الشعراء : 51، وإذا سئلت عن رباطك، فقلت : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ } سورة النــور : ( 36- 37) وعن نسبك قلت :-

أبي الإسلام لا أب لي سواه
= إذا افتخروا بقيس أو تميم

فكن - يا عبد الله - متلبساً بلباس التقوى، { وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ } سورة الأعراف : (26) وكن متزوداً بزاد التقوى، { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } سورة البقرة : (197) واسمع إلى الحق - جل وتعالى - وهو يقول : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } الحجرات : (13) وقال صلى الله عليه وسلم : ( أكرمهم عند الله أتقاهم )

ما يصنع العبد بعزّ الغنى
= والعزُّ كل العز للمتقى

من عرف الله فلم تغنـــــه
= معرفة الله فذاك الشقي

فإنَّ بتقوى الله - عز وجل - تكون الولاية من الله للعبد؛ قال الله - تعالى - : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } يونس : (62-63) وعن / عبدالله بن عمرو قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جهاراً غير سراً يقول : ( إنَّ آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنَّما وليي الله وصالح المؤمنين ) أخرجه / مسلم ولذلك فإنَّ النسب الشريف، أو الحسب المنيف؛ بدون تقوى الله - عز وجل - لا ينفع، والنسب الوضيع مع وجود التقوى أفضل وأشرف وأرفع؛ فهذا / بلال الحبشي لما أسلم وحقق التقوى لله رفع الله قدره، وأعلى منزلته، وبل وسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - دف نعليه في الجنة، وهذا / سلمان الفارسي لما خالط الإيمان بشاشة قلبه، واتقى خالقه، وخاف سيده ومولاه، أيضاً رفعه الله، وحصل في الدنيا مبتغاه وتقلَّد جائزة : ( سلمان منا آل البيت ) أخرجه / الحاكم في المستدرك .

وفي المقابل هذا / أبو لهب القرشي لما كذب وأبى وكفر وطغى، ولم يعبد الملك الأعلى، وضعه الله في الدنيا والأخرى، وأنزل فيه آيات إلى يوم القيامة تتلى، قال الله - تعالى - : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } سورة المسد .

يقول الشاعر من مجمع الحكم والأمثال :-

لعمُركَ ما الإِنسانُ إِلا بدينــــهِ
= فلا تتركِ التقوى اتكالاً على النَّسَبْ

فقد رفعَ الإسلامُ سلمانَ فارسٍ
= وقد وَضَعَ الشِّرْكُ الشريفَ أبا لهب

ويقول / أبو العتاهية :-

أَلاَ إنّما التَّقْوَى هو العزّ والكَرَمْ
= وحُبُّك للدّنيا هو الفقر والعَــــــــــدَمْ

وليس على عبدٍ تَقِيٍّ نقيصــــةٌ
= إذا صحّح التّقوى وإِن حاك أو حَجْم

ولما فاخر / أبا العتاهية رجل من كنانة، واستطال الكناني بقوم من أهله، قال / أبو العتاهية :-

دَعْنَي من ذِكْرِ أبٍ وجَـــــــــدِّ
= ونَسَبِ يُعْلِيكَ سُورَ المجدِ

ما الفخرُ إلا في التُّقَى والزُّهدِ
= وطاعةٍ تُعطي جِنَان الخُلْدِ

ويقول الخليفة الراشد / علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الفضل أنه بالعلم وليس بالعصبية والتفاخر الأعمي الجاهلي :-

الناس من جهة التمثيل أكفـــاء
= أبوهم آدم والأم حــــــــــــــواء

نفس كنفس وأرواح مشاكلــــة
= وأعظم خلقت فيها وأعضـــــاء

وإنما أمهات الناس أوعيـــــــة
= مستودعات وللأحساب آبـــــاء

فإن يكن لهم من أصلهم شـرف
= يفاخرون به فالطين والمــــــاء

ما الفضل إلا لأهل العلم إنهــم
= على هدى لمن استهـــدى أدلاء

وقيمة المرء ما قد كان يُحسـنه
= والجاهلون لأهل العلم أعــــداء

فقم بعلم ولا تطلــب به بــــدلا
= فالناس موتى وأهل العلم أحيـاء

ويقول رضي الله عنه في أبيات أخرى :-

لكل شيء زينة في الورى
= وزينة المرء تمـــــام الأدب

قد يشرف المرء بآدابـــــه
= فينا وإن كان وضيع النسب



رد مع اقتباس