الحلقه الخامسه :
رنية بلد النخيل والمثلوثة
من لم يمت في المهمل و(حنجرات) مات بغيرهما
الهلاك عطشاً في صحاري (المتاهة)
اعداد : ثواب هياف
تحيط الفيافي والصحاري برنية وبواديها احاطة السوار بالمعصم, ويقول خبراء ان براري رنية تمثل نصف فضاء منطقة مكة المكرمة بأسرها.
وللسكان عشق ابدي واصيل بالصحراء منها يستمدون الاباء والتواضع والطموح الواسع وللرعاة فيها.. مضارب ومساير يبحثون في جوفها عن الماء.. وفي سطحها الكلأ.. ولهؤلاء معرفة وثيقة بالحدود والزمان والمكان.. الا ان هذا الادراك والمعرفة الوثيقة لم يسلم من الوقوع في فخ الصحراء.. فكم من راع تاهت به الدروب فلقى حتفه جوعاً وعطشاً بين امواج الرمال.
قصص كثيرة يتداولها عشاق البر والصحراء من اناس غدرت بهم الصحاري.. فخانتهم انظارهم وتاهوا بين الاركان الاربعة باحثين عن الماء.. الشيخ محمد هياف السبيعي احد اعيان رنية واكثرهم اطلاعاً وادراكا لاغوار الصحراء.. فضلاً انه شيخ الشعل من قبيلة ال محمد سبيع.. يقول الرجل بلغة الواثق المدرك لافاق وحدود الصحراء:
رنية كما هو معلوم محاطة بصحاري قاحلة ممتدة مد البصر, وتزداد مخاطرها في مواسم الصيف والجفاف.. بسبب ندرة المطر وماء الشرب, وهذه الصحراء تقع من جهة الشرق.. واغلب من هلكوا في هذه البراري المهلكة ماتوا عطشاً, ولهذا السبب فان عابري هذه المسافات يتزودون بمائهم وطعامهم أثناء السفر.. واشهر هذه الصحاري الخطيرة هي (المهمل) وحنجرات وعرق سبيع.. يشرح العم هياف تفاصيل هذه الصحاري ويقول عن (المهمل) بانها منطقة شاسعة قامعة تقع في الجزء الشرقي من رنية وتمتد الى اطراف وادي الدواسر بطول 180 كيلو متراً.. والى تثليث جنوباً..
التوهان في المهمل
في المهمل.. لا موارد مائية, ويتعرض عابروا هذه الصحراء الى متاعب جمة.. ويستغل طريقها المسافرون عبررنية ووادي الدواسر.. ويزيد من عمق الازمة عدم وجود علامات ارشادية يقوم بها المسافرون.. والرمال المتحركة تطمر الطريق المأهول دوماً.. ويتوه المسافرون ويضلون الطريق ويدخلون الى منطقة (المهمل).. وتضيع عنهم معالم الطريق ويعرضون انفسهم للهلاك.
احذر عرق سبيع
الشيخ السبيعي يسلط الضوء و(النور) عن الصحاري الاخرى ويتناول صحراء (عرق سبيع) الشهير الذي يبدأ من شمال رنية بثلاثين كيلو متراً وتمتد شمالاً حتى اطراف مركز الحوميات بطول 200 كيلو متر.. وهذا المكان عصب لعدد من الاودية مثل وادي سبيع الكبير العابر لمحافظة الخرمة وعرق سبيع عبارة عن كثبان رملية ممتدة ومتغيرة الملامح ولا علامات تدل المسافرين على الدرب الآمن, الامر الذي يضطر المسافرون الى الدوران في حلقات مفرغة حتى ينتهي الزاد والماء.. وهناك عابرون كثيرون ضاعوا في عرق سبيع وطمرتهم الرمال بمركباتهم!
الصحراء الخطرة الثالثة هي كثبان (حنجرات) التي تقع جنوباً من رنية على بعد 15 كيلو متراً وتمتد الى جهتي الشرق والغرب بطول 60 كيلو متراً..
الموت في المتاهة
من قصص متاهات الصحراء المأساوية قصة ثلاثة رجال, مسن ونجله وابن اخيه لقوا حتفهم جميعاً.
الضحايا من قاطني بادية رنية الشرقية.. فقد خرج الابن وولد عمه قاصدين رنية لاستجلاب بعض الاغراض.. واستقلا سيارتهما وفي طريق العودة عادوا الى مضارب الصحراء في اتجاه البادية وفي منتصف الليل ادركا انهما ضلا الطريق وباءت كل محاولاتهما بالعودة الى الطريق الصحيح بالفشل.. كما انهما تعثرا في العودة الى ذات الطريق وضاعف من المأساة نفاد الوقود في سيارتهما.. وترجلا للبحث عن مضارب بدو قريبة بلا طائل..
ولما شعر الاب ان مكروها اصاب نجله ونجل اخيه سارع الى ابلاغ الجهات المعنية.. وبدأت فرق البحث الارضية والمروحيات في عمليات بحث واسعة عن المفقودين.. واخيراً عثر على جثة الشابين بعد اسبوع من موتهما عطشاً في الصحراء!
خيانة الصحراء
بعد عامين من المأساة توجه العجوز (فيصل السبيعي) الى الصحراء باحثاً عن ابله وغرزت سيارته في الرمال.. وخانته مقدراته الهائلة في علوم الصحراء هذه المرة.. حاول بشتى السبل اخراج سيارته من امواج الرمل.. فضرب في الصحراء باحثاً.. عن منفذ وبعد يومين من السير سقط العجوز وفارق الحياة عطشاً.
وعُثرت على جثته بعد شهر كامل من رحيله.. ومن الاقدار العجيبة ان موقع العثور عن جثة العجوز لم يكن بعيداً عن الموقع الذي عثر فيه على جثة نجله ونجل شقيقه قبل عامين!
قطرات من السماء
حادث مماثل شهدته فياض عرق سبيع راح ضحيته مقاول سوداني ونجله وصديق له وكتب لاحدهما النجاة يقول احد الرجال واسمه (عوض الله): جئت من الرياض لزيارة احد اقاربي ممن يعملون في ورشة داخل الصحراء شرق رنية.. استقبلني (صلاح) ورويت له انني اود زيارة قريبي في الصحراء وأصر على توصيلي وألح في رجائه وقال انه يعرف الطريق.. واتجهنا الى المركز وبرفقتنا نجله الشاب وفي منتصف النهار اصابت السيارة عطل مفاجئ.. نظرت الى الجهات الاربع ووجدت انها آفاق متسعة لا حدود لها.. كما ان الرياح ازالت اثار السيارة).
حاولنا اصلاح خلل السيارة بلا طائل.. وتمرسنا على اقوامنا لعلنا نصادف احداً وكانت الشمس تلهبنا بحرارتها القاسية.. سرنا يوماً كاملاً في الصحراء.. مضت الليلة الاولى.. وفي اليوم التالي واصلنا المسير.. وفي منتصف نهار اليوم الثاني شعرت بصلاح يدب فيه التعب والوهن لا سيما انه كان يعاني من مرض السكر.. طلبت منه البقاء.. ومن نجله المكوث معه لحين تدبير حالنا.. وواصلت سيري بحثاً عن منقذ وفي نهاية اليوم الثاني شعرت باليأس والتعب وفقدت الوعي.. ولحسن الحظ ان امطاراً متناثرة هطلت في تلك الليلة اعادت لي الحياة.. حاولت النهوض بلا طائل وزحفت على بطني ووصلت الى ظل شجرة قريبة واسلمت امري الى الله.. حتى تم انقاذي بواسطة احد قاطني الصحراء! اما رفيقي صلاح ونجله فقد توفيا عطشا..
الموت على الطريق المعبد
الاهالي يطالبون بانشاء مراكز للدفاع المدني والهلال الاحمر واطلاق خدمة الجوال حتى يتمكن التائهون من طلب النجدة وتحديد مواقعهم.. والمأمول كذلك حفر ابار على امتداد الصحاري لايقاف نزيف العطش.. وان كان البعض يموتون عطشاً في طرق غير معبدة فان آخرين يلقون حتفهم في طريق مسفلتة مثل طريق الموت الرابط بين رنية والمحافظات المجاورة عبر الخرمة متقاطعة مع طريق الرياض الطائف الى بيشة..
واصبح الطريق الخطر مصدر قلق مستمر ودائم.. عائلات بألمها ضاعت في الطريق..
اما المدرسون والمدرسات والطلاب والطالبات فحالهم يغني عن السؤال.
مآسي الطريق المفرد: ابل وتجاوز
(سعد السبيعي) يتولى نقل طالبات كلية التربية ويقطع مسافة 148 كيلو متراً يومياً يروي مشاهدات الرحلة الخطرة: تقابلني يومياً على الطريق قطعان من الابل الخطيرة, المسار ضيق, والطريق غير المزدوج يزيد قلقي في كل لحظة.. والسيارات العابرة لا تتقيد بقواعد المرور.. ولا تعرف اخلاقيات التجاوز والرحلة صعبة.. ومريرة وربنا يستر..
ويتذكر دحيم محمد احد مرتادي الطريق الخطر في رنية حادثاً مأساويا كان شاهداً عليه: حاولت سيارة امامي تجاوز شاحنة فاصطدمت باخرى.. وتطايرت الاشلاء في الفضاء.. لن انسى المشهد ما حييت.
المقدم عبدالمعين القصر مدير شرطة محافظة رنية يقول ان حوادث طريق الخرمة -بيشة -رنية كثيرة ومأساوية وهذا الطريق الخطير يعتبر الشريان الرئيس الرابط بين هذه المدن والمناطق الغربية والوسطى.. ويسلكه المصطافون طوال الصيف.. فضلاً انه الدرب الوحيد للحجاج والمعتمرين القادمين من الجنوب.. كما ان الطريق يرتاده ايضاً الطلاب والطالبات والمعلمون والمعلمات الدراسون والعاملون في محافظتي بيشة والخرمة المجاورتين.
ومعظم الحوادث المؤلمة تقع بسبب التجاوز الخاطئ وضيق الطريق والابل السائبة!