شاعر الحب العذري
محمد بن قاسم الفيحاني
عشقه:
عاش شاعرنا الفيحاني قصة حب مؤثرة تناقلها الرواة إلى يومنا هذا, فقد
هوى ابنة خاله (مي) وكانت إحدى فواصل نساء عصرها حسنا وخلقا
وذات جمال باهر وأدب ظاهر منذ كانا صغيرين يلعبان إلى مراهقين يتفتحان
ثم شابين يحبان, وكان يرى في عينيها كل الماضي والحاضر, وكانت ليله بكل
سكونه, وأحلامه وأمنياته وكانت نهاره بكل ضجيجه ونشاطه, وكانت مي ترى
في ملامحه خطوط الحاضر والمستقبل الجميل. كان يروي لها أشياء كثيرة لا تعرفها
عن ذاته وتروي له أشياء أكثر يمقتها في ذاته, ولكنها تحبها فيه فيقطف البسمة من
ثغرها وتقطف هي الرضا من عينيه, فلما كبرا قرر الزواج منها وراحا يرصفان
طريق الواقع بالأمنيات ويرصفان الليالي بالأمال والأحلام, لكن الأيام الحلوه سرعان
ما تتحطم على صخرة الزمن, عندما أيقضتها الأعراف القبلية من غفلتهما وسرقت
حلم الحب من أجفانهما عندما قرر والد (مي) تزويجها إلى أبن عمها حيث أنها
محجوزة له؟ دافع محمد الفيحاني عن حبه الضائع وعن أمنياته المسروقه, أذهلته
الصدمة وشلت كل شيء فيه إلا حبه لمي, ولم يجد أمامه إلا البوح بأحزانه عند عم
والدته ناصر بن شاهين الذي رق قلبه لحاله, وعلى الفور ذهب لوالد (مي) يحاول
أن يثنيه على ما عزم عليه, حاول جاهدا لكن دون جدوى, أخبره عمه برد والد
(مي) عندها سقطت دموعه وبكى بحرقة, لم يصدق نفسه أن فتاة أحلامه يأخذها
غيره, أختفى الحلم الجميل فجأة وظل ينظم القصائد ويبعث بها إلى أصدقائه من
الشخصيات المرموقة في عصره وخاصة الشيخ ابن خليفة حاكم
البحرين على امل أن يتوسط عند أبناء عمومة (مي) فيسمحون له بالزواج بها
ولكن كل المحاولات فشلت, أرسل قصيدة لصديقه أسماها (قصت حبالك) يقول فيها
قصت حبالك من عقب وصلها مي
واستبعدت من عقب ما هي قريبه
ومن المحبه ما بقى عندها شـي
صارت عقب ذيك الصداقة حريبـه
امتر صافي مايها العـذب وانطـي
اصري ولا ظنيـت يصفـي قليبـه
ولا هقيت يعود لـي ذلـك الفـي
هيهات مرجوع القمر من مغيبـه
الا ان تعود عصور شـداد ولـوي
والا الصبا يرجـع لعـود وشيبـه
ثيا ويل قلبي من بلاويـه يـاوي
الله الأحد ويلاه يـا هـي مصيبـه
اعدم بقايا صحتـه منهـج الغـي
واتلاه صرف الوقت حطه ضريبـه
تسمع حنينه كل ما بالحشا ضـي
حنين مسيـوق الريـاح الصليبـه
يدوي ولي من حركه ذكرهم هـي
وازداد من فرقى الحبايـب نحيبـه
وان ليم صمصم ما يطيع العذل عي
مفتون كثر اللـوم عيـى يجيبـه
مالوم كن بضامره يرسـم الكـي
لي من ذكر قطع الرجا من حبيبـه
نوحي حمامه كل ما نحت والعـي
غريب وانتي يا حمامـه غريبـه
الكل منه ضامـه الوقـت والنـي
والى شكى ما شاف له من يثيبـه
باشكي عليك الحال وانتي لي اشكي
وتعززي لي لو على غيـر ثيبـه
قالت ربوعك وينهم قلـت ماشـي
قالت بلى وين الذي تعتـزي بـه
قلت الذي تعنينهـم ذبـوا الطـي
واللي تحريته بهـم صـار خيبـه
تعذروني يـا حمامـه بـلا شـي
يوم استمت حبلي وشفت الغليبـه
خلوني الخـلان واستعـذر الخـي
اللي ذخرتـه للخطـوب الصعيبـه
واللي نخيته عقبهـم صابـه الـي
يا عونة الله وين من نلتـوي بـه
وتزوجت (مي) من ابن عمها وعندما علم شاعرنا شهق وأهتز قلبه وكاد أن
يخلع من صدره, بعد ما أغلق على نفسه متاريس العزلة أعتقل عواطفه وأصبح
منكسرا مهزوما وقرر في قرارة نفسه أن يعيش على ذكرى (مي) وكأنها تقاسمه
حياته. إن الحب الصادق لا يموت أبدا, وبدأ يكتب قصائده التي مزجت بدمه ودموعه
وكأنه يعزف أنشودة عمره وفؤاده, ويقول في قصيدة له إلى (مي) أسماها (أمانتكم لها)
شبعنا من عناهـم وارتوينـا
وعند رسوم منزلهـم بكينـا
وعقب فراقهم شنـا وحـن
وحنينـا وثـم إنـا عوينـا
وسايمنـا وساقمنـا وحنـت
لنا حتـى المنـازل والعنينـا
ونادينـا وقلنـا خبـروهـم
ترانا مـن محبتهـم نعينعـا
وثرنا من مفارقهـم نحلنـا
وكان فراقهم طـاول فنينـا
إلى جيتم منازلهـم فقولـوا
لهـم باقوالنـا يـا راحلينـا
ولا تنسون ما قالـه محمـد
أمانتكـم لهـا يـا حاملينـا
ترانا للـذي قالـوا سمعنـا
وباللي هم بغوا منا رضينـا
وكل شروطهم نقـدم عليهـا
قدمنا بالـذي فنـوا علينـا
نخينا مـن يذكـر بالمـروه
ولأهل الذات والشيمه عزينـا
أرى راعي الهوى مازال يلعي
ولو تحت الثرى يلعي دفينـا
ولا نحنا ولا صحنـا وقلنـا
لكم يا اهل الموده خاضعينـا
برب البيت والكعبه وزمـزم
إله العرش رافع طور سينـا
إلهي اسألـك ترحـم محمـد
بجـاه المصطفـى والتابعيـا
تلامي ما تفرق من شملنـا
وتجعلهـم علينـا راجعينـا
وقال رحمه الله شاكيا حاله إلى صديقه أحمد بن عيسى المهندي وأسماها (كأس الهوى)
هيه يا غادي على شبـه الظليـم
مقتفيـه الليـل حاديـه الـظـلام
زاد روعه يوم جـا وقـت العتيـم
واستذار ونار فـي عـدوه وهـام
استخـف وخـف خفـاق هميـم
يوم حال الليـل مـن دون النعـام
ارهقـه بـرق ورعـاد وديــم
لين ما بين الثـرى والجـو حـام
يا ولد عيسى عنيتـك يـا مشيـم
وانتقيتـك للعـزاوي والشـهـام
يوم شفت امن العنا نقض البريـم
والصبر ما ريت عندي لـه لحـام
بشتكي لك وانت باللي بـي عليـم
ما خفاك دمـوم حالـي والهيـام
انتحالـي وانتحـابـي كالفطـيـم
لي تجلود واجتلـد عقـب الفطـام
مـا تشابـه ونتـي ونـة يتيـم
لا ولا ونـة علـى داره دهــام
كلما هبـت مـن القبلـه نسيـم
في ضميري هب لاهـوب الغـرام
وان نشا في قربهم بالغـرب غيـم
رقرقت عينـي وهلـت بانسجـام
شارب كاس الهوى رايـت ختيـم
دايـخ فـي حبهـم ميـت حـرام
فصلوا لي بالسقـم ثـوب سقيـم
من على راسـي تحـدر للابهـام
واحرقوا يا بوسعـد قلـب هشيـم
واصرموا عرقه من الجوشن صرام
مـا يـداوي علتـي بـدواه ديـم
لـو يداويهـا قـدر ستيـن عـام
وان نشدني قلت طبـي يـا حكيـم
بين بيـض كالبـرد تحـت اللثـام
يا عذولي لا تلمنـي يـا غشيـم
عن محمد كـف عذلـك والمـلام
ما سمع سالم وي لا طاوع سليـم
بالهوى والحـب يرجمهـم رجـام
والهوى قبلـي تلـف عبدالرحيـم
واستجار من الهـوى عبدالسـلام
واستغاث من الهوى راعي القصيم
وابتلى الناعي على ديـم الخـزام
ديم: هذا اسم الطبيب الذي كان يعالجه
وفاته:
بعد شهور من زواج (مي) شحب لونه كثيرا, وغامت عيناه أكثر, من فرط الارهاق
والسهر هاجمه المرض وأصبح كل يوم يمر عليه كأنه يمضي به على طريق مفروش
بالأشواك, وفي هدوء سافر إلى البحرين دون ان يعلم به أحد من أقاربه وعند وصوله
ذهب إلى الدكتور (ديم) صديق والده الذي كان يعمل في الإرسالية الأمريكية بالمنامة
وبعد الكشف عليه اتضح أنه يشكو من مرض عضال في جسمه لم يستطع الدكتور (ديم)
أن يخبره بمرضه بعدها علم شقيقه فهد المقيم بالبحرين بوجوده في المستشفى وحضر على
الفور وظل بجانبه يواسيه طوال أيام مرضه ويخفف عنه الآمه. يقول شقيقه عبدالوهاب بن
قاسم: كان أخي فهد جالسا بجوار سرير أخينا محمد وعيناه تحتضنان وجهه, كذلك شهد آخر
ساعات عمره آخر أسراره, وبينما هو في غيبوبة فجأة استيقظ ونظر إلى من حوله. كان يبدو
وكأنه استرد كل صحته وفي هذه اللحظة تذكر مي فطلب ورقة وقلم وكتب آخر قصائده وهو
على فراش الموت وعنوانها (مذبوح الوريد) قال فيها:
ما سمع قلبي يـروح ولا يـرى
زول محبوبه ولو هو مـن بعيـد
آه واويـــلاه يالـيـتـه درى
كيف حبه في حشا روحـي يزيـد
أو درى أني منه قد حالـي بـرى
ذايب بالي عقب مـا هـو حديـد
وأن من الابعاد موحـي المقبـرا
يحفرونه لـي وموقـن بالوعيـد
يـا لزيمـي قـول للـي يحفـرا
يوسع اللحد على شـان اللحيـد
ويحجز بيني ومـا بيـن الثـرى
عـن عظـام ناحـلات كالجريـد
وأنـت يـا دفـان ياللـي تقبـرا
يا مهيل الترب بالسرعـه مجيـد
حط من فوق القبر حتـى يـرى
بنيتيـن كالنصايـب لـه شهيـد
يعرفون القبر مـن جـا ينظـرا
يعرفونـه قبـر مذبـوح الوريـد
قبر من صـان المـوده واستـرا
قبر من لا خـان عهـد للعهيـد
من صبـر للحـب حتـى بتـرا
زرع قلبه واودعه حـب حصيـد
تـم عاميـن بجوفـي ينـسـرا
نسر ملهوف الضواري في المصيد
كود لي من جـاه علمـي يذكـرا
وانعتوا قبـري لمعلوقـي وكيـد
ياتي لقبري ويذكـر مـا جـرى
يوم انا وياه فـي الدنيـا عضيـد
وترحم بالدعـا لـي مـن قـرا
يوم خلاني وسـط قبـري وحيـد
وان سمـع بالدمـع ودي ينثـرا
فوق قبري عبـرة مثـل الوليـد
آه منـه ليـن صــد ودبــرا
رايـح عنـي وخلانـي فـريـد
كيف قلبه ساعتـه ثـم اصبـرا
كيف رجله له مشت فوق الصعيد
والـذي هـو غـادي دونـه ذرا
فدوة عن كل مـن جالـه ضديـد
كيف اجل لـو مـات وانـا ارى
كان طريت السلـب طـر العنيـد
واحترقت وكان قلبـي قـد ورى
شـب نـار كنهـا نـار الوعيـد
تحطم وسـط الضميـر وتسعـرا
ما يبردهـا لـو الثلـج الجميـد
كان تلقاني علـى روس الـذرى
نايـح مـع كـل قمـري يشيـد
لين غرد طـال نوحـي واطهـرا
وان هجع جريت انا نوحي سهيـد
وانهمل وانهـل دمعـي وامطـرا
مقلتين العيـن وادعاهـا هميـد
ما هقا أني عقب موته في الورى
عايـش إلا وانـا مثلـه فقـيـد
ومرت اللحظات ثقيلة, وعادت الغيبوبة إليه مرة أخرى, ولم يسمع منه غير اسم (مي),
وبعدها حضر الدكتور (ديم) وطلب منا مغادرة الغرفة وبعد دقائق حضر الدكتور (ديم)
ومعه أطباء آخرون وأغلقوأ باب الحجرة خلفهم وكأن عقارب الزمن قد توقفت. نهض
شقيقي من مقعدة نفس المصدر نظر نحو الأطباء, لم يشر إليه أحد بما يطمئنه أو يسمح
له بالعودة إلى الحجرة وفهم الدكتور (ديم) ما يدور في عيونه نظر نحوه وهمس في حزن
عميق (مات صديقي محمد الفيحاني) وكانت وفاته يوم الجمعة 28/12/1358 للهجرة
الموافق 17/1/1939 للميلاد عن عمر لا يتجاوز اثنين وثلاثين عاما أنتهت قصة الشاعر
المعذب التي كشف عنها شقيقة لأول مرة, وأسدل الستار عن أجمل قصة حب في الخليج
وأتمنى أن تحوز على رضاكم