بسم الله الرحمن الرحيم
غربة الجسد والوطن
هذه أبيات تجمع بين قوة المبنى وجزالة المعنى، سرت مسرى الأمثال، واستشهد بها الخطباء والكتّاب، جيلا بعد جيل .. ولا تعرف سوى قلّة متمكّنة من ذوي الباع في الشعر العربي أصحاب هذه الأبيات رغم ذيوعها على الألسنة، فجمعها الأديب العلامة الشيخ "علي الطنطاوي" رحمه الله، في كتيّب بعنوان "من شوارد الشواهد"، ونسب كلاً منها إلى قائله، وذكر غالبا مناسبته .. وسنقف بإذن الله وقفات قصيرة في ظلالها، ومع ما فيها من معاني الحكمة، بيتاً بعد بيـت، في حلقة بعد حلقة، في هذه الزاوية، التي تدعو قرّاءها إلى التواصل معها بالنقد والتعليق ..
أين أنت يا أخي ؟..
لم تعد الغربة في زماننا هذه غربة الأجساد عن الأوطان فحسب -وما أصعبها من غربة- بل زاد عليها أن يكون المرء في غربة وهو يعيش بين أصدقائه وإخوانه، بل ربّما في القلب من دائرة أقربائه وأفراد أسرته !.
ولم تعد الغربة في زماننا هذا غربة بين الأفراد فحسب -ولا يستهان بها- إنّما أصبح من الشعوب من يتعرّض نتيجة الطلاق بين السياسة والأخلاق، للعيش في غربة .. إن صحّ وصف ذلك عيشاً.. وهي تحرمه من التواصل مع جيرانه، أو من مواكبة عالمه وعصره، فضلا عن حرمانه الأشد من لقمة طعام وجرعة دواء !..
وفي مثل تلك الغربة الشديدة للأفراد والشعوب تبدو قيمة الأخوّة، التي يهيب بك أن ترعاها بيتُ شعر يقول: أخاكَ أخاكَ إنّ مَنْ لا أخاً لَهُ كَسـاعٍ إلى الهَيْجا بِغَيْرِ سِلاح
أرأيت إن دقت طبول الحرب، وأحاط بك المعتدون، ودنّسوا حرمات أرضك، وفَتَكُوا بأحبابك، فوجب عليك القتال وخرجت لتقاتل .. ولكن ما بيديك المجرّدتين من سلاح تردّ به فجور المعتدي المدجّج بالسلاح! .. إنّ حالك آنذاك أشبه بحال من لا يستشعر رابطة الأخوّة في حياته، ولا يتذوّق طعامه في مختلف أيامه، فيفتقدها لحظة الحاجة الماسة إليها، ويدرك آنذاك -متأخّرًا- أنّها هي السلاح الذي لا غنى عنه ساعة الخطر، ولا يفيد في معترك الحياة كمثله صلة أخرى من الصلات الدنيوية!.
هذا البيت الشاهد بمعناه على معنى كريم، الشارد في أذهان الناس عن قائله وهم يستشهدون به ، أورده الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- في كتابه "من شوارد الشواهد" ، ناسبًا إياه للشاعر ربيعة بن عامر بن أنيف المعروف باسم "مسكين الدارمي"، والبيت من قصيدة يقول فيها أيضا: وَإنّ ابْنَ عَمّ المَـرْءِ -فَاعْلَمْ- جَناحُهُ وَهَلْ يَنْـهَضُ البازي بِـغـيْـرِ جَـناح
وكم ذا نفتقد في واقع حياتنا المعاصرة رابطة الأخوّة، وكم ذا نقصّر -أفرادا وجماعات ودولاً- في رعايتها، في الأوقات الاعتيادية، ونحن لا نواجه خطرًا طارئًا، أو نطلب حاجة بعينها، فآنذاك تكون الرعاية القويمة ذات النتائج المفيدة عند الملمّات. أمّا أن يهمل الأخ أخاه، وينأى عنه، ولا يسأل عن أوضاعه وأحواله، ثمّ يطرأ طارئ غير منتظر فتستنجد به وترجو عونه ونصرته، فآنذاك لا يفيد الاتصال حتى لو أراد تلبية طلبك، فقد يحول دون ذلك جهله بك لطول الانقطاع عن بعضكما، وشبيه بذلك على سبيل المثال حال تلك الدول العربية، التي كانت تتنافر وتتدابر ويهيم كل منها في سبيل، ثم تلاقت فجأة عشية حرب آذنت بالاندلاع، بزعم توحيد صفوفها وقيادتها، فلم ينفعها التلاقي في اللحظة الأخيرة، ولا أغنت عنها المزاعم أن رابطة الأخوة بينها فوق كل رابطة عداها .. وهُزمت شرّ هزيمة.
ولو صدقنا ما نصف به علاقاتنا الأخوية، أو علاقات دولنا ببعضها باسم "الدول الشقيقة"، فبذلنا ما ينبغي بذله من جهود في أوقات السلم، لتحقيق التقارب والتعاون والتكامل، لوجدت تلك الدول نفسها في جبهة واحدة أمام أخطار خارجية محدقة بها، بدلاً من أن ينفرد بها عدوّها، دولة بعد دولة .. في الحرب والسلم على السواء !..
ولكن ما لنا وللسياسة التي يصفونها بالسياسة العليا، وما هي بتلك عند التأمّل في المنحدرات التي تخوض في أوحالها، فإنّما تصبح الأخوّة بين الشعوب، عندما تبدأ رعايتها بين الأفراد في المجتمع الواحد، فلا نمضي في دروب متفرّقة وسبل متشعبة، ولا نزعم لأنفسنا مثل تلك العلاقة الأخوية دون أن ننهض بتبعاتها في واقع حياتنا ومعاملاتنا اليومية، ويوم نقضي على ذلك الانفصام العقيم بين ما تزعم ألسنتنا وما تصنعه جوارحنا، بين القول والتطبيق، وبين الشعار والواقع، آنذاك نضع أقدامنا على بداية الطريق، وكم ذا تساءلنا عن الطريق وبدايته، وهو أمامنا ننتظر أن نسلكه -أفرادا وجماعات ودولاً- ولا نسلكه !..