يعتبر الشعر العربي القديم، وخصوصاً المعلقات، مصدراً مهماً للمؤرخين والبلدانيين والجغرافيين عن أسماء البلدان والأماكن، وخصوصاً الجبال والهضاب والأودية والرمال والشعاب والأطلال والآثار .. فليس هناك شاعر يبدأ قصيدته أو معلقته إلا ويبدأ بذكر الديار والأطلال الدارسة، ويذكر ديار قومه . كثير منهم يذكر اسم بلدته أو قريته ويتغنى بجبالها وهضابها وسفوحها وشعابها وأوديتها وأمطارها .. وكثير من هذه الأماكن بقيت معروفة حتى زماننا هذا، وحفظها الشعر العربي وحفظ أسماءها، بل إن بعض الجغرافيين يذهب إلى هذه الأماكن والمسارح، ويقف كما وقف الشعراء الأوائل، ويبدأ يردد قصيدته في هذا المكان، فيكون وصف الشاعر منطبقاً تمام الانطباق على الواقع .. فهو يصف الأجواء ولون الهضبة أو الجبل أو المكان ثم يعقبه بتشبيه له من حياتهم الدارجة، فيكون هذا الوصف الرائع مثل ( الصور الملونة ) في وقتنا الحالي . هذه الصور الشعرية الرائعة حفظت أسماء هذه الأماكن في المعاجم ودواوين الشعر، وربطت حياة العرب ولغتهم الفصحى بأعلام ثابتة ثبوت اللغة العربية والشعر العربي .
( القصيم )، تلك المنطقة التي تقع في قلب الجزيرة العربية، منطقة كانت في القديم من أشهر مسارح العرب ومرابعهم .. ففيها المعالم التي رددها الشعراء الجاهليون والإسلاميون وتغنوا بها .. ولا تزال معروفة بأسمائها إلى اليوم؛ مثل ( الجواء )، ( رامتان )، ( طخفة )، ( قطن )، ( أبانين ) ( ضريَّة )، ( وادي العاقلي )، ( وادي الرس )، ( النباج)، وغيرها من المواقع والجبال . وعلى ترابها ورمالها وبين جبالها وقعت رحى أيام العرب المشهورة؛ مثل ( يوم جبلة ) و ( يوم خزاز )، ودارت على ترابها وبين وهادها حرب البسوس وحرب داحس والغبراء، هذه المنطقة تجمع بين الأودية وكثبان الرمال والجبال .. هي مرعى ولا أطيب .. ومنتزه ولا أجمل في فصل الربيع وفوق كثبان الرمال .. ومرعى ولا أشهى للإبل والمواشي .
في فصل الربيع تتحول صحاري القصيم .. في عالية نجد وكثبان رمالها .. إلى بساط سندسي أخضر موشًّى بالألوان ومرصع بالجواهر من زهور الأقحوان والخزامى والزهور الصفراء والبيضاء والبرتقالية والحمراء .. وسط صدح البلابل والطيور .. والأجواء الصافية التي تلتقي فيها خضرة الأرض بزرقة السماء .. فيها منابع للمياه، حيث إنها منقطع ( الدرع العربي ) من ناحيته الشرقية .. ولهذا اشتهرت هذه المنطقة في أشعار العرب وأيامهم ومسارحهم وغزواتهم وفلواتهم .. وكانت فيها أعز أيامهم وأخصب أشعارهم التي يرددها العرب في طول الوطن العربي وعرضه، ويصدحون بها كما صدح بها الشعراء في فياض القصيم قبل 1500 عام أو يزيد ..!!
وسوف أتناول في هذه المقالة ما ورد في المعلقات ( العشر ) من أشعار في منطقة القصيم؛ حيث ذكرت أماكن معروفة في القصيم في حوالي 8 من هذه المعلقات، وهذا دليل على أنه من أشهر الأماكن في جزيرة العرب على طول تاريخهم .. وهو أطيب مساكنهم وموارد مياههم ومراعيهم وملتجآتهم في رعان الجبال الشوامخ كطخفة وإبان وخزاز وإمَّرة ( جبل متالع )، و ( قطن) وغيرها .
1- معلقة عنترة بن شدَّاد العبسي :-
توفِّي عنترة بن شداد العبسي نحو سنة 8 قبل الهجرة، وهو من بني عبس، ومعروف أن منازل بني عبس قديماً هي في نجد، وكذلك بنو أسد . ومن هذه المنازل ( عيون الجواء ) حالياً .. وكذلك جبلا غرب القصيم . يقول / عنترة بن شداد بعد مطلع معلقته :-
يا دار عبلة بالجواء تكلمي
= وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي
جاء في معجم البلدان ( 2-174 ) ما يلي : الجواء : جمع جوٍّ، وهو المنخفض من الأرض، والجواء وادٍ في ديار عبس في أسافله عدنة .
وقال / ابن الأنباري في شرح بيت عنترة السابق : ( الجواء بلد يسميه أهل نجد جواء عدنة ) وقال الشيخ / محمد بن ناصر العبودي في معجم بلاد القصيم ( 2- 755 ) ما يلي : عدنة التي أضيف الجواء إليها عرَّفها العلماء بأنها هي الجهة التي تقع إلى الشمال من وادي الرمَّة . وهذا صحيح بالنسبة إلى الجواء هذه؛ لأنها في المنطقة من القصيم الواقع إلى الشمال من مجرى وادي الرمَّة .
وتوجد حتى يومنا هذا في الجواء صخرة يقال لها : ( صخرة عنترة ) وقد اطلعتُ مؤخراً على نقاش دار حول هذا الموقع وحول أرض عنترة بن شداد، حيث ذكر أحد الباحثين أن منطقة ( اليوا ) الإماراتية كانت موطناً لبني عبس، وأن قبر عنترة العبسي في ( اليوا ) الإماراتية . ولكن هذا تخالفه جميع معاجم البلدان التي أُلِّفت في الأماكن، فكيف ينتقل قبر عنترة إلى هذا المكان الثاني . وقال الدكتور / عبدالعزيز بن محمد الفيصل في العدد ( 10765 ) من جريدة الجزيرة : ( بما أن لي مؤلفاً عن قبيلة عبس يقع في جزئين، فمن واجبي مشاركة الباحث الكريم / حسين البادي في رؤيته ل ( اليوا ) الإماراتية، وأن بها ما يشهد على انتسابها إلى بني عبس، فأقول : إن الجواء التي عاش فيها عنترة العبسي في بلاد القصيم في نجد، وهي بلاد معروفة اليوم، وبها مدن وقرى . وأخبار عبس متواترة عند سكان منطقة الجواء، وصخرة عنترة في الجواء النجدية معروفة، وهي البلاد التي وردت في معلقته؛ حيث يقول :-
يا دار عبلة بالجواء تكلمي
= وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي
فالحزن والصمان والمتثلَّم في شرقي نجد، وهي معروفة إلى اليوم. وحياة عنترة معروفة، فهو من فرسان حرب داحس والغبراء، فقد حمل السلاح وهو في سن العشرين تحت قيادة / قيس بن زهير العبسي، ولم يُلْقِ السلاح إلا وهو في سن الستين عندما تم الصلح بين عبس وذيبان . لقد عاش عنترة أربعين سنة على غنائم الحرب، فهو لا يعرف كسب العيش إلا عن طريق الحرب، وعندما جنح الفريقان إلى السلم التفت فارس العرب يميناً ويساراً فلم يجد مجالاً لكسب العيش، فعاش في ضيق إلى أن توفي، فقد خرج في يوم قائظ ينشد بعيراً له، فهبت عاصفة تحمل الرَّمل والتراب، فهلك عطشاً بين شرج وناظرة، والمكانان معروفان في شرقي نجد ... ) ويقول : ( وبما أن قيس بن زهير وعمرو بن رواحة استقرا في عمان، فلا يبعد أنهما أطلقا على وطنهما الجديد الجواء ( اليوا )، أما عنترة فلم يبرح نجداً )
وقال / ابن قتيبة نقلاً عن أبي عبيدة ( الشعر والشعراء : 1-173 ) : ( إن عنترة بعدما تأوت عبس إلى غطفان بعد يوم جبلة، وحملت الدماء احتاج - وكان صاحب غارات - فكبر فعجز عنها, وكان له بكْر على رجل من غطفان، فخرج قبله يتجازاه، فهاجت رائحة من حيِّف وهبَّات نافحة، وهو بين شرج وناظرة ماء لبني عبس بنجد من أرض العالية، وشرج هي ( شري ) و ( ناظرة ) نواظر كلاهما شمال القصيم )
ويقول الأستاذ / حمد بن عبدالله الخنين ( وهو باحث بمجلة العدل ) في العدد ( 10782 ) من جريدة الجزيرة : ( هذه حقيقة عنترة وما عداها خطأ )؛ حيث يقول : ( وحفاظاً على التاريخ وبحثاً عن الحقيقة ولا شيء سواها، وبصفتي مَنْ ألَّف وكتب في التاريخ فيجب أن أساهم في موضوع ( موطن بني عبس ) المنتشر في عموم الجزيرة العربية . ولكن نقول بأن قبر عنترة يقع في الجواء بالقصيم ) ويقول : ( أما - اليوا- الإماراتية فهي موطن قيس بن زهير العبسي الذي رحل إليها مع عمرو بن رواحة العبسي، وأسسوا مكاناً اسمه الجواء، لكن سكان عمان والخليج يطلقون على الجيم - ياءً - فتحولت من الجواء إلى اليواء .
وقرأت تعليقاً طريفاً للأستاذ / عبدالله بن عبدالعزيز القنيعير في العدد 100 من مجلة ( القصيم ) تحت عنوان ( عنترة .. إماراتي ) : ( بقدرة باحث .. وبجرة قلم انتقل الشاعر العبسي عنترة بن شداد من عيون الجواء .. في القصيم موطنه الثابت تاريخياً .. وسهوب محبوبته عبلة إلى ( اليوا ) الإماراتية التي رجح الباحث ( الهمام ) أنها الجواء التي ذكرها عنترة في شعره وحُرِّفت !! فمَنْ يدري .. ربما يطلع علينا غداً باحث آخر يقول : إن امرأ القيس من ( ليشنشتاين ) !! وزهير بن أبي سلمى من ( زيمببوي ) !! وعمرو بن كلثوم من الطوارق !! عجبي ) وبعد، فإنه لا جدال في موطن عنترة بن شداد العبسي الذي هو ( عيون الجواء ) بمنطقة القصيم ..!
2- في معلقة / زهير بن أبي سلمى :-
زهير بن أبي سلمى، وقد نظم معلقته وهي الثالثة في المعلقات على إثر الحرب التي دارت رحاها بين عبس وفزارة، بسبب السباق بين فرسين هما داحس والغبراء . وتبدو أغلب المواقع التي ذكرها في معلقته أنها واقعة في غرب القصيم وبالقرب من مدينة الرس حالياً ( وادي الرس )، ( جرثم ) وجرثم تعرف حالياً بالجرثمي، فقد قال في معلقته :-
تبصر خليلي هل ترى من ظعائن
= تحملن بالعلياء من فوق جرثم
بالنسبة للرس فهي المدينة المعروفة في منطقة القصيم، وهي المدينة رقم (3) بين مدن المنطقة . أما ( جرثم ) فهي الواقعة قرب ( الفوارة ) وإلى الغرب من القصيم . قال الشيخ / محمد بن ناصر العبودي في معجم بلاد القصيم ( 2- 717 ) : ( الجرثمي كان لبني أسد في وسط بلادها؛ إذ هو بين ترمس والقنان ( الموشم حالياً )، وكلاهما لبني أسد . أما غطفان فليس لها منازل في المنطقة القريبة من ( الجرثمي )، هذا في صدر الإسلام حسبما نعلم . قال / أوس بن حجر :-
كأنهم بين الشميط وصارة
و ( جرثم ) والسوبان خشب مصرع
فقرن ذكره بذكر صارة، وهو جبل لا يزال معروفاً باسمه القديم في ناحية الجواء لا يبعد عن الجرثمي إلا بحوالي ( 26كم )، ويقع إلى الجنوب الشرقي من ( الجرثمي ) وبالشميط، وهي قارة صغيرة واقعة في تلك المنطقة، تسمى الآن ( الشمطا )
أما / ياقوت الحموي - رحمه الله - فلم يزد على قوله : جُرْثُم : بالضم ثم السكون والثاء مضمومة مثلثة، والجرثومة في الأصل قرية النمل، ماء لبني أسد بين القنان وترمس، قال زهير :-
تبصر خليلي هل ترى من ظعائن
= تحملن بالعلياء من فوق جرثم
أقول : الذي يذهب إلى الرس كما ذهبت ظعائن زهير يأتي إلى الغرب من جرثم ويجعل القنان ( الموشم حالياً ) عن يمينه بالضبط . م / عبدالعزيز السحيبانى منقول من ورّاق الجزيرة مع خالص التحية وأطيب الأمنيات وأنتم سالمون وغانمون والسلام .
[size=4][align=center]يقول أبو زيد الهلالي سلامه = أدعى سو بقعاء مقدم الراس شايب
أخاطر بعمري في ذرى كل هيه = مر (ن) سلامات (ن) ومر (ن) مصايب
الإجهاد عدّى اللايمات عن الفتى = والأرزاق ما تأتي الفتى بالغصايب
إنا لقوم أبت أخلاقنا شرفا = أن نبتدي بالأذى من ليس يؤذينا
قوم إذا خاصموا كانوا فراعنة = يوما وإن حكموا كانوا موازينا
تدرعوا العقل جلبابا فإن حميت = نار الوغى خلتهم فيها مجانينا
إن الزرازير لما قام قائمها = توهمت أنها صارت شواهينا
بيض صنائعنا خضر مرابعنا = سود وقائعنا حمر مواضينا