ناصر الفراعنة والفضاءات الأسطورية
رؤية : زياد عبد الكريم السالم
يقول بول ريكور : ( عندما يصطدم العقل بأسئلة كونية صعبة يجيب عنها بطريقة لاعقلانية فتأتي الإجابة مزيجا من الشعر والشفافية والتاريخ ) ولعل الشاعر المفاجئ ناصر الفراعنة يعقد عرسا سريا مع الشعر بمعزل عن المرايا التناظرية إذ يذهب بعيدا في إخراج الشعر من أماكنه المخبوءة واللا متوقعة – ما يعنيني هنا قصائده الفرعونية تحديدا أما قصائد المديح فلا شأن لي بها – هذا الشاعر المسكون بالفن والشياطين ذو طاقة خلاقة إذ اجترح جسارات لا تحصى مخلخلا الأنساق الشعرية المتواضع عليها ، تلك الأنساق المختومة باليقين والقياس والمنطق نسفها الفراعنة بفضاءاته الأسطورية يفتح ممكنات كثيرة أمام الشعر ،وفي منظوري فإن هذا ليس غريبا على شاعر يتمتع بكثافة المخيلة وتعدد مستويات التأويل في نصوصه ذات الأفق العجائبي ( اليتيمة نوت – شهلول هملول بردي – نمارق الجن – بلقيس – ناقتي يا ناقتي ) ما يميز الفراعنة أنه شاعر ذو مرجعيات واسعة ومتعددة لا تستطيع القبض عليه أو أن تضعه تحت نسق أو إطار أو في منظومة شعرية معينة. عالمه الشعري أشبه بالغابة المتشعبة التي تستعصي على الإحاطة الكلية ؛لذا فهو متمرد على الاستنساب لا ينفك يقوض لعبة التناسبات القارة في ذاكرة الجماعة .أليس الشعر خروجا عن المألوف والبنى الثابتة في تشكيلاتها المعهودة لنسيج الجماعة ؟
لقد أحسن الفراعنة نحات الدم الماهر والقوارير الممردة ، هذا الساحر الذي انفلت عنوة من عوالم ألف ليلة وليلة إنه سندباد البراري يجس زرقة الأماكن ليهرق علينا أحجاره الكريمة . شاعر بشرارات نادرة وريش غريب ، يتأبط ( رسالة الغفران) واقفا على الصراط هملا من العلامات والأسانيد ينتظر المعري ليعبرا المطهر الأخير. لقد أحدث ثورة خضراء في الفضاء المتحجر للشعر الشعبي ، حيث لم نكن ننتظر أحدا هناك ، إذ أن محاولات الحميدي الثقفي وإبراهيم السمحان وطلال حمزة كانت تقارب السطوح باللغة الشاعرية الناعمة والرومانسية ( لغة الأغاني المؤقتة ) التي لا تصمد طويلا أمام الشعر النبطي ذي اللهجة الراسخة والمتينة . غير أن ناصر الفراعنة استدرج البنية النبطية وطوق منظومة الشعر الشعبي بالفضاء الأسطوري القادر على زحزحة البنى التقليدية وإغراقها بالكامل . الفراعنة يطرح أسئلة جوهرية وجمالية محضة في فرعونياته ولقد أبهرتني كثيرا (قصيدة اليتيمة نوت ) وأرى أنه منح شرعية جمالية للقصيدة العمودية ، فهو يشتغل على الصورة والأبعاد البصرية والدرامية بلغة شعرية كثيفة ، هو شاعر الرؤية تباغتك في نصوصه مخلوقات غريبة وأعشاب وأحجار وحيوانات لم ترها من قبل. وفي مقام متعلق تابعت ما دار حول قصيدة (ناقتي يا ناقتي ) والمؤامرة القذرة بغرض تلفيق سرقة قصيدة ( الصنوبري ) وقد خبرت الشعر بكل مستوياته وآفاقه – بدون تواضع كاذب – وللأمانة الشعرية : ليس ثمة علاقة بين ناصر وقصيدة الصنوبري ، فالمعاني مختلفة جذريا وبناء الأبيات في كلتا القصيدتين يعطينا دليلا قاطعا ووثوقيا أن ناصر أجمل وأرفع من هذه التهمة الصغيرة.
أما مسألة الأسماء التاريخية ( طسم وجديس – البسوس – لميس – دختنوس ) فهي مطروحة على الطريق وليست مقصورة على شاعر ما وليس لأحد حق الوصاية عليها .لكن المفارقة الواضحة والجلية لمن يتقصى أسرار الشعر هي أن قصيدة الفراعنة زاخرة بالجماليات كما أن مقارباتها واسعة وعميقة تسكنها طاقة مجازية لا تخوم لها ، فيما قصيدة الصنوبري كانت بؤرتها الإشعاعية أقل توهجا إن لم نقل منطفئة.
أخيرا أتمنى على هذا الشاعر الاستثنائي أن يطرح أسئلة نوعية حول تجربته المتفردة كي يكون شاعرا كونيا يحطم مسار الدلالات القديمة.
ولعل ديوان ( مفرد بصيغة الجمع ) لأدونيس وكتاب ( الكوميديا ) لدانتي دليلان ضروريان للشاعر القابض على الجمر كي يدمر كل دليل.