[بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه اما بعد :
فقد ورث لنا سلفنا الصالح كنوز ومن ذلك مصنف ابو بكر عبد الله بن ابي شيبة وهو مصنف عظيم دون فيه بن ابي شيبة فقه السلف واقوالهم واعمالهم الجليلة وبلغ عدد آثار هذا المصنف العظيم (37943 ).
وضم هذا المصنف آثارا عزيزة لا تجدها في مكان آخر ومنها ما رواه بن ابي شيبة في فضل اربع ركعات بعد العشاء فقال ابو بكر بن ابي شيبة في مصنفه (7273 ) حدثنا بن إدريس عن حصين عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال:" من صلى أربعا بعد العشاء كن كقدرهن من ليلة القدر".
قلت : وهذا اسناد صحيح جدا وهو على شرط الشيخين وهو وإن كان موقوفا لكن حكمه حكم المرفوع لانه لا يقال بالرأي والاجتهاد وانما بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال بن ابي شيبة في مصنفه ايضا (7274) حدثنا محمد بن فضيل عن العلاء بن المسيب عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عائشة قالت :" أربع بعد العشاء يعدلن بمثلهن من ليلة القدر"
قلت :اسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم.
وقال بن ابي شيبة (7275) حدثنا وكيع عن عبد الجبار بن عباس عن قيس بن وهب عن مرة عن عبد الله قال:" من صلى أربعا بعد العشاء لا يفصل بينهن بتسليم عدلن بمثلهن من ليلة القدر".
قلت : وهذا سند صحيح الى عبد الله بن مسعود وحكمه حكم المرفوع وهو نص على انها تصلى بتسليمة واحدة.
ثم اخرج بن ابي شيبة هذا الحديث عن بعض التابعين وهم كعب الأحبار ومجاهد وعبد الرحمن بن الأسود والاسانيد اليهم صحيحة.
فان قيل ان هذه الاثار موقوفة وليست مرفوعة الى النبي صلى الله عليه وسلم فيقال انها في حكم المرفوع كما تقدم يقول الحافظ بن حجر في كتابه نُزْهَةِ النَّظَر في تَوْضِيحِ نُخْبَةِ الفِكَر )ص21) : (ومثالُ المرفوعِ مِن القولِ حُكْماً لا تَصْريحاً : أَنْ يقولَ الصَّحابيُّ - الَّذي لم يأْخُذْ عَنِ الإِسرائيليَّاتِ - ما لا مجالَ للاجْتِهادِ فيهِ ، ولا لهُ تعلُّقٌ ببيانِ لُغةٍ أَو شرحِ غريبٍ ؛ كالإِخْبارِ عنِ الأمورِ الماضيةِ مِن بدْءِ الخَلْقِ وأَخْبارِ الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام ، أَو الآتيةِ كالملاحمِ والفِتَنِ وأَحوالِ يومِ القيامةِ وكذا الإِخْبارُ عمَّا يحْصُلُ بفِعْلِهِ ثوابٌ مَخْصوصٌ أَو عِقابٌ مَخْصوصٌ).
على ان هذه السنة قد عمل بها بعض كبار ائمة السلف فقد قال امام اهل خراسان محمد بن نصر المروزي في كتابه تعظيم قدر الصلاة (114) حدثنا يحيى ثنا عباد بن العوام عن حصين عن القاسم بن أبي أيوب قال كان سعيد بن جبير يصلي بعد العشاء الآخرة أربع ركعات فأكلمه وأنا معه في البيت فما يراجعني الكلام
قلت : هذا اسناد صحيح الى سعيد بن جبير وهو أجلّ اصحاب عبد الله بن عباس. وهذا الاثر رواه محمد بن نصر المروزي ايضا في كتابه قيام الليل محتجا به على مشروعية الاربع ركعات بعد العشاء. وصح عند بن ابي شيبة (6684) ان القاسم بن أبي أيوب كان يصليها ايضا كيف لا وشيخه سعيد بن جبير كان يصليها.
وروي ايضا عن الخليفة الراشد علي بن ابي طالب رضي الله عنه انه كان يعمل بها فقال الامام بن ابي شيبة في مصنفه (5969) - حدثنا أبو الأحوص عن عطاء بن السائب عن ميسرة وزاذان قالا كان علي يصلي من التطوع أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب واربعا بعد العشاء وركعتين قبل الفجر
قلت :وهذا اسناد رجاله ثقات لكن عطاء بن السائب كان قد اختلط وساء حفظه في آخر عمره وابو الاحوص روى عنه بعد اختلاطه ولولا ذلك لكان الاسناد صحيحا.
فصل: ماذا يقرأ في هذه الأربع ركعات؟
قال الشيخ الالباني في السلسلة الضعيفة (5060) :- (وروي الحديث بلفظ :
"من صلى أربع ركعات خلف العشاء الآخرة ، قرأ في الركعتين الأوليين : (قل يا أيها الكافرون) ، و (قل هو الله أحد) ، وفي الأخريين : (تبارك الذي بيده الملك) و (آلم تنزيل) ؛ كتبن له كأربع ركعات من ليلة القدر" .
أخرجه ابن نصر في "قيام الليل" (ص 60 - المكتبة الأثرية) من طريق أبي فروة عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً .
قلت : أبو فروة ؛ اسمه يزيد بن سنان بن يزيد الجزري الرهاوي .
وهو ضعيف ، وتركه النسائي . ومن طريقه أخرجه الطبراني في "الكبير").
قلت : فالحديث المذكور ضعيف وفيه نكارة ولا يصح في تعيين القراءة في هذه الأربع ركعات شئ والصواب أنه يقرأ فيها ما تيسر من القرآن والسنة إطالة القراءة في الركعة الأولى أكثر من الثانية وجعل القراءة في الأخريين أقصر من الأوليين.
فصل: هل يجلس في هذه الاربع للتشهد الاول؟
الجواب انه يجلس للتشهد الاول لان هذا هو الاصل في الصلاة الرباعية ومما يقوي هذا القول ان بن ابي شيبة قال في مصنفه (5945) حدثنا عباد بن العوام عن حصين عن إبراهيم قال قال عبد الله:" أربع قبل الظهر لا يسلم بينهن إلا أن يتشهد".
قلت :اسناد صحيح رجاله رجال الشيخين ومراسيل ابراهيم بن يزيد النخعي عن بن مسعود صحاح كما تقرر عند اهل الحديث وصحح جماعة من الأئمة مراسيل إبراهيم وخص ذلك البيهقي بما أرسله عن ابن مسعود كما في " مراسيل العلائي " ( 168 ) وأقره الحافظ في " التهذيب ".وهذا الذي اعتمده الشيخ الالباني في مؤلفاته.
قلت : فما دام ثبت ان سنة الظهر القبلية تصلى بتشهدين وبسلام واحد فسنة العشاء البعدية كذلك تكون ومن ادعى الفرق فعليه بالدليل ودون ذلك خرط القتاد.
ثم وجدت دليلا قاطعا على انها بتشهدين فقال النسائي في "سننه" 4955 - أخبرنا عبد الحميد بن محمد قال حدثنا مخلد قال حدثنا بن جريج عن عطاء عن ايمن مولى بن عمر عن تبيع عن كعب
"من توضأ فأحسن وضوءه ، ثم شهد صلاة العتمة في جماعة ، ثم صلى إليها [أربعاً مثلها] ، يقرأ فيها ، ويتم ركوعها وسجودها ؛ كان له من الأجر مثل ليلة القدر ".
قال الشيخ الالباني في السلسلة الضعيفة تحت حديث رقم (5053): "وهذا إسناد لا بأس به ؛ إن كان أيمن هذا هو ابن عبيد الحبشي ".
قلت : رضي الله عنك ايمن هذا هو والد عبد الواحد بن ايمن وكلاهما من رجال البخاري وليس هو ابن عبيد الحبشي فصح بذلك هذا الأثر عن كعب بن ماتع المشهور بكعب الأحبار وهو من كبار التابعين ادرك حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم في زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه والدليل على ما ذكرت ان هذا الاثر رواه الامام بن ابي شيبة في مصنفه (7276)- حدثنا وكيع عن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه عن تبيع عن كعب بن ماتع قال من صلى أربعا بعد العشاء يحسن فيهن الركوع والسجود عدلن مثلهن من ليلة القدر
قلت: وهذا اسناد جيد رجاله رجال البخاري غير تبيع بن أمراة كعب الأحبار وهو صدوق كما قال الحافظ بن حجر في تقريب التهذيب (794) وايمن هو بن نابل الحبشي المكي وليس هو ايمن بن عبيد الحبشي وهو بن ام ايمن قال أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في تاريخه حَدَّثَنَا ابْنُ أَيُّوب ، عَنْ إِبْرَاهِيْم ، عَنِ ابنِ إِسْحَاقَ ؛ قال : أَيْمَنُ بن عُبَيْدِ هُوَ أَيْمَنُ بن أُمِّ أَيْمَن رضي الله عنها).اسناده صحيح الى محمد بن اسحاق بن يسار صاحب السيرة.
واشار البخاري رحمه الله في كتابه التاريخ الكبير ان راوي هذا الأثر هو ايمن المكي فقال في ترجمة الحبشي والد عبد الواحد بن ايمن (1573):
"وقال عبد الملك عن عطاء عن أيمن عن تبيع عن كعب بحديث آخر".
قال البيهقي في سننه الكبرى بعد ان روى هذا الأثر (8/258):
"وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِىُّ فِى التَّارِيخِ".
فصل: ايها أفضل ان تصلى هذه الاربع في المسجد ام في البيت ؟
لا شك ان أداء النوافل في البيت افضل لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
عليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ) . رواه مسلم
وقد قال بن ابي شيبة في مصنفه (6455)- حدثنا وكيع عن سفيان عن منصور عن هلال بن يساف عن ضمرة بن حبيب عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قال تطوع الرجل في بيته يزيد على تطوعه عند الناس كفضل صلاة الرجل في جماعة على صلاته وحده
قال : الشيخ الالباني في السلسلة الصحيحة (3149): وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات رجال مسلم؛ غير ضمرة هذا، وهو الزُّبَيدِي الحمصي، وهو تابعي ثقة، وظاهر إسناده الوقف، ولكنه في حكم المرفوع ؛ لأنه لا يقال بالرأي والاجتهاد؛ كما هو بَيِّن لا يخفى على العلماء).
واما ما رواه الطبراني في المعجم الكبير (5239) من حديث بن عمر مرفوعا: ( من صلى العشاء في جماعة ، وصلى أربع ركعات قبل أن يخرج من المسجد ؛ كان كعدل ليلة القدر ).
فهو ضعيف ضعفه الشيخ الالباني في السلسة الضعيفة (5060) وضعفه ايضا الحافظ العراقي والحافظ الهيثمي.
وعلى فرض ثبوت هذا الحديث فذلك من باب اثبات الأجر لمن صلاها في المسجد وان كان أداؤها في البيت أفضل لكنه ضعيف كما عرفت.
فصل: اقوال بعض اهل العلم في سنة العشاء البعدية:-
قال الشيخ الالباني رحمه الله في السلسلة الضعيفة تحت حديث رقم (5060) :
( لكن الحديث قد صح موقوفاً عن جمع من الصحابة ؛ دون قوله : "قبل أن يخرج من المسجد" ؛ فأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف (2/ 72/ 1) " ، وابن نصر أيضاً عن عبد الله بن عمرو قال :
من صلى بعد العشاء الآخرة أربع ركعات؛ كن كعدلهن من ليلة القدر .
قلت : وإسناده صحيح .
ثم أخرج ابن أبي شيبة مثله عن عائشة ، وابن مسعود ، وكعب بن ماتع ، ومجاهد ، وعبد الرحمن بن الأسود موقوفاً عليهم .
والأسانيد إليهم كلهم صحيحة - باستثناء كعب - ، وهي وإن كانت موقوفة ؛ فلها حكم الرفع ؛ لأنها لا تقال بالرأي ؛ كما هو ظاهر )ا.ه
قلت : تقدم ان اثر كعب بن ماتع المعروف بكعب الاحبار صح ايضا.
وقال السرخسي في المبسوط (1/157): -
( واما التطوع بعد العشاء فركعتان فيما روينا من الآثار و إن صلى أربعا فهو أفضل لحديث " ابن عمر " رضي الله تعالى عنه موقوفا عليه و مرفوعا من صلى بعد العشاء أربع ركعات كن له كمثلهن من ليلة القدر).
وقال برهان الدين بن مازه في المحيط البرهاني (1/445)-:
( والتطوع بعدها ركعتان كما روى عمر وعائشة رضي الله عنهما، وإن تطوع بأربع بعدها، فهو أفضل لحديث ابن عمر رضي الله عنهما موقوفاً عليه ومرفوعاً إلى رسول الله عليه السلام «من صلى بعد العشاء أربع ركعات كن كمثلهن من ليلة القدر).
وسئل الشيخ بن باز كما في مجلة البحوث الاسلامية (46/197) ما هي فضيلة أربع ركعات بعد العشاء؟
فاجاب رحمه الله:( الراتبة ركعتان، وإن صلى أربع ركعات فلا بأس، فقد جاء في الحديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي أربعاً قبل أن ينام " وإذا فعلها الإنسان فلا بأس، وإن اقتصر على ركعتين فهي الراتبة، والراتبة التي كان يحافظ عليها: بعد العشاء ركعتان، ثم ينام، ويقوم في آخر الليل يتهجد عليه الصلاة والسلام).
قلت : يشير الشيخ بن باز الى ما رواه البخاري وأبو داود والنسائي وبن نصر المروزي من حديث ابن عباس قال: (بت في بيت خالتي ميمونة ) الحديث . وفيه : ( فصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم العشاء ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات ثم نام ... ) قال الحافظ بن حجر في فتح الباري (484/2) :-" وَقَدْ حَمَلَ مُحَمَّد بْن نَصْر هَذِهِ الْأَرْبَع عَلَى أَنَّهَا سُنَّة الْعِشَاء لِكَوْنِهَا وَقَعَتْ قَبْل النَّوْم".
وختاما اقول: على أهل السنة العمل بهذه السنة بلا تردد لينالوا ثوابها العظيم، وأوصيهم بالتلطف في تبليغها و تطبيقها فإن الناس أعداء لما جهلوا ، و لاسيما أهل الأهواء و البدع منهم لستن بهم من شاء الله ان يعمل بهذه السنة مذكرا إياهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم
"من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" رواه مسلم
وهذا آخر ما وفق الله تبارك وتعالى في جمع هذه الرسالة والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
وأسأل الله تعالى أن يجعل هذه الرسالة خالصة لوجهه وسببا لنيل مرضاته والفوز بجناته إنه خير مسؤول
و صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الموصل 7 ربيع الاول سنة 1432 هـ
وكتبه عمر ابراهيم السلفي