رد : رسائل الأنس مع القرآن الكريم مع الآية 177 من سورة البقرة بقلم المختار العروسي ال
كُتب : [ 21 - 06 - 2008 ]
.../... تابع الآية 177 من سورة البقرة
قال الله تعالى : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)}آل عمران.
سارعوا: (س=سر×ز/ المسافة تساوي حاصل السرعة ضرب الزمن )، فالوقت (الزمن) محدود لما يقضى من عمر الإنسان (ثابت)، والسرعة في مدى تحقيق الموجود و المتاح.
قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}البقرة، وفق دلالات و شروط وقوانين التكليف، و المسافة متعلقة بالسرعة إذ من هذا تعبر (المسافة) عن حاصل العمل ومنه، فوحدة قياس ما يقضى من عمر الإنسان هي العمل (و الجزاء من جنس العمل ) و يكون هذا في علاقة الإنسان بالله لا في علاقة الإنسان بالأشياء، فلا نحاسب عن الوقت الذي قضيناه من أعمارنا بل بما قدمناه من أعمالنا. و حاصله يكون له الأثر الظاهر في ما انعكس عليه ( على الإنسان) وهو الحال.
قال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: (من شهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد اللَّه ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة والنار حق، أدخله اللَّه الجنة على ما كان من العمل) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
ومن هذا نخلص إلى نتيجة أن المسلم يقيس ما يقضي من عمره بما قدمه من عمل و الحاصل ينعكس على الإنسان حالا. وعلى هذا يكون الجزاء في الدنيا و الآخرة. فبناء علاقة الإنسان بنفسه لا تكون إلا من معرفة الحقيقة الخلقية المتعلقة بالأداء الوظيفي المتمثل في قوله تعالى:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} الذاريات
حتى تنعكس حالا تحمل الطمأنينة والسكن والاستقرار وتحقيق الاستخلاف في الأرض وفق الإرادة الإلهية. وأما إنكار اليهود لتولي قبلة جديدة راجع لتعلقهم بالمكان وليس بخالق المكان، وكذا يبين الله تعالى أن العلاقة بالزمان هي علاقة عمل صالح لا علاقة إتيان الهوى والشذوذ عن الفطرة.
وفي هذا الجزء من الآية { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} كان توظيف أركان الإيمان توظيفا عمليا مع بيان حقيقتها الروحية المتعلقة بالغيب، والغيب هنا هو غيب يرفع العقل ليتجاوز به الإنسان حدود الزمان والمكان وحتى ذاته ليرتقي بنفسه إلى بناء علاقة بالله، ففيها ممارسة الانطلاق من الذات للوصول إلى معرفة الله تعالى حق المعرفة، وإدراك أن الخلق هو خلق الله تعطي صورة أننا نعرف الله بالله بدلالات الخلق. الصنعة دالة على الصانع. ثم ينتقل بنا الله تعالى إلى أهم قوانين الاجتماع المتمثلة في إطار تبادل المصالح الدنيوية، مع أن لا تخرج عن إخلاص النية لله، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) } البينة. وعَنْ عمر بن الخطاب رَضيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. فمَنْ كانت هجرته إِلَى اللَّه ورسوله فهجرته إِلَى اللَّه ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إِلَى ما هاجر إليه) متفق عَلَى صحته.
عَنْ عائشة رَضيَ اللَّه عَنْها قَالَت قَالَ النبي صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا) مُتّفَقٌ عَلَيْهِ.
عَنْ أبي العباس عبد اللَّه بن عباس بن عبد المطلب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فيما يروى عَنْ ربه تَبَارَك وَتَعَالَى قال: (إن اللَّه تعالى كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها اللَّه تعالى عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها اللَّه عشر حسنات إِلَى سبعمائة ضعف إِلَى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها اللَّه عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها اللَّه سيئة واحدة) مُتَّفّقٌ عَلَيْهِ.
و فيه إنما مظهر عمل الإنسان ما كان مطابقا لـمَخبره من إبراز الممارسة لنمط الفكر الحاصل مما هو مكتسب، يبين الإتباع لنظام فيه الجزاء متوقف على مدى الامتثال في العمل بالتشريعات. فالنية لا تكون إلا بتوفر القيم العملية والأخلاقية المضبوطة بالقوانين الشرعية، كأصول تفكيرية، و محاولة ترتيب المعطيات الموجودة والمتاحة وفق قوانين التشريع (الشارع الحكيم)حتى يكون للقيم واقع حاصل في الحال يبين طبيعة التشريع على مستوى الفكر و النظام و الممارسة. فالنية تعبر عن الصدق المخبري فينا وإرادة محاولة تحقيقه على أرض الواقع.وهكذا تكون النية. ومن هذا كله فطلب رضا الله مصلحة تحقيقها دنيوي لما تعلقت به من أمر الله ونهيه للوصول إلى الجزاء الحسن إن شاء الله تعالى. وهذه القوانين هي قوانين عملية، ولذلك كان قول الله تعالى:{ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ}فاللفظ آتى دال على الإتيان أي العمل لتحقيق غاية فما هو الإتيان في هذا الموضع؟ وهو القيام بالعمل طوعا من غير قهر ولا إرغام ابتغاء أجر معلوم.وفق القوانين المنصوص عليها كما أخذ معنى الإنفاق، وماذا ينفق؟ ينفق المال، ولماذا المال؟ لأنه يعبر عن التجهيز الحياتي فهو أحد أركان قيام الفرد و الجماعة، و المالُ هو ما مَلَكْتَه من كلِّ شيءٍ،وللملاحظة فإن الجزء الأول من الآية في قوله تعالى:{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} فيه بيان لما وجب من علاقة بالنفس في ما تعلق بالجانب الإيماني، فهي تمثل خطاب للفرد في كيفية بناء تصوره من خلال ما اكتسب من قناعات ومدى ترسيخها لتصير مسلمات فكرية، ومنبع عملي في عملية الأداء. ثم إن الجزء الثاني من الآية والمتمثل في قوله تعالى:{ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} وكأنه تعالى يبين لنا كيفية بناء علاقة بالغير ودائما وفق أحكام الشارع الحكيم من غير تحديد ولا توضيح لطبيعة اعتقاد الآخر، بمعنى بيان لحقيقة الأخوة بشقيها أخوة في الدين و أخوة في الإنسانية، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير ؟ قال: ( تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ) صحيح البخاري عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تبسمك في وجه أخيك صدقة لك وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة وإرشادك الرجل في أرض الضلالة لك صدقة وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة ) صحيح ابن حبان
وفي بيان هذه العلاقة بالآخر إرشاد منه تعالى لنا بأسلوب دعوي عملي المتمثل في الإنفاق فالدعوة إلى الله ليست كلمة مجردة من العمل بل هي ذلك التطابق التام بين الكلمة والعمل بمراعاة الجانب الإنساني من غير خروج عن توصيات الأمر والنهي. وهنا تكمن عالمية الرسالة من غير إكراه أو إرغام فنح لا نمارس العولمة التي يحاول متبنيها فرض نمط معين في الفكر والنظام والممارسة، في حين أن عالمية الرسالة هي إثبات علمي عملي للحق، وبمعنى آخر العولمة مفهوم وجد منذ القدم وهو حال طبيعية لوجود غريزة الهيمنة، والهيمنة الغربية في ظاهرها موجودة مؤسسة على علمانية مبتورة، وحقيقة الممارسة الغربية بكليتها مؤسسة على مرجعية دينية ذات خطاب ثقافي يحمل مفاهيم قديمة المدلول بصياغة لفظية حديثة تَحُد من صوابية مفاهيم غيرها، قال تعالى : { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120)} البقرة وذلك من خلال إبراز التعامل العدائي في ممارسة غيرها مع حقوق الإنسان والطبيعة و... وإخراج الأحداث عن طبيعتها لإبراز الانحراف ـ على زعمهم ـ عن قوانين الاجتماع البشرية و الإنسانية. والهيمنة تعتمد أساسا على معرفة الـمُريد الهيمنة بحال الضعف والوهن الحاصل في جزئيات وكليات الـمُراد الهيمنة عليه.ويا للأسف فنحن نعيش اليوم فقدان الذات الحاصل من مُراعاتنا لحكم الآخر الصادر فينا وعلينا حتى أفقدنا الفرد والجماعة. في حين أن عالمية الرسالة : هي خلق توازنات للفرد وبين الجماعات. وبالنسبة للدول التوازنات الداخلية والخارجية، وفق قيم وقوانين مضبوطة مُلزمة لا تتعدى مقتضيات المحاور السبعة: الله، الوطن، الإنسان، الحرية، الأخلاق، العلم، العمل.
قال تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)}النمل.
وقال تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)}البقرة.
ونخلص من هذا إلى كيفية بناء علاقة بالآخر وفق المبادئ الإسلامية الحنيفة التي تسمو بالإنسان إلى أعلى وأرقى مراتب التحضر.
|